يا ليتني في القومِ إذ مَسحوا اللحى

إن الشعر العربي القديم ما زال يكشف لنا عن أسماء ومواقف إنسانية خالدة، وربما لم يسمع البعض منا عن اسم الشاعر مرشد بن أبي حمران الجعفي من قبل، ولكنه واحد من الشعراء المنتسبين إلى العصر الجاهلي.

هناك بيت من الشعر العربي القديم يقول:

مسحوا لحَاهم ثم قالوا: سالموا ** يا ليتني في القومِ إذ مَسحوا اللحى

قرأتُ البيت، مع عدة أبيات أخرى، للشاعر العربي الجاهلي مرشد بن أبي حمران الجعفي الملقب بالأسعر الجعفي، وسبب شهرته بهذا اللقب - كما يقول الكاتب والناقد الكويتي عبدالرزاق البصير – بيت خاطب به عشيرته يقول فيه:

فلا يدعني قومي لسعد بن مالكٍ ** لئن أنا لم أسعرْ علهيم واثقبِ

أما البيت الذي نحن بصدده، فمن خلاله يخاطب الشاعر نفسه، أو يخاطب قومه ويندد بإخوته الذين تقاعسوا عن أخذ ثأر أبيهم، بل إنهم قبضوا دية والدهم من قاتله، وتقاسموها فيما بينهم، ثم باعوا فرسه وتقاسموا ثمنه أيضا، ولمَّا شبَّ شاعرنا عن الطوق - إذ كان طفلا صغيرًا وقت أن حدثت الحادثة – امتلأت نفسه بالغضب على إخوته وتقاعسهم عن أخذ ثأر أبيهم، فشاعرنا يرى أن غاية الحياة تتعدى هموم المعيشة إلى معنى الكرامة التي لا سعادة للأحرار والأُباة بدونها. على حد تعبير البصير في كتابه "نظرات في الأدب والنقد" (ص 34).

وإذا كان البصير قد عرض لأبيات هذا الشاعر، وهو في معرض حديثه عن الترجمة من لغة إلى أخرى، وأنه قد أتى بها للتدليل على أن الآثار الوجدانية لا تفقد إلا قليلا من قوتها حين تُترجم، فإننا ننظر إلى أبيات هذا الشاعر - وخاصة البيت الذي نحن بصدده – من وجهة نظر التعبير الشعري الجمالي الذي يصل إلى أدق المعاني بأقل عدد ممكن من الكلمات، وهو ما يطلق عليه التكثيف الشعري.

يقول الشاعر في مستهل أبياته مخاطبًا أباه:

أبلغ أبا حمران أن عشيرتي ** ناجوا، وللقوم المناجين التوى

ولقد علمت على تجشمي، الردى ** أن الحصونَ الخيلُ لا مَدَر القُرى

راحو .. بصائرُهُم على أكتافهم ** وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وأَى

مسحوا لحاهم ثم قالوا: سالموا ** يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى

والمعنى الإجمالي لهذه الأبيات – كما يقول البصير – أن شاعرنا يخاطب أباه القتيل في مستهل قصيدته بأن إخوته لخمولهم وذلهم، لا يجلسون مع الناس، وإنما انفردوا متهامسين فيما بينهم، وأنهم موتى، وإن كانوا أحياء، بسبب تهالكهم على  لذائذ الحياة، وأن الحياة علمته بعد تجربة طويلة بأن القوة هي التي تحمي الإنسان عن الردى، وأن الذي يعتقد بأن التجاءه إلى منزله بين أهله يبعده عن الموت، مخطئ كل الخطأ، فللإنسان أجله المحتوم.

ثم نأتي إلى بيت القصيد الذي أردت الإبحار إليه من خلال مركب البصير، وهو:

مَسَحوا لِحاهُم ثُمَّ قالوا سالِموا ** يا لَيتَني في القَومِ إِذا مَسَحوا اللِحى

والمعنى الشعري المكثف يتركز في الشطر الثاني من هذا البيت، كما أنه يتركز وبشدة في حرف الجر (في) وكان في استطاعة الشاعر أن يقول (مع) التي أعرف مقدما أنها ستخل بوزن البيت (من بحر الكامل) ولكنه لو أراد لوضعها في سياق شعري مغاير بحيث يحتفظ بتفعيلات (الكامل) كاملة أو سليمة.

