
هكذا يسكن الفوسفات وجدان التونسيين ويؤثر على حياتهم اليومية
تونس - لا تزال أحداث الحوض المنجمي عالقة في أذهان الكثير من التونسيين نظرا لارتباطها الوثيق بوضعيات اجتماعية واقتصادية متردية وبنظام سياسي سلطوي.
وبالأمس، أعلن مسؤول بشركة فوسفات قفصة استئناف تصدير الفوسفات هذا العام لأول مرة منذ 11 عاما، مضيفا أن البلاد تشهد طلبا من البرازيل وتركيا وباكستان وإندونيسيا وفرنسا بسبب الحرب الحرب الدائرة في أوكرانيا. كما تأمل الوصول إلى أكثر من 300 ألف طن هذا العام و 600 ألف طن العام المقبل لتقترب من مستوى 2010.
وتعود عملية استئناف تصدير الفوسفات في تونس إلى أحداث تاريخية كان محورها الفوسفات. لعل أبرزها أحداث الحوض المنجمي التي اندلعت في 2008 بالجنوب الغربي التونسي حيث مناجم الفوسفات التي توفر للدولة موارد مالية ضخمة دون أن ينعم سكان المنطقة بجزء ولو ضئيل من تلك الموارد.
استمرت الاحتجاجات آنذاك قرابة الستة أشهر وشملت خاصة مدن الرديّف وأم العرائس والمتلوي والمظيلة في محافظة قفصة الغنية بمادة الفوسفات التي تبعد حوالي 350 كيلومترا عن تونس العاصمة والتي تضم مستويات عالية من البطالة والفقر.

وواجه بوليس الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تلك الاحتجاجات بقمع شديد، إذ يعتبرها البعض الأحداث الأعنف في فترة حكم بن علي. بل هناك من يعتبرها أعنف من أحداث الخبز التي اندلعت في أواخر فترة حكم الزعيم الحبيب بورقيبة في يناير 1984.
قمعت السلطات بشدة هذه التحركات الاحتجاجية السلمية ذات الطابع الاجتماعي والتي شاركت فيها شريحة واسعة من سكان المنطقة إلى جانب ناشطين حقوقيين وسياسيين معارضين لنظام بن علي خاصة من اليساريين، مما خلف عدة قتلى ومئات المعتقلين، إلى جانب تعذيب الناشطين الحقوقيين والنقابيين والصحفيين الذين حكم عليهم بأحكام كبيرة بالسجن.
وسعت السلطة السياسية آنذاك في البداية إلى ملازمة الحذر وحاولت تجنب الصدام مع المحتجين لفترة قاربت الثلاثة أشهر. غير انها سرعان ما فقدت السيطرة على الوضع فلجأت إلى القوة واجتاحت قوات الأمن مدينة الرديّف بالكامل وداهمت المنازل مستعينة بأنابيب الغاز المسيل للدموع لمواجهة الاهالي الذين تصدوا لها بالحجارة وحرق العجلات المطاطية.
وعمد نظام بن علي آنذاك إلى فرض حالة من التعتيم الإعلامي فمنع الصحفيين والمراسلين الدوليين من الوصول إلى المنطقة. كما لم يتحدث في الامر الإعلام التونسي الذي كان تحت وصاية النظام.
سياقات متنوعة ساهمت في اندلاع الاحتجاجات
وبالبحث في سياقات اندلاع أحداث الحوض المنجمي يقول الباحث في التاريخ المعاصرعبد الجليل بوقرة في تصريح خاص لـ "ميدل إيست أونلاين" إن سياقات تاريخية واجتماعية وسياسية وبيئية صحية ساهمت في اندلاع أحداث الحوض المنجمي.
فتاريخيا، يقول بوقرة إن سكان المنطقة يلازمهم شعور بالحيف إذ يعتبرون منطقتهم مهمشة ولا تحظى بنفس الامتيازات التنموية التي تحظى بها المدن الساحلية مثلا.
من المفارقة ألا تدعم النقابات الاحتجاجات التي اندلعت للمطالبة بالتشغيل
واجتماعيا، يُعرف سكان محافظة قفصة باستعدادهم للتمرد والاحتجاج. فضلا عن تفشي البطالة والفقر في الجهة التي لم تتدخل فيها الدولة منذ الاستقلال لتركيز مشاريع اقتصادية تخدم أهالي المنطقة وتوفر لهم مواطن الشغل، كما أشار عبد الجليل بوقرة، مضيفا أن التركيبة الاجتماعية للمنطقة ترتكز على ثقافة ما يسمى في تونس بـ "العروشية". وهو مفهوم يشبه ظاهرة القبلية المتفشية في بعض البلدان العربية، فتستحوذ عائلات بعينها على فرص التشغيل في قطاع الفوسفات لتتحول شركة فوسفات قفصة إلى "تجمع عائلي أكثر منه مهني".
وسياسيا، شهدت تلك الفترة تفشي الفساد السياسي والمحسوبية وتجميع مصادر الثروة بيد عائلات معينة معروفة بقرابتها أو قربها من الرئيس الأسبق بن علي وعائلته وأصهاره.
كما ساوم نظام بن علي الغرب في تلك الفترة بمسألة انخراطه في مكافحة الإرهاب وأوهم بعض الجهات الخارجية أن تلك الاحتجاجات لا تعدو إلا أن تكون محاولة ممن سماهم بالإرهابيين للاختراق.
وبيئيا، يضيف بوقرة أن المنطقة سادها التلوث بسبب استخراج الفوسفات فضلا عن شح المياه إذ يحتاج الفوسفات كميات هائلة من المياه لغسله. وهو أمر نجمت عنه أمراض خطيرة أصيب بها الأهالي كالربو والسرطان.
