وظائف الفن بين الغيب والواقع في ميثولوجيا الأديان

أنجلو يبحر روحا في 'الكتاب المقدس'، مستحضرا 'قصة الخلق' كما جاءت في سفر التكوين فيمت، فيما لا يقترب محمد راسم الجزائري من علم إلاهي غيبي راسما ملحمة 'تاريخ الإسلام' في رسم تزويقي مصغر.

العقائد في أصولها المطلقة، لم تكن مشهدا بصريا، يطلق إيحاءاته المؤثرة، في عقل يتلقاه، فهي نصوص تقرأ، لا تقبل التأويل، لها لغتها الأبجدية، في رسالة أطلقتها السماء، ووضعتها بيد مبشر نذير، كتابا مقدسا، تتلى معانيه، تعاليم يلتزم بها العقائديون.

لا تتفتق الرؤيا الإبداعية في "الفن اللاهوتي"، من إلهام خيالي محض، فالفنان يستمد رؤيته، من محيط كوني/ديني أوسع، يدرك تفاصيل مكوناته ومبادئه، مكتشفا جوهر المعنى الكامن فيه، في طقس تأملي، فيمنحه بعده الخفي، في شكل مرئي، له خصائصه، فيضحى لغة تواصل بصري، تتواءم مع القدرة الإدراكية لمتلق، يتلقى  ما يسمو بعقائده، ويرتقي لمستوى تطبيق تعاليمها.

وإذ تختلف الأديان في "وظائف الفن "، بدى "اللاهوت" مقابلا لـ "الميثولوجيا الدينية":

وموضوعات علم اللاهوت المسيحي الرئيسية هي: الله، الإنسان، العالم، الخلاص، البعث، الحساب .

ويقابل ذاك العلم "علم الكلام" في الإسلام، وما جاء في حديث جبريل عليه السلام: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر.

اللاهوت: روح الله أو أقنوم الكلمة "الذات، الكيان" وليس مثل أى روح بشرية أخرى: علم توحيد في المعرفة والإثبات.

الميثولوجيا الدينية: دراسة وتفسير وتجسيد الأحداث الدينية "القصص"، والكشف عن الطبيعة والحياة الإنسانية.                                                                      

اللاهوت: ميكائيل أنجلو                      

أبحر الفنان الإيطالي ميكائيل أنجلو روحا في "الكتاب المقدس"، مستحضرا "قصة الخلق" كما جاءت في سفر التكوين رسما غاية في الدقة والرهبة بسقف كنيسة سيستين في الفاتيكان، متلزما بتسلسلها الزمني، ووقائعها من اليمين إلى اليسار:

في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه وقال الله ليكن نور فكان نور.

وضع ميكائيل أنجلو "قصة الخلق" في تسعة مشاهد بصرية، في تسلسل زمني حسب وقوعها، بدأت من جهة"المذبح" وانتهت عند مدخل الكنيسة :

المشهد الأول : فصل النور عن الظلام ، المشهد الثاني : خلق الشمس والقمر والكواكب، المشهد الثالث : فصل الماء عن اليابسة، المشهد الرابع : خلق آدم، المشهد الخامس : خلق حواء، المشهد السادس : سقوط الإنسان وطرده من الجنة، المشهد السابع : تضحية نوح، المشهد الثامن : الطوفان، المشهد التاسع : نوح.

ميكائيل أنجلو
انجلو يبحر روحا في 'الكتاب المقدس'

وأحاط المشاهد بصور الأنبياء زكريا،دانيال، أشعيا، يوئيل، حزقيال، أرميا ويونس، وصور العرافات اللاتي تنبأن بظهور السيد المسيح .

وشغل الجسور الممتدة فوق النوافد، بصور تجسد "أجداد" السيد المسيح، ووضع تحتها رسوم الباباوات، وعبأ الأجزاء المثلثة الشكل، بشخوص، هم جزء من قصة الخلق.

أزدحمت "قصة الخلق" بوقائعها، التي شغلت أزمنة متعددة، لكن المشاهد بدت في نسق واحد، في إسقاطات الرؤية البصرية.

وبدت قدرة الرسم عند ميكائيل أنجلو، كأنها نحت اختص به، في تشريح الجسد، ومنحه إيحاءا حركيا، يثير الإحساس الروحي لدى المتلقي، القابع في دار عبادة، تقربا إلى الله.

لم يخف رغبته في إضفاء الرهبة، على منجزه البصري، المتعالي بوظيفته الدينية المؤثرة في قلوب خاشعة في حضرة الرب.

دورة الخلق، في البناء التمثيلي "التشكيلي" الهندسي الذي مده "أنجلو" في سقف كنيسة سيستين، ارتقى بالمعنى الأزلي في مضمونه الروحي، "الله أزلي في وجوده، خالد، دائم الوجود، لا بدء له، ليس مسبوقا بالعدم " .