إن التعبير "مسحوا لحاهم" يفيد هنا إعمال الذهن قليلا، والتفكير في الأمر الذي قاد في النهاية إلى الاستسلام الذي يعبر عن الجبن من وجهة نظر الشاعر. إنه تفكير سقيم منذ البداية. وكان الشاعر يود لو أنه كان في القوم "وليس مع القوم" أي بداخل عقل، وبداخل تفكير قومه، عندما بدءوا يفكرون ويمسحون لحاهم المرة تلو المرة، قبل أن يتخذوا قرار الاستسلام، وليرغمهم على تغيير اتجاه هذا التفكير إلى الناحية المضادة، عندما كانوا يجلسون ويتناصحون ويمسحون بأصابعهم على لحاهم في نوع من اللامبالاة، وعدم تقدير خطورة الموقف الذي قاد في النهاية إلى نوع من أنواع المهانة والمذلة التي أحس بها الشاعر والتي جسدها في قوله "راحوا بصائرهم على أكتافهم".

إن الشعر العربي القديم ما زال يكشف لنا عن أسماء ومواقف إنسانية خالدة، وربما لم يسمع البعض منا عن اسم هذا الشاعر؛ مرشد بن أبي حمران الجعفي، أو الأسعر الجعفي، من قبل، ولكنه واحد من هؤلاء الشعراء الذين ينتسبون إلى العصر الجاهلي الذي مازلنا في حاجة إلى الكشف عن العديد من شعرائه وخطبائه الذين يحملون قيما إنسانية رفيعة المستوى، عميقة الدلالة على جوهر هذا الإنسان العربي القديم.

ولعله من اللائق أن أضع القصيدة بكاملها هنا، ليقرأها من يشاء من القراء المهتمين:

هَلْ بَانَ قَلْبُكَ مِنْ سُلَيْمَى فَاشْتَفَى ** ولَقَدْ غَنِيْتَ بِحُبِّهَا فِيْمَا مَضَى

أَبلِغ أَبا حُمرانَ أَنَّ عَشيرَتي ** ناجوا وَلِلنَّفَرِ المُناجينَ التَوى

باعوا جَوادَهُمُ لِتَسمَنَ أُمُّهُم ** وَلِكَي يَبيتَ عَلى فِراشِهِمُ فَتى

عِلجٌ إِذا ما اِبتَزَّ عَنها ثَوبَها ** وَتَخامَصَت قالَت لَهُ ماذا تَرى

لَكِن قَعَيدَةُ بَيتِنا مَجفُوَّةٌ ** بادٍ جَناجِنُ صَدرِها وَلَها غِنى

تُقفي بِعيشَةِ أَهلِها مَلبونَةً ** أَو جُرشُعاً عَبلَ المَحازِمِ وَالشَوى

مَن كانَ كارِهَ عَيشِهِ فَلَيَأتِنا ** يَلقَ المَنِيَّةَ أَو يَؤوبَ لَهُ غِنى

وَلَقَد عَلِمتُ عَلى تَجَنُّبِيَ الرَدى ** أَنَّ الحُصونَ الخَيلُ لا مَدَرُ القُرى

