نيتشه برواية لو سالومي

سالومي تؤكدُ بأنَّ كل ما نشرَ عن صديقها الفيلسوف لا يفيدُ لفهم فرادة عقله.
حياة نيتشه الفكرية هي امتداد لسيرته الحياتية
سحرت سالومي عدداً من المفكرين البارزين

الكائن الأسمى لدى نيتشه هو من يتحملُ مشقة عملية التحرر، ويعلنُ الحربَ على القناعات التي برأيه هي أعداء الحقيقة وأشدً خطورةً من الكذبِ. إذاً فإنَّ فحوى الرسالة التي كتبها لسالومي "على المرء أن يواجه عناء إنعتاقه من أغلاله هو، وأخيراً على المرء أن ينعتقَ من ذلك الإنعتاق أيضاً" يعكسُ ما يصبو إليه نيتشه من التفوق على نفسه والذهاب بعيداً عن مُثله الأمر الذي يفسرُ التباين في أفكاره باختلاف المراحل التي عاشها بكل صخب وجودي وعنفوان معرفي. 
والمبدأُ الأساسي في حياة مؤلف "أفول الأصنام" هو تفكيك المفاهيم الفلسفية القارة، لذلك لا يصحُ الإستغراب من مواقفه المتناقضة حول الشخصيات التي صاحبها أو كانت بمثابة بارادايم بالنسبة له، ومن ثمَّ انقلبَ عليها إذ أن تكوينه العقلي يتميزُ بصفة الجدلية والنزوع إلى الخطاب السجالي، فهو يصفُ منهجه لافتاً إلى أنَّ "هذا المفكر ليس في حاجة إلى من يدحضهُ ويفندهُ، فهو يفعل ذلك بنفسه ببراعة متناهية" ما يعني أنَّ التفكير هو وجه آخر للتقويض والنقد.
واللافتُ في هذا السياق أنَّ حياة نيتشه الفكرية هي امتداد لسيرته الحياتية، وما عاناهُ من الأمراض الجسدية المنهكة تمخضت عنه التحولات في الرؤية، إذ نجحَ في تحويل مكابداته إلى الذهب، فبالتالي أصبح صائغاً من المعاناة أفكاره عليه قد زادته المشكلات الصحية وحدةً إلى أنْ لم يرافق هذا المسافر في أكثر أيام حياته صعوبة سوى ظله. لذا يقول نيتشه: لعلي أعرف أفضل من أي شخص آخر لماذا يضحك المرءُ لوحده؟ فهو يعاني لوحده بعمق يضطره لإختراع الضحك. لكن تلك الوحدة بدلاً من أن تسبب له الأرق، وفرت له فرصة للتعمق في الذات والإستبطان في عالمه الفكري. 
إذاً رحبَ نيتشه بالتحديات ومارس الحياة باعتبارها خيارا فلسفياً، وكان نمط معيشته ملهماً له بالمفردات والصياغات الفلسفية. وقد أشار سبينوزا إلى أنَّ فكر الفلاسفة الكبار يحملُ ختم حساسيتهم الجسدية حسب ما يذكر ذلك فريدريك لونوار الأمر الذي أدركتهُ لوسالومي أيضاً فهي تسردُ سيرة نيتشه الفكرية في كتابها "نيتشه سيرة فكرية" بموازاة رصدها لصورة حياته الباطنية .

حين أكون لوحدي فإني كثيرا وكثيراً جداً ما أقول اسمك بصوت عالٍ مما يبعثُ فيَّ بهجة عظيمة للغاية

