"ويبقى سرًا" تعيد السخرية إلى الواجهة

السخرية في قصص الكاتب الأردني خالد سامح هي أكثر النصوص جدية والتزامًا.
السخرية قد تستدر الابتسامة، ولكنها ابتسامة العاجز، ابتسامة الجريح
أسندت ظهري إلى الجدار أراقب التحام الصمت الشاسع بالفراغ

السخرية في قصص "ويبقى سرًا" لخالد سامح، والمبطنة أحيانًا، هي أكثر النصوص جدية والتزامًا؛ لأن السخرية فيها ليست للابتسام أو الضحك أو التسلية، بل للألم والوجع والنزف والاحتراق. نعم، قد تستدر الابتسامة، ولكنها ابتسامة العاجز، ابتسامة الجريح «فالطير يرقص مذبوحًا من الألم».
صدرت المجموعة عن دار فضاءات في عمّان، وتتضمن ثلاثًا وأربعين نصًا، معظمها قصص قصيرة جدًا، اتسم كثير منها بالسخرية، وفي ذلك يكتب القاص والناقد المغربي أنيس الرافعي على الغلاف الأخير: «كما تبرز المفارقة الساخرة في عرض الحالات والمواقف بوصفها ميزة فارقة على مستوى التشخيص والتقنيّة والأبعاد الدلاليّة، لتتوّج أقفال النصوص مثل بصيص نور يشعّ في جوف العتمة». وتستعرض هذه المقالة بعض قصص المجموعة التي برزت فيها السخرية موجعة كحد سكين.
الساعة
«في الانتظار أسندت ظهري إلى الجدار أراقب التحام الصمت الشاسع بالفراغ...
وحدها الساعة المعلقة فوقي كسرت رتابة اللحظات، هجرت ثوانيها قليلًا كي تبول على رأسي».
صورة ساخرة عندما تجلس آمنًا مطمئنًا فيأتيك ما لا تتخيله ممن لا تتوقعه؛ فحتى الساعات أصابها الضجر من طول صمته/صمتنا وخنوعه/خنوعنا، وانتظار الفرج ونحن في أماكننا دون حراك، فبالت على رأسه/رؤوسنا قهرًا؛ علّنا نستيقظ، نتحرك، نفعل شيئًا؛ لأن تغيير الحال يحتاج إلى إرادة وفعل وتمرد على السائد، وتمزيق أثواب الذل والعبودية.

المجموعة القصصية تطرح الكثير من القضايا والهموم الإنسانية والتشوهات المجتمعية، وتثير أسئلة حول الموت والشرف والوحدة والعجز