لم يضع "أنجلو" لقصة الخلق نهاية، فهي أزلية، في مضمون صفائها الفلسفي، دورتها لا تقف عند نقطة ما، تتصاعد أحداثها بين السماء والأرض، تشتد، وحياة ابن آدم في شدّة وعناء ونصب، وينتظر ساعة الخلاص بعودة يسوع المسيح، التي رمز لها في مشاهد الإنقاذ من بني إسرائيل.      

'قصة الخلق'
تسعة مشاهد بصرية في تسلسل زمني حسب وقوعها في 'قصة الخلق'

الميثولوجيا: محمد راسم الجزائري

محمد راسم الجزائري لم يقترب من علم إلهي غيبي، تكامل في كتاب "القرآن الكريم" نصوصا لا تقبل التأويل، وهو يرسم ملحمة "تاريخ الإسلام" في رسم تزويقي مصغر، مجسدا وقائعه، منذ نزول الوحي الآلهي المعظم في آية قدسية عظمى، و بناء الكعبة المشرفة، قبلة المسلمين، صاعدا بإيقاع فني، يتآلف مع التصاعد الزمني للأحداث، المدونة في صفحات التاريخ.

ويكشف محمد راسم بقدرة أدواته الإيحائية عن ولادة حضارة إسلامية ازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون.

أخذ السياق التاريخي، بنسق تسلسل زمني، وقائع الفتوحات الإسلامية التي امتدت شرقا وغربا، وينتقل بمشاهد الفتوحات الإسلامية من الهند التي يجعل من دلالة عمارتها رمزا يُحاكي الزمان والمكان، فتتجسد دلالته في القصر الهندي الشهير "تاج محل"، إلى إفريقيا، حيث تنتصب في شمالها مدينة القيروان التي يُشيد فيها عقبة بن نافع أول مسجد بعمارة مغاربية تفصح عن خصائص بيئتها في مجتمع إسلامي، ثم يتجه إلى اسبانيا التي يُشيد فيها صروح عمارة أندلسية، أرسى حجرها الأساس الخلفية عبد الرحمن الداخل حين دخلها فاتحا.
ويمتد "تاريخ الإسلام" في سلسلة تختصر انتقال العصور في صفحات تشكيلية مفتوحة، لا تقطع منطق التطور بفواصل وقائع مجهولة.
والحروب الصليبية كان زمنها عصرا متغيرا، أفردت فصوله بجمالية تشكيلية واقعية اتسعت صورتها لجغرافيا التفاصيل ورمزها المشخص في السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي.

محمد راسم الجزائري
أدواته الإيحائية تكشف عن ولادة حضارة إسلامية ازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون

وتتوالى العصور في مشاهد تشكيلية تحاكي وقائعها المؤرخة بلغة تسجيلية هي جزء من ذاكرة إنسانية شغلتها طويلا الإمبراطورية العثمانية الوارثة لعصور الخلافة الإسلامية، وتعبر عن خصائصها بنمط العمارة العثمانية الماثلة في صرح جامع السلطان أحمد في مدينة اسطنبول..
ومن هناك يتوغل محمد راسم في العصر الحديث ويمنح السلطان سليمان القانوني حضورا يبوح بدلالات تاريخية، تتواصل بنسق تحول انقلابي لتأخذ أبعادا  أخرى قبل أن تتجسد في ظهور الملك عبد العزيز آل سعود ظهورا معاصرا، أبان الثورة العربية التي نشبت في أرض الجزيرة.
وتبقى العمارة الإسلامية بمسارات تطورها وعناصر خصوصيتها البيئية هي المضمون الذي يتجسد بحيوية مؤثرة في رسم "تاريخ الإسلام".

رؤى محمد راسم المتمسك بخصائص "الأنا" المنفتح على الآخر، تناول عصرين يتكاملان في امتداد زمني تاريخي بمل مبادئ رسالة سماوية:

العصر الأول- العصر العباسي الذي يبدو فيه الخليفة هرون الرشيد رمز ازدهارها وقوتها.

 العصر الثاني- عصر الإمبراطورية العثمانية الذي ترك فيه السلطان محمد الفاتح الثاني بصماته المتميزة.
صورت المشاهد التاريخية بآلية المذهب الفني الواقعي، لم تتخل عن خصائص مكوناتها التقليدية المتوارثة وهي تشهد انفتاحها على قواعد فن المنظور المعاصر.

لم يتلاعب محمد راسم  بوقائع الحدث، ولا يثير الصراعات المفتعلة، البعيد عنها في مسيرة بحثه العلمي الجمالي، آخذا خصائص وفضائل مؤرخي الحضارة العربية والإسلامية وهم يدونون التراث الإنساني الكبير، دون خلط بين النص القرآني والحدث الدنيوي.
التزم راسم: بقواعد علم التاريخ المجرد من "الاختبار أو التجريب" وتمسك بمبادئ النقل الصادق لأحداث، تنوعت في وقائعها، وتوحدت في نشر الرسالة الإسلامية.