هل فقد لبنان دوره؟

الشواهد والأدلة كثيرة على تضعضع وانهيار النظام وقرب انفجاره.

ثمة عوامل استراتيجية ونوعية تسهم في تحديد موقع الدولة ودورها في المحيطين الإقليمي والدولي، وعادة ما تتضافر عوامل عدة اخرى تسهم أيضا في تعزيز الدور وفعاليته. ومن الطبيعي ان تظهر قوة الدول في بعض الفترات ثم تضمر واحيانا تتهاوى، وهذا ما مرًّ به لبنان، وما ينتظره في قادم الأيام.

ولبنان القائم أصلا على توازنات ذاتية وموضوعية دقيقة، غالبا ما تأثر بقوة بعوامل داخلية وخارجية حددت مستوى موقعه ودوره. وغريب المفارقات في ذلك، انه لم يتمكن في خلال قرن من الزمن من إرساء أسس ثابتة وصلبه لتعزيز وتثبيت الخصائص التي ينبغي ان يوفرها.

والاغرب من كل ذلك، ان ثمة خاصيات لا تجتمع في نظام سياسي ويكون قابلا للحياة، فيما لبنان تمكن رغم ذلك من إعادة انتاج نظامه والاستمرار ولو بمظاهر واسس هشة كل عقد او عقدين من الزمن، الا ان ظروفه الحالية تنبئ بمسارات مختلفة وتكاد تكون من العوامل التي تفتت النظم وتنهي موقعها ودورها وصولا الى انحلالها وزوالها.

لقد تعود اللبنانيون على تماهي ازماتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع عوامل ضعف النظام السياسي. وفي كثير من الأحيان لم يكن ممكنا التمييز بدقة بين أسباب الازمات وطرق حلها او تجاوزها، بل غالبا ما كانت تختلط القضايا وتمتزج أسبابها وعوامل انفجارها، فيما ازماته الحالية تبدو اكثر تعقيدا مع مسببات خارجية لا قدرة له على دفعها او حتى التأثير فيها. وبالتالي باتت اليوم تهدد موقعه ودوره وصولا الى كيانه كدولة، وهي اخطر المراحل التي مر بها لبنان منذ انشائه في العام 1920.

ثمة تركيبتان اساسيتان مر بهما النظام الدستوري السياسي، الأول ميثاق 1943 والثاني اتفاق الطائف 1989، وبينهما مشاريع عدة لم يستمر بها التداول طويلا، كالوثيقة الدستورية 1976 والاتفاق الثلاثي 1986 وغيرها، فيما تشترك كافة المشاريع بالصيغ الطائفية والمذهبية التي تعتبر أساس العلل والمشاكل التي يتخبط بها، وغريب المفارقات في الامر عدم اعتراف الجميع بأن صيغ النظام المقترح تعاني نفسها من أسباب فشلها، فيما تظهر اليوم عوامل وأسباب إضافية اشد خطورة وفتكا بالمجتمع والنظام الهش أساسا.

فالشواهد والأدلة كثيرة على تضعضع وانهيار النظام وقرب انفجاره، فالمسألة لم تعد ازمة حكم، بل ازمة نظام، والمشكلة لم تعد تركيبة اجتماعية هشة قائمة على توازنات اعدت سلفا وبدقة، بقدر ما باتت التركيبة الاجتماعية الحالية تعاني من اورام ديموغرافية ليست حميدة، وسط نظلم اقتصادي مالي منهار، وغياب تام لمؤسسات الدولة او الاصح السلطة القائمة، في وقت لا يبدو المحيطين الإقليمي والدولي قادرين على توفير الظروف الملائمة لوقف الانهيار ان لم يكن إعادة التعويم مثلا، ذلك في ظل انقسام مجتمعي عامودي عميق.

يغرق لبنان اليوم في فراغ رئاسي غير مسبوق بأثره التدميري، وفي ظل حكومة تصريف اعمال مشلولة بالنظر لطبيعة تركيبتها وامتداداتها، وانهيار شبه كامل في طبيعة النظام ووظائفه الداخلية والخارجية، وغياب تام للحد الأدنى لمقومات الاستمرار المجتمعي بكافة متطلباته الرئيسة؛ وفوق ذلك كله انهيار تام للتركيبة الديموغرافية التي تعاني من خلل رئيسي أساسا، حيث نصف المقيمين ان لم يكن اكثر في لبنان حاليا هم نازحون ولاجئون، وسط تنافس حاد جدا بين اللبنانيين وغيرهم على مقومات البقاء من عمل ووسائل حياة.

ان كل تلك الأسباب والعوامل تنذر بانفجار مجتمعي ذي طابع نزاعي امني عسكري، سيقضي تماما على كل امل لاعادة انتاج نظام سياسي مجتمعي يرعى مصالح اللبنانيين ومقومات بقاءهم في نظام قابل للحياة ولو في الحدود الدنيا. فهل فقد لبنان دوره وموقعه الذي اسعفه سابقا في إعادة إنتاج نظامه؟ ام ثمة اسئلة موجعة ينبغي الإجابة عنها بجرأة بقدرة العالم العارف؟

للأسف ثمة إجابات غير وردية تحكمها ظروف ووقائع داخلية وخارجية غير مطمئنة، ربما تجبرنا على تأكيد المؤكد من انتظار صور سوداء اشد قتامة وقسوة مما اعتاد عليه اللبنانيون في قرن ونيف من الزمن!