ميتة مثالية
«تمنى طوال حياته ميتة (مثالية)، عندما أتته أخيرًا، مات مذعورًا».
سخرية لاذعة من باعة الكلام والأوهام، فالإدعاء سهل، ولكن المواقف تؤكد حقيقة الرجال وصدق المبادئ، فهذا الرجل رجل شعارات وخطب، فلما جاءت لحظة الحقيقة والمواجهة والصدام والاختبار، نكص على عقبيه، ومات خوفًا وجبنًا. وما أكثر هذه النماذج التي لا تعدو أن تكون جعجعة فارغة، وطبولًا جوفاء، وظاهرة صوتية لا تنتج إلا الضجيج.
لعنة
«يلاحظ في المرآة بعضًا من حتميات بيولوجية: سالفين وطأهما البياض، بشرة منهكة مستسلمة للظلال، أخاديد رفيعة أسفل العينين وجفنين ذابلين. 
لا يلعن – أبدًا - كل الزمن، وإنما فقط تلك اللحظة التي قرر فيها تلميع مرآته هذا الصباح».
يصر البعض أن يحتفظ بالأغشية على عينيه، بل يتمنى في قرارة نفسه أن يصبح أعمى أحيانًا؛ لئلا يبصر حقيقة نفسه ومن حوله، لأن الحقيقة مؤلمة ومكلفة ولها تبعاتها. المرايا لا تكذب ولا تغش ولا تخدع، تبصرنا بحقيقة أنفسنا ما أبقيناها نظيفة لامعة، ولكن البعض يفضل أن تكون مرآته مغطاة بالغبار أو الضباب لئلا تفضحه الحقيقة وتصفعه.
صراع
«هو وعزرائيل، استفاق كل المرضى على صوت ضحكاتهما، عندما قرآ ما كتبت الصحف عنه: «ما زال يصارع الموت منذ أشهر في أحد المستشفيات».
صورة فانتازية ساخرة؛ هل الصداقة ممكنة بين المريض وعزرائيل؟ أو على الأقل هل يمكن إبرام هدنة مؤقتة بينهما؟ وهل تأخر الموت لمريض هو صراع مع الموت أم هدنة مع الموت؟ ما يراه الناس وما يعتقدونه أو يظنونه ليس هو الحقيقة بالضرورة، وإن كان الظاهر يوحي بذلك، ولكن الخفايا لا يعلمها إلا أهل الخفاء. وهل الصراع بين أقطاب السياسة أو المعارضة والموالاة هو صراع حقيقي أم توزيع أدوار بناء على اتفاقيات تحت الطاولة؟ أيًّا يكن، فالحقيقة ليست ما يظهر للناس، فوراء الأكمة ما وراءها!
ترحيب
«المشيعون الهاربون بوقار من موتهم القادم ندت من وجوههم ابتسامة مترددة، فعلى أحد جدران مقبرة القرية خربش طفل مشاكس: «عزرائيل يرحب بكم».
تحمل عبارة «عزرائيل يرحب بكم» كل المتناقضات؛ الابتسام والتكشير، السخرية والجدية، المرح والخوف، الوهم والحقيقة، الحياة والموت. وهي بقدر ما تزرع ابتسامة حائرة خجولة، إلا أنها تصفع بحقيقة لا مفر منها، وهي أينما ذهبتم، ومهما فررتم وابتعدتم من المقبرة، فسترجعون حتمًا مهما طال الزمن، وعزرائيل لا يخطأ طريدته إذا حان وقت رميها وقطافها. وهل يدرك الظالم والفاسد والخائن والمجرم هذه الحقيقة، أم تراه عقد مع عزرائيل عهدأ أن لا مساس؟!
تأبين ممكن
«هناك عند مثواك الأخير، سأقف بما أمكن من إجلال.
ربما أستعيد رباطة جأش مفقودة، وأبحث عن وسام يليق ببرودة قبرك، أو وردة تذبل في صمتك الأبدي.
سأفعل، لأنني أدركت – أخيرًا - أن موت البعض يمكن أن يكون أعظم إنجازاتهم».
إنها الحقيقة تمد لسانها ساخرة؛ بأن موت البعض أعظم إنجازاتهم؛ لأنهم كانوا عبئًا على الآخرين وعلى أنفسهم، ضررهم أكثر من نفعهم، فسادهم طغى، وظلمهم وفجورهم ملأ الآفاق، ولا أمل في رجوعهم إلى جادة الصواب، وضج الناس منهم ومن أفعالهم، ولذا فإن لسان حال ضحاياهم «فراقكم عيد»، وهل أجمل من موتهم والخلاص منهم إلى الأبد؟! إن موتهم هو الإنجاز الوحيد الذي سيصفق له كل المظلومين والمسحوقين، فليحذر كل مسؤول ولو على شاة، لئلا يُبكي فرحاً على فراقه، وكي لا يكون موته أعظم إنجازاته!!
SMS
«طويلًا انتظر اتصالها ذاك المساء. لم يحظ إلا بتلك الـ (SMS) المتطفلة: «لأعذب كلام الحب وأرق المعاني وأشعار الغزل ارسل رقم (1) مجاناَ لأسبوع فقط، ثم 20 قرشًا للرسالة».
بعض الأمور تزيد الطين بلة، وترش الملح على الجرح؛ فهذا الشاب الذي ينتظر اتصالًا من محبوبته، تأتيه رساله SMS تحمل عرضًا لتلقي عبارات الحب والغزل، فما ينتظره منها احتمال وظن، ولكن العرض مؤكد، وهو مجاني لأسبوع، وبعد ذلك بثمن. هذه الرسائل مهما كانت جميلة ومغرقة في الرقة والغزل، هل تغني عن كلمة جميلة واحدة ممن نحب؟ ولكن، ألم تتحول معظم علاقاتنا مع من نحب إلى علاقات إلكترونية خالية من المشاعر والأحاسيس على الرغم من رقة ما نكتب؟ ألم نستبدل الحياة الواقعية والعلاقات الوجاهية بصداقات إلكترونية مزيفة؟ هل ثمة لحظة صدق وتجلٍ لإعادة الحساب أم أن التيار الجارف قد سرقنا إلى غير رجعة؟! 

