وداعا ميشيل كيلو رجل الثورة الحزين

غربة كيلو في معارضته كانت واضحة. كان رجل ثورة وحقيقة في الوقت نفسه.

غالبا ما تجري لعبة المصائر في مكان لم يتوقعه المرء. فها هو الكاتب والسياسي السوري ميشيل كيلو يموت في باريس في الحادية والثمانين من عمره فيما كان في أوقات سابقة قد تحدى نفسه حين أصر على البقاء في دمشق بالرغم من يقينه من أن النظام الحاكم سيعتقله ويحاكمه من غير أن ينظر إلى سجله الإنساني والوطني.

كان يعرف عدوه الذي كان لا يعرفه ولم تكن المعركة متكافئة. ذلك لم يمنع كيلو من البقاء في سوريا والالتحاق متأخرا بصفوف المعارضة التي ظلت تعامله بشيء من الحذر لأنها تعرف أن موقفه ليس موقفها تماما وأن ما يفكر فيه لا يعجب الجهات التي تدعمها وتمولها ولأنه لا يرضى لنفسه أن تكون واجهة أو قناعا.

عام 2005 كان اعلان دمشق تذكرته إلى السجن. ذلك الإعلان كان بمثابة انقلاب غير مسلح على النظام السياسي الذي بدا وفق البيان مستهلكا ورثا ومنتهي الصلاحية. كان في إمكان كيلو يومها أن يهرب من سوريا ويطلب اللجوء في أي مكان من الغرب غير أنه فضل أن يكمل عصيانه بدلا من أن يكون انقلابيا فاشلا.

كان يعرف أن البيان الذي وقعه مع عدد من المفكرين والسياسيين السوريين هو بمثابة محاولة انتحار، لن يتعامل معها النظام السياسي بطريقة نزيهة

فيفتح أبوابه لنوع وطني من المعارضة كان محظوظا بوجودها. معارضة لا تتآمر ولا تخون ولا تلفق ولا تكذب ولا تمد يدها إلى دول أجنبية. كان كيلو ورفاقه يراهنون على الرئيس الشاب الذي قدروا أن مشروعه يختلف عن مشروع أبيه من جهة علاقته بالزمن.

كانوا على خطأ في تقديراتهم فذهبوا إلى السجن.

وحين وقعت الاحتجاجات وبدأ ربيع سوريا عام 2011 راهن ميشيل كيلو على نوع من العقلانية لم يكن موجودا أصلا. توقع أن الصدمة التي سببها الحراك الشعبي ستقود النظام إلى منحى مختلف. كان يتمنى لو عثر على سبب واحد يدعوه إلى البقاء في دمشق مع احتفاظه بموقفه المعارض لبقاء النظام. غير أن الخطر كان ماثلا أمامه وهو صاحب تجربة لم تكن يسيرة.

كيلو لم يكن معارضا من النوع الذي يجري وراء الهتاف ويروج لما تمليه الدول "الصديقة" للشعب السوري ولم يكن داعية عنف بل كان في أحيان كثيرة ناقدا للمعارضة حتى ظن الكثيرون أن المسافة التي تفصله عن النظام هي نفسها التي تفصله عن المعارضة. ذلك ليس صحيحا بالفهم السطحي غير أن غربة كيلو في معارضته كانت واضحة ومَن أتيحت له فرصة معرفته وقراءة مقالاته كان في إمكانه أن يتكهن بحجم العذاب الذي كان الرجل يعانيه وهو يتألم لما كان يواجهه المعارضون الحقيقيون من تبخيس واسترخاص واستصغار وابتزاز. لم تكن عشر سنوات عفيفة ونظيفة بل امتلأت بالمؤامرات والدسائس والانهيارات وكان كيلو شاهدا على كل ذلك وهو ما يكن يتمنى القيام به.  

أتعبته سوريا كثيرا. أتعبه النظام الحاكم لأنه استباح الدولة وكشف عجزه عن التعامل مع أصغر المشكلات التي يعاني منها الشعب بطريقة ايجابية وأتعبته المعارضة التي شعر أن ميزانها كان مختلا وأنها تحتاج إلى قدر هائل من النزاهة لتمنع تدخل الدول الأجنبية في الشأن السوري.

ما يؤلم أن كيلو كان مضطرا إلى اتباع مصير لم يختره.

ربما أدرك في لحظة ما أن أحدا في المعارضة لن يستمع إليه. ذلك لأن القوى الدولية التي تدعم وتمول المعارضة لم تكن تنظر بعين الرضا إليه. لم يكن رجل أحد. ولن يكون كذلك. إنه شخص ميؤوس منه. يجب أن لا يطلع على الأسرار. كان كيلو يعرف أن عليه أن يدير ظهره للجميع لكي يريحهم.

كنت كلما رأيت ميشيل كيلو أرى فيه صورة المناضل الحزين الذي يرفض أن يصرح بأن الثورة قد غدرت به.  

هل يمكنني القول بأنه أخذ معه أسرارا كثيرة إلى القبر؟

اليوم يمكننا أن نعيد قراءة مقالاته وهو كاتب قبل أن يكون سياسيا لنعرف أنه كان يشعر بالأسى لأن المعارضة لم تهبه أملا بل ملأته احباطا، وكان يفكر في شعب صار محروما من العثور على مَن ينقذه. النظام ومعارضته كانا على حد سواء. ما هذا الظلم؟

غياب ميشيل كيلو خسارة كبيرة. خسره السوريون المتعلقون بنزاهة ونبل ثورتهم التي كانت واحدة من أهم علامات علاقتهم بالحياة. كان كيلو كريما في نزاهته ونبيلا في تخليه عن الاستعراض. هو رجل ثورة وحقيقة في الوقت نفسه.