وكانت الشرارة الأولى لاندلاع الأحداث تشكيك الأهالي في نتائج مناظرة انتداب للانضمام إلى شركة فوسفات قفصة، ووجهوا للمسؤولين النقابيين المحليـين تهمة المحسوبية. فقرر الكثير منهم القيام باعتصامٍ مفتوح أمام كل الطرق المؤدية إلى مدخل الشركة، بما في ذلك سكة الحديد الخاصة بنقل الفوسفات.
احتجاجات الفوسفات نسجت روايات ملحمية وأهازيج وأشرطة سينمائية
وفي هذا الصدد يقول الناشط النقابي ذو التوجهات اليسارية عدنان الحاجي الذي تزعّم الحركة الاحتجاجية في الرديّف إن الاحتجاج اندلع بالأساس ضد الفقر والتهميش والمحسوبية وعدم تكافؤ الفرص على مستوى الشغل وتوزيع الثروة عموما.
وأبدى الحاجي الملقب في تونس بـ "أسد الصحراء" استغرابه من وقوف الهياكل النقابية ضد المحتجين في تلك الفترة والحال أن الاحتجاجات كانت ترفع شعار المساواة في التشغيل وتطالب بتحسين الظروف المهنية لعمال المناجم الذين قضى الكثير منهم تحت انقاض المناجم المنهارة على رؤوسهم.
خلفيات ثقافية وفنية للفوسفات في تونس
وترسخت تلك الأحداث في أذهان سكان المنطقة الذين فقدوا الكثير من أبنائهم فنسج المخيال الشعبي روايات عن ملاحم بطولية كان أبطالها رجال المنطقة ونساؤها. ونظم شعراء الجهة قصائد ملحمية عن الأحداث. كما لا زال الأهالي هناك يرددون الأهازيج والأناشيد المفعمة بالكثير من الشجن والتي تتغنى بنضالات أبناء الجهة في تلك الفترة.
وتجاوزت أحداث الفوسفات البعد الاجتماعي لتشمل الجانب الثقافي والفني. فنشطت فرق موسيقية في مجال ما يُعرف بفن الاحتجاج أو الأغاني الملتزمة على غرار فرقة "أولاد المناجم" المنحدرة من مدينة أم العرائس. إلى جانب "فرقة البحث الموسيقي" التي تنحدر من محافظة قابس الواقعة بالجنوب الشرقي لتونس والتي تضم المجمع الكيميائي التونسي حيث يتم غسل الفوسفات قبل تصديره.
وصنعت تلك الفرق الموسيقية ثورة في الذائقة الفنية للتونسيين مستلهمة أغانيها من أشهر القصائد العربية لكبار الشعراء على غرار محمود درويش. كما استلهموا من تجارب سابقة لمارسيل خليفة والشيخ إمام ومجموعة "ناس الغيوان" المغربية.
وشملت الحركة الثقافية المتصلة بأحداث الحوض المنجمي بتونس السينما حيث حاز الفيلم الوثائقي "يلعن أبو الفوسفات" للمخرج التونسي سامي التليلي على العديد من الجوائز المحلية والدولية. وهو شريط يقدم معلومات إحصائية دقيقة حيث يؤكد أن 25 بالمئة من الاقتصاد التونسي يعتمد على الفوسفات لكن الثروات المتأتية من هذه المادة تؤول إلى رأس السلطة ودائرتها الضيقة. بينما يواصل العمال المطحونون الحفر في أعماق المناجم مقابل الفتات دون أن يتبينوا يوما النور في آخر النفق المظلم.
ستظل معضلة الفوسفات قائمة ما لم تغير الدولة منوالها الاقتصادي
يرى العديد من المحللين أن أحداث الفوسفات في 2008 مثلت الشرارة الأولى التي أوقدت بعد سنتين تقريبا نار الثورة التونسية التي اندلعت في 17 ديسمبر 2010 والتي أطاحت آنذاك بالرئيس بن علي.
وبعد الثورة، اعتبر الكثير من التونسيين يوم الأربعاء 26 سبتمبر/أيلول 2018 يوما مشهودا في المحكمة الابتدائية بقفصة، فقد تأججت المشاعر مع دخول نشطاء وقادة انتفاضة الحوض المنجمي إلى قاعة المحكمة نفسها التي تعرضوا فيها للضرب. ولكن هذه المرة كضحايا يطالبون بالإنصاف لا كمتهمين بالتآمر على أمن الدولة، وهي إحدى أبرز التهم التي وجهها لهم نظام بن علي.
وكان لذكر الضحايا أسماء "جلاديهم" والمطالبة بمحاسبتهم أمام المحكمة رمزية كبرى خال التونسيون ان قضية الفوسفات في طريقها إلى الحل نهائيا.
غير أن الباحث بوقرة أكد أن المشكل سيظل قائما ما لم تغير الدولة في منوالها الاقتصادي المعتمد بشكل كبير على عائدات الفوسفات. وقد فاقم توقف الإنتاج منذ اندلاع الثورة أزمات تونس العديدة وأحدث عجزا واضحا في الموازنة العامة للدولة الأمر الذي ساهم في اختلال الميزان التجاري وتعكرت بالتالي الوضعية الاقتصادية للتونسيين.
ولم يستغرب بوقرة توقف الإنتاج وتعطله في مناسبات عديدة منذ الثورة التونسية بسبب الاحتجاجات الاجتماعية والحسابات السياسية إلى حد أجبر تونس على استيراد الفوسفات من الجزائر في سبتمبر/ أيلول 2020. وهي سابقة في تاريخ تونس التي يعود اكتشاف الفوسفات فيها إلى أواخر القرن التاسع عشر وتحديدا سنة 1885. وكانت تحتل في وقت قريب المركز الثالث عالميا من حيث الإنتاج والتصدير.