short story
ما الذي يغضب الرقيب من الورد؟ 

مراتب الشرف
«لم تسرق كل ما هو ثمين في منزله المترف تلك الليلة، تركت له المومس الحرامية كل شهاداته معلقة على ظلمة الجدار. جميعها كانت بمرتبة الشرف».
سخرية جارحة بل نازفة، فالمومس صاحبة ضمير شريف، فهي لم تأخذ كل شيء، بل أبقت شهاداته معقلة، وكلها بمرتبة الشرف. أليست هذه الشهادات هي التي يفتخر بها على الآخرين ويتعالى عليهم؟ أليست هي من يتستر وراءها لتمنحه المكانة والوظيفة المرموقة والسمعة الحسنة؟ أليست هي الأساس وما عداها هوامش؟ أم تراها شهادات كذب وتزوير لا قيمة لها في الحقيقة؟! وهنا تظهر عدالة المومس وجوهرها الشريف، فهي سرقت ما لا قيمة له نسبيًا، أو سرقت ما سرقه هو من الآخرين، وتركت له ما يكفل له أن يعوض ما ضاع! ونحن القراء: هل نصفق للمومس أم نتعاطف مع صاحب الشهادات؟! 
أقلام السلطان
«الكاتب لمولاه السلطان: أنقذني يا سيدي.. كلما هممت بالكتابة، شرعت كل أقلام القصر بالتقيؤ».
الكاتب المنافق دون حساب، حتى النفاق، يستعيذ ويتبرأ منه، فلكل شيء حدود، إذا تعداها لا يُطاق، وهكذا أقلام القصر المخصصة لتمجيد السلطان ومدحه، تقيأت لمبالغة الكاتب في النفاق والدجل والمداهنة، صحيح أن لا وظيفة لها إلا تلميع السلطان، ولكنها لا يحق لها ولا تستسيغ أن تصنع منه إلهًا ونبيًا لم يبعث بعد، وتتقزز من الشطط ونفخ البالونات وصناعة الكذب الصراح الفج الممجوج.
الصنم والحذاء
«الصنم للحذاء المهترئ: أنت أجمل ما في المدينة!
الحذاء: لماذا؟
الصنم: لأنك وحدك القادر على إسقاط أمجاد وقفتي الطويلة».
الأصنام حية وميتة تدرك الحقيقة، ولكن سيكولوجية الصنم وغروره تستمتع بالوهم وتحب أن تصدق أنه حقيقة، وفي لحظة صحو قاهرة بعد فوات الأوان تنزع أغشية الوهم، وتبصر الحقيقة الناصعة، وعندها ترى في الحذاء المهترئ الذي يلطمها ويهينها جمالًا وربما رقة؛ لأنه الوحيد الذي تجرأ وقال للأعور أنت أعور في عينه!!
وصية
«عندما مات السجين، لم يجدوا خلفه سوى وصية على فتات ورقة: «ازرعوا على قبري وردة، لا احتفاء بي، ولكن لكي تنمو وردة في المدينة... بعيدًا عن عين الرقيب».
هل يسخر السجين الميت من الرقيب أم منا؟ وهل لا بد أن نموت جميعًا لتخضر الأرض وتمتليء بالورود؟ وهل نبقى أسرى عين الرقيب نخشاها أم الأولى أن نفقأها لنزرع الورد في كل مكان؟ ثم، ما الذي يغضب الرقيب من الورد؟ وهل يغضب الورد أحدًا؟ وأيهما أجدر بالحياة؛ الورد أم الرقيب؟! تلك أسئلة لن يجيب أحد عنها بصراحة دون خوف إلا الميت!!
وبعد؛؛؛ فإن "ويبقى سرًا" 2016، 102 صفحة»، تطرح الكثير من القضايا والهموم الإنسانية والتشوهات المجتمعية، وتثير أسئلة حول الموت والشرف والوحدة والعجز وتبدد الأحلام والزيف وغيرها، وكل ذلك بلغة جميلة لا تخلو من شاعرية وصورٍ بديعة، ودهشة ومفارقة، ولم ينس الكاتب أن يستدعي شهودًا على العصر مثل: الحلاج والسياب وأبا نواس وجبران وسلفادور دالي وعرار وغسان كنفاني ولوركا ونجيب محفوظ وغالب هلسا، وربما يستنجد بهم لتفسير ما يحدث، أو للهروب معهم للنجاة مما سيحدث.
يذكر أن الكاتب خالد سامح، يعمل في دائرة الثقافة بصحيفة «الدستور» الأردنية، وصدر له أيضًا ثلاث مجموعات قصصية: «نافذة هروب-2008»، و«نهايات مقترحة-2011»، و«بين سطور المدينة-2017»، بالإضافة إلى رواية «الهامش،2020»، ويكتب في عدة صحف ومجلات، وشارك في العديد من الملتقيات الثقافية داخل الأردن وخارجها.