نينب إبراهام يقف مخلصاً أمام مغامرته الفنية
أن تنتمي إلى ما بين النهرين يعني أنك تنتمي لأولى المراكز الحضارية في العالم، أن تكون سليل سومر أو أكاد أو بابل أو آشور أو كلدان، يعني أنك سليل حضارات غائرة في ماء وهواء وتراب منها إقتاتت الأمكنة والأزمنة والإنسان شهيقها وزفيرها، فهذه الروح القادرة أن تستجيب للحياة على إمتداد هذه المسافات لا تسقط قيمها على أشكال فنية وتستجيب لها بإنفعالاتها ومصادرها، وبحركيتها وما تثيره من أفعال وردودها، فوجودها بهذه الكثافة كان لا بد من إبتهاج بعيد عن الضباب وعن الحالات المعتمة الداكنة، كان لا بد من ريش وأصابع فيها وبينها تتلاشى المسافة مهما كانت موضوعية، وهذا ما يجعل نينب إبراهام (الحسكة - 1980) يتعامل مع الطبيعة وما ينطوي عليها من جماليات كأنماط تعبيرية وإن ضمن شروط خاصة من أهمها الإدراك الحسي، والمعرفة المستمدة من التجربة الجمالية، والإهتمام بحساسية الأشياء القابلة للإدراك بدورها.
وإبراهام إبن حوض الخابور وقراها المتناثرة على ضفافها كلآلىء من نور يشتغل في أكثر من منحى، منحى منها تبرز ما لديه من خبرة جمالية حيث يستفيد من الخردة المرمية فيعيد الروح إليها برؤيته الزاخرة بالرموز والتي فيها ستتجلى عميق أفكاره، ومنحى الريشة واللون والطبيعة فيخلق حالة من الوعي الإنساني بمدى أهمية الإكتشافات الجمالية التي على أساسها تقوم فلسفات خاصة لها وللفن عموماً، وفي كل منها أقصد في كل منحى يقبض إبراهام على ما يؤثر في تجربته أو ما يمكنه منها، بطريقة تعبر عن الطبيعة الكامنة لمشاعره دون إضافات خارجية وإن كانت تلاحقها تعديل من هنا وتشذيب من هناك، حتى يكشف عن تلك الحالات الخاصة في توقه المستمر للحياة، فالعمل الفني بالنسبة له فعل فيه يتجلى الظاهر والباطن بأشكال لا محدودة كل منها تعبر عن تمثلات وتصورات حسية محررة عن المألوفة.
ويتيح هذا لابراهيم فرصة إدراك أسرار الأشياء وذاتيتها، ودوافع التحدث معها وعلى نحو موفق، وهذا يتطلب بالضرورة وجود حالة من المعرفة الخالصة المتحررة تماماً من الإرادة الذاتية يكون لها التأثير الحقيقي في منح نفسها للحواس التي قد تلد أو تنتج من خلال عملية إنتاج العمل الفني، ولذلك ينبغي على إبراهام الإنطلاق في تتبع الأثر الجمالي للعمل المنتج كشرط لحدوث الإستمتاع الجمالي ومشاركته في كل تخيلاته حتى يخلق نوعاً عذباً من التعاون بين العمل الفني والمتلقي، فخلق هذه الحالة من المشاركة قد يحدث أساساً في داخله لا يمكن أن تتلاشى مهما كانت جوانب التأمل نشطة، ومهما كانت المعرفة الخاصة متفردة، يكفي أنه ومتلقيه يعيشان حالة شروق من كل شيء حتى من دواخل أنفسهم، وهذا يوسع الحيز المتاح لهم إلى أقصاه، وبالحدس وحده يبدأ الفهم المباشر للواقع بالحضور وإن على شكل إندفاعاته حيوية، أو على شكل إشارات فيها تتراكم إسهاماته كلها بما تسمح له بتتبع عمليات التركيب والمزج والإختيار على نحو أكثر.
تتمايز أعمال إبراهام في شقه النحتي بحكايات تتبعثر بقلق خفي بين أشكاله، بحكايات تسرد حكاياته هو حين كان التحالف مع حلم ما من المستحيلات، فيبقى الحلم قائماً على إمتداد الحكايات وعلى نحو أكثر في جانبه الحسي، وما الأشكال التي خرج بها نينب إلا ذلك الحلم الذي كان يحرق كثيراً في كل منعطفات الحياة، أما في شقه التصويري فهي تقترن بسفر دائم في ما هو إنساني، أو في الطبيعة التي كادت تشغل كل فضاءاته، فتأملاته لحركة الماء والشجر، ومواجهته لبياض سطوحه تدفعه بالضرورة إلى إيجاد نوع من المصالحة ما بين حكمة الماء وهي تفرض بإصرار إرادتها، وما بين إيحاءات الشجر وهي تستعير ثوبها من سجادة الآلهة، هذه المصالحة التي تذكرنا ببقايا حضارة قديمة، أو بمخزون كبير لأمكنة كانت تشكل لوحة فسيفسائية متحررة من كل الأطر، لوحة تفاجئك برموزها كلما أبحرت فيها، لوحة كلما هبت الرياح عليها تساقط منها ثمار زمن وتاريخ كانت باهظة الثمن، شديدة الطعم، دقيقة التفاصيل حتى في موروثاتها التقليدية، فإبراهام ومنذ الحالات العصيبة يقف مخلصاً أمام مغامرته الفنية، متوهجاً في سره، متوازناً في عطائه وتعبه، فهو مازال ينتمي إلى الإنسان، التاريخ، المكان، الذي لا يمكن أن يندثر مهما كانت الحقيقة منعزلة، ومهما كان الخابور كئيباً، ليس هناك ما يخفيه، فكل ما لديه يحضر في عمله، إن كان في التشخيص الذي يحاكي الطبيعة بتفاصيل لا يغيب عنها لمساته ولغته، أو في التعامل مع اللون وكأنه يعيده إلى حركة الخابور حين كان ماؤه متدفقاً وعذباً، أو في إختياراته لتراكمات تاريخية أقرب للأسطورة منها للواقع، فذاكرته حبلى بالرموز وبوجع يمتد لآلاف السنين، ولهذا فروح لوحته تشبه روحه إن لم يكونا روحاً واحداً، فكلاهما يمارسان الطقس ذاته وفي المعبد ذاته، فكل أوقات تنفيذ العمل لا يمكن أن تنجز ما لم تخرج شهقة من روحه هو يمنحها للفضاء الذي أمامه، الفضاء المرتبط بزفيره وشهيقه أيضاً وكأنه يخط لنا رسالة بخط عريض وبلون تشكل منذ قرون بأنه لا يمكن أن يكون حيادياً.