إعتراف ذاتي
لا يمكنُ فهمَ فلسفة نيتشه وفتوحاته المعرفية على وجه أكمل إلا بوصفها حالةً محايثة لوقائع حياته الشخصية، وبدورها تتابعُ لوسالومي مسيرة صديقها الفكرية وفق هذا المنهج مشيرة إلى أنَّ الإلتحام القائم بين العمل الفكري الخارجي والحياة الجوانية يبدو أكثرَ وضوحاً في شخصية نيتشه. فضلاً عن ذلك فإنَّ ما يسوغُ مقاربة فيلسوف الريبة على هذا المنوال هو اهتمام الأخير بالعنصر الشخصي في المنظومات الفلسفية، إذ تستعيد سالومي في هذا الإطار ما ذكره نيتشه في مقاله عن الفلسفة الإغريقية "في النظم الفلسفية التي دحضت ثمة شيء لا يمكن دحضه أبداً. هذا الشيء هو العنصر الشخصي الذي لا يزال بإمكاننا الإهتمام به وحده. 
ما يتعذرُ بطلانه بنظر نيتشه هو الشخص الذي يقفُ وراء الأفكار الفلسفية. تؤكدُ سالومي بأنَّ كل ما نشرَ عن صديقها لا يفيدُ لفهم فرادة عقله وظل جوهرُ فلسفته مجهولاً كما انتزعت العديد من أفكاره في سياقها، وتم تطويعها في مناوشات بين  تيارات متنازعة لا تمت إليه بصلة . تزايدَ أنصار نيتشه غير أنَّ ذلك لم يخفف لديه الشعور بالإغتراب، فبالتالي تعمقت عزلة الفليسوف الذي تصفهُ سالومي بالمعقد والمتحفظ إلى أن يقف على حافة الجنون. 
لا تفوتُ المؤلفة الإشارة إلى بدايات نيتشه ونشأته في بيت مسكون بالتدين لأنَّ والده كان راعياً لأبرشية في مدينة روكن ومن ثمَّ تلقى نيتشه تعليمه من ثانوية شلبفورتا ودرس تالياً الفيلولوجيا في جامعة بون، وتتلمذ هناك على يد ريتشل، وفي هذه المرحلة يلتقي بفاغنر ولن يكون ذلك حدثاً عابراً بل يؤسس للصداقة بين الإثنين.
اكتسب الطالب البالغ من العمر أربعا وعشرين سنة إعجاب الوسط الجامعي وتلقى عرضاً لشغل كرسي الإستاذية حتى قبل أن يكمل الدراسة. يشار إلى أنَّ نيتشه قد أظهر نبوغه في تعلم اللغات العبرية واللاتينية واليونانية عندما كان تلميذاً في المدرسة الكاتدرائية.
ويهم سالومي الإلتفات إلى مظهر نيتشه وملامحه وتمتعه بإختيار شكل ملبسه، فكانت عيناه حسب رواية "لو" خلتا من أي نزعة فضولية أو إجفال، وأبان سلوكه عن الميل نحو الإنطواء، والعزلة. وما تقوله سالومي بشأن محادثتها الأولى مع نيتشه في 1882 ومفاجأتها بهيأته الأنيقة وعدم تمكنه من التستر وراء المظهر لمدة طويلة، ينمُ عن حدة ذكائها والإنفكاك من إملاءات الإنطباع الأول إذ تعطفُ على إستعادة هذا الموقف بمقتبس من كتاب "الفجر" (لنا أن نتساءل بخصوص كل ما يظهره إنسان للعيان، ما الذي يخفيه؟ هل ثمة ما يرغب في صرف الإنظار عنه؟) موضحة أنَّ كل ما يسمى بالحقيقية الموضوعية ليست إلا قناعاً سطحياً أو مظهراً خادعاً من صنيع ما يعتملُ في الإعماق المعزولة. طبعاً هذا ليس تفسيراً بقدر ما هو قراءةُ نفسية لشخصية الفيلسوف بناءً على معاينة مظهره مع التأمل في دلالة شذراته المسبوكة بحس أستاذ الفيلولوجيا، وما قدمهُ نيتشه في طيات كتبه يؤكدُ تبصره بإلتفاف السلوكيات المُخادعة ومعرفته بمناورات الغلاف النفسي، وهذا ما يتجلى في المقطع المأخوذ من "الجوال وظله" إذ يقول "الرثاثة هي القناع الأكثر سعادة الذي يمكن للمتأمل أن يضعه لأنَّ بسطاء الناس أو الأكثرية الساحقة الرثة لن يفكروا قط أنه قناع"". وبذلك يتوغلُ صاحب "هذا هو الإنسان" في دروب معتمة كاشفاً حقيقة المكائد، ولم يكنْ مبالغاً حين وصف نفسه بعبوة ديناميت لأنَّه فعلاً وضع بتفجره البركاني القيم الأخلاقية والمفاهيم الفلسفية أمام المحك.
التكامل
تتخذُ سالومي في تدوينها لسيرة نيتشه آلية تكاملية إذ تبحثُ في مظان مؤلفاته ما يجلي ضبابية عن مواقفه، كما تحفرُ في طبقات شخصيته بدءاً من الطفولة مروراً بصداقاته إلى أن يصوغ نظرية العود الأبدي وميلاد زرادشت، وما أعقبه من تأليف "أفول الأصنام" لفتح مزيدٍ من المنافذ على فلسفته. 

