"مزنة" عودة إلى الكلاسيكية

قصة أشواق عمر مليباري تعيدنا إلى عقود وقرون سابقة، وحكايات الجفاف والقحط والمحل والعطش والجوع، وانقطاع السبل، وتفرق الشمل.
«مُزْنَة» قصة طويلة، ويمكن اعتبارها رواية قصيرة «نوفيلا»، تدور حول شخصية «مُزْنَة»
القصة تبرز القيم الإنسانية الجميلة مثل النخوة والشهامة والكرم وإغاثة الملهوف

تعيدنا قصة «مُزْنَة» للسعودية أشواق عمر مليباري إلى عقود وقرون سابقة، إلى حكايات الجفاف والقحط والمحل والعطش والجوع، وانقطاع السبل، وتفرق الشمل، وهلاك الحرث والنسل، وهجرة الناس بحثًا عن مكان أفضل، وحياة أقل قسوة إلى حين غيث وفرج.
كما تعيدنا القصة إلى جمال اللغة وسحر البيان. يقول الدكتور عادل جوده في تقديمه للقصة مخاطبًا القارئ: «وأهنئك وأنت في رحاب قصة تتسم بعمق البيان وشموله، وفصاحة السرد وسلامته، وبعمق التصوير البلاغي ودقته لما رسمته الحروف أمام عينيك من صور واضحة المعالم لأفكار شخصيات (مُزْنَة) وأصواتهم وطباعهم وحتى أشكال عيونهم، ولبيئة (مُزنة) من بيوتات الحجر والخيام، وارتفاع الجبال ووعورة الطرقات إلى الوديان، وحال السماء حين غياب السحب وتوقف الأمطار، وحال الأرض حين اصفرار المراعي وما ينتج عنه من نحر للإبل وذبح للأغنام».
«مُزْنَة» قصة طويلة، ويمكن اعتبارها رواية قصيرة «نوفيلا»، تدور حول شخصية «مُزْنَة»، ولا أريد أن ألخص القصة كيلا أفسد متعة القراءة، وهي على كل حال رواية قصيرة (115 صفحة)، يمكن أن تقرأ في ساعة، ولذا سأكتفي ببعض الإشارات حولها.
يمكن أن نصنف قصة «مُزْنَة» على أنها من الأدب الكلاسيكي من حيث الشكل والمضمون واللغة، فالقارئ للقصة سيجزم أنها حدثت في عصور سابقة، لا تمت لعصرنا الحالي بأي صلة، ولا يوجد أي دليل فيها يوحي بذلك، كما أن الراوي العليم سرد لنا الأحداث بالتسلسل، مع استرجاع لبعض الأحداث التي تخطر على ذاكرة «مُزْنَة» فيما يتعلق بأسرتها أو زوجها أو حياتها السابقة وصباها المدلل، كما أن العناية الفائقة باللغة ونسجها ببراعة وإتقان يذكرنا بالرافعي وعلي الطنطاوي وغيرهم ممن كانت لغتهم في السرد فتنة للقارئ وسحرًا، وتنتهي القصة بخاتمة سعيدة غير متوقعة كما هو مألوف في الروايات والقصص الكلاسيكية.
تبرز القصة القيم الإنسانية الجميلة مثل النخوة والشهامة والكرم وإغاثة الملهوف ومساعدة الجار وتكريم البنات والفخر بالأولاد ومساعدة المحتاج وجمال النفس والروح والطباع، كما تصور بشكل مؤثر مشاعر المعاناة والعطش والخوف والقلق والترقب واللهفة والجزع والامتنان والشوق والفراق واللقاء والحب والنفور وغيرها مما يلمسه القارئ في ثنايا القصة.

novel
مستقبل إبداعي كبير

وكما أسلفنا أن زمان القصة غير محدد، ولكنه في عصور سابقة لا ريب، فإن مكانها أيضًا لم يحدد بالاسم، وإنما بالوصف، حيث الجبال والوديان والصحراء والبحر والحواضر، وهو مكان يحتمل كثيرًا من الاحتمالات، والاسم هنا لا يهم، وغير ذي جدوى، ولن يضيف شيئًا للقارئ، فالأحداث هي التي تقود القارئ وتعنيه بالدرجة الأولى، ولكن، لو ذكر المكان لازداد القارئ أنسًا، واشتغل واشتعل خياله، وربما تشير القصة أن هكذا أحداث يمكن أن تحدث في كل البيئات المتشابهة التي تعتمد على المطر  وما يوجد فيها من آبار في معيشتها بعيدًا عن مصادر المياه من الأنهار والبحيرات والعيون.
الجميل في هذه القصة أنها أعادت إلى الذاكرة كثيرًا من الطقوس والأدوات التي نسيناها أو لم تعد من أبجديات حياتنا بعدما هاجرنا إلى المدن، مثل: المزودة، أقراص المضير، زند الحديد، الركوة، النجر، تربيعة النجر، المهباش، الحداء، الدلو، بالإضافة إلى العديد من المفردات التي لم تعد تطرق أسماعنا مثل: المراح، شجر السدر والأثل والعرفج والخزامى والسمر والغضا، الشعاب، الشق، المفازة، وغيرها. وقد تزينت القصة بالعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والأمثال، والأشعار، والمعلومات، التي أضافت لها بعدًا معرفيًا لطيفًا وظريفًا.
تذكرنا قصة «مُزْنَة» برواية «المطر الأصفر» للإسباني خوليو ياماثاريس؛ إذ تتشابه الروايتان في هجرة جميع سكان المكان/القرية مع اختلاف الأسباب، ففي حين يضطر أهل الجبل في رواية «مُزْنَة» لهجر قريتهم بسبب الجفاف والعطش والجوع، وكان آخرهم «مُزْنَة» وعمها الشيخ عناد، بينما في رواية «المطر الأصفر» يترك الجميع القرية بحثًا عن فرص أفضل في المدن أو الدول الأخرى، ولم يبق إلا شيخ كبير، يرفض أن يغادرها، مستميتًا في إعادة قريته إلى الحياة، لكنه يموت في النهاية وتموت قريته، كما ماتت قرية الجبل في رواية «مُزْنَة»، والمكان المهجور مكان ميت لا حياة فيه، فالمكان بأهله وناسه، وليس بيوتًا فحسب ولو كانت من ذهب.
وبعد؛؛؛ فإن «مُزْنَة، جدة: شركة تكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2021» قصة جميلة غنية بالتفاصيل المدهشة، والمشاعر الإنسانية النبيلة، تصور معاناة الناس وظروف حياتهم الصعبة، بلغة آسرة، وتراكيب محكمة، وسرد سلس، وهي الكتاب الأول المنشور للكاتبة أشواق عمر مليباري الذي يعد بمستقبل إبداعي كبير، بشرط أن تكون أكثر التصاقًا بالحاضر المعاش، المترع بالمشكلات والقضايا والأسئلة، والمثقل بآلام الناس ومعاناتهم وصراعهم وانكساراتهم وخيباتهم، جنبًا إلى جنب مع آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم وأفراحهم ومشاعرهم وسعيهم المستميت من أجل حياة أو بعض حياة.