philosophy
 ما يغيبُ في الكتاب هو إنجراف نيتشه العاطفي نحو لو

تعتقدُ سالومي بأنه من الضرورة التعامل مع منطق نيتشه وأخلاقياته وجمالياته بإعتبارها لبنات لتأسيس فكرة العودة الأبدي التي ومضت في شكل حدسٍ وتخمين في إفتراضه بشأن المستقبل "لنفترض أنَّ شيطاناً تسلل يوماً أو ليلةً إلى داخل وحدتك الأكثر قتامةً وقال لك هذه الحياة مثلما تحياها الآن ومثلما حييتها سيتوجب عليك أن تحياها مرة أخرى". والمرادُ من هذه المساعي التأملية كان تأله الحياة وهذا ما يسدُ الفراغ الذي خلفه الغياب الميتافيزيقي.
تشيرُ سالومي إلي رغبة نيتشه لتكريس عشر سنوات لدراسة العلوم الطبية لرفد نظريته حول العود الأبدي لكن الأمور لم تنتظم كما يتطلبها مشروع نيتشه لذا بقيت فكرة العود الأبدي باهتة برأي سالومي. سبق لنيشته أن لمح إلى موضوع العود الأبدي مستلهماً المبدأَ من الفيثاغوريين قبل أن يقدمه في صيغة واضحة والأغرب هو ما لاحظته سالومي من الخوف الذي كان يشي به وجه نيتشه عندما أسرَّ إليها بسره، وهذا ليس كل ما يضمه كتابُ سالومي عن نيتشه بل تناولت صراعه مع المرض وفكرته عن الإنهيار عبر الفائض الذي يسبق الخلق الجديد كأنَّ عبارة أدونيس "جاء العصف الجميل ولم يأتِ الخراب الجميل" مستوحاة من صميم الفلسفة النيشتوية.
ما برح نيتشه يصدمُ بآرائه العقليات المثقلة بالقيود الموروثة فهو يقول "إنَّ الثقة في أحاسيسك يعني تقديم فروض الطاعة لأجدادك وأسلافهم أكثر من الآلهة الموجودة في داخلنا". يدور مفصلُ آخر من الكتاب حول تأرجح ثقة نيتشه بين العلم والغريزة إذ تصالح مع المدرسة النفعية الأنكليزية التي نسبت أصل أحكام القيمة والظواهر الأخلاقية إلى المنفعة والعرف لفترةٍ، كما تأثر بآراء صديقه بول ريه. 
يختصرُ مضمون هذا المقطع شكل علاقة نيتشه مع الأفكار "لن نسمحَ أن تحرق أنفسنا من أجل آرائنا لأننا لسنا واثقين كل ثقة منها". ولا تعقل محاكمة صاحب هذه المقولة الآنفة الذكر على إنسلاخه من جلده لأنَّه كما تقولُ سالومي كان دائم التجدد والإكتشاف للجديد لا يترددُ من النزول تحت ركام المتراكم.
"عندما تبزغُ فكرة في الأفق تكون درجة حرارة النفس منخفضة جدا في العادة في المقابل ترتفع درجة حرارة الفكرة شيئاً فشيئاً حتى تبلغ الذروة عندما يكون الإيمان بها يجنح نحو الأفول".
لغز سالومي
تمكنتَ لو سالومي من تقديم أركان فلسفة نيتشه وتغطية المراحل التي نشرَ فيها مؤلفاته، وذلك كان متزامناً مع تقلباته الصحية والمزاجية غير أن ما يغيبُ في الكتاب هو إنجراف نيتشه العاطفي نحو لو، ومرد هذا قد يكون الإهتمام بالمسعى الفكري لصاحب "هكذا تكلم زرادشت". 
عدا نيتشه، سحرت سالومي عدداً من المفكرين البارزين. يذكر أنَّ الصدمة التي عاشتها وهي مراهقة جراء تعرضها للإغتضاب أورث لديها الشعور بالنفور من العلاقات الجسدية. والغريب في هذه الشخصية أنَّ لائحة معجبيها تضمُ مشاهير الأدب والفلسفة. يكتبُ لها نيتشه "حين أكون لوحدي فإني كثيرا وكثيراً جداً ما أقول اسمك بصوت عالٍ مما يبعثُ فيَّ بهجة عظيمة للغاية". 
هل رأي نتيشه لو بغير صورتها الحقيقية لأنَّه شغف بها حباً أو فعلاً كانت امرأة نابغة؟