راحوا بَصائِرُهُم عَلى أَكتافِهِم ** وَبَصيرَتي يَعدو بِها عَتَدٌ وَأى

نَهدُ المَراكِلِ لا يَزالُ زَميلُهُ ** فَوقَ الرِحالَةِ ما يُبالي ما أَتى

أَمّا إِذا اِستَدبَرتَهُ فَتَسوقُهُ ** رِجلٌ قَموصُ الوَقعِ عارِيَةُ النَسا

أَمّا إِذا اِستَعرَضتَهُ مُتَمَطِّراً ** فَتَقولُ هَذا مِثلُ سِرحانِ الغَضا

أَمّا إِذا اِستَقبَلتَهُ فَكَأَنَّهُ ** بازٌ يُكَفكِفُ أَن يَطيرَ وَقَد رَأى

إِنّي وَجَدتُ الخَيلَ عِزّاً ظاهِراً ** تَنجي مِنَ الغُمّى وَيَكشِفنَ الدُجى

وَيَبِتنَ بِالثَغرِ المَخوفِ طَوالِعاً ** وَيُثِبنَ لِلصُعلوكِ جَمَّةَ ذي الغِنى

وَإِذا رَأَيتَ مُحارِباً وَمُسالِماً ** فَليَبِني عِندَ المُحارِبِ مَن بَغى

وَخصاصَةُ الجُعفِيِّ ما صاحَبتَهُ ** لا تَنقَضي أَبَداً وَإِن قيلَ اِنقَضى

إِخوانُ صِدقٍ ما رَأَوكَ بِغِبطَةٍ ** فَإِنِ اِفتَقَرَت فَقَد هَوى بِكَ ما هَوى

مَسَحوا لِحاهُم ثُمَّ قالوا سالِموا ** يا لَيتَني في القَومِ إِذا مَسَحوا اللِحى

وكَتيبَةٍ لَبَّستُها بِكَتيبَةٍ ** حَتّى تَقولَ سَراتُهُم هَذا الفَتى

لا يَشتَكونَ المَوتَ غَير تَغَمغُمٍ ** حَكَّ الجِمالِ جُنوبَهُنَّ مِنَ الشَذا

يَخرُجنَ مِن خَلَلِ الغُبارِ عَوابِساً ** كَأَصابِعِ المَقرورِ أَقعى فَاِصطَلى

يَتَخالَسونَ نُفوسَهُم بِنَوافِذٍ ** فَكَأَنَّما عَضَّ الكُماةُ عَلى الحَصى

فَإِذا شَدَدتُ شَدَدتُ غَيرَ مُكَذِّبٍ ** وَإِذا طَعَنتُ كَسَرتُ رُمحي أَو مَضى

مِن وُلدِ أَودٍ عارِضي أَرماحَهُم ** أَنهَلتُهُم باهي المُباهي وَاِنتَمى

يا رُبَّ عَرجَلَةٍ أَصابوا خَلَّةً ** دَأَبوا وَحارَ دَليلُهُم حَتّى بَكى

باتَت شَآمِيَةُ الرِياحِ تَلُفُّهُم ** حَتّى أَتَونا بَعدَ ما سَقَطَ النَدى

فَنَهَضتُ في البَركِ الهُجودِ وَفي يَدي ** لَونُ المَهَزَّةِ ذو كعوبٍ كَالنَوى

أَحذَيتُ رُمحي عائِطاً مَمكورَةً ** كَوماءَ أَطرافُ العِضاهِ لَها خَلى

باتَت كِلابُ الحَيِّ تَسنَحُ بَينَنا ** يَأكُلنَ دَعلَجَةً وَيَشبَعُ مَن عَفا

وَمِنَ اللَيالي لَيلَةٌ مَزؤودَةٌ ** غَبراءُ لَيسَ لِمَن تَجَشَّمَها هَدى

كَلَّفتُ نَفسي حَدَّها وَمِراسَها ** وَعَلِمتُ أَنَّ القَومَ لَيسَ بِها غَنا

وَمُناهِبٍ أَقصَدتُ وسط جُموعِهِ ** وَعِشارِ راعٍ قَد أَخَذتُ فَما تُرى

ظَلَّت سَنابِكُها عَلى جُثمانِهِ ** يَلعَبنَ دُحروجَ الوَليدِ وَقَد قَضى

وَلَقَد ثَأَرتُ دِماءَنا مِن واتِرٍ ** فَاليَومَ إِن كانَ المَنونُ قَدِ اِشتَفى

بانَ الخَلِيْطُ ولَمْ أُفَارِقْ عَنْ قِلى ** نَسِيَ الحَبِيْبَ وفَلَّ صَبْوَتَهُ القِلَى

إِنَّ المُحِبَّ إِذَا جَفَاهُ حَبِيْبُهُ ** فَكَفَى بِصُحْبَتِهِ عَنَاءً للفَتَى

والهَمُّ مَا لَمْ تُمْضِهِ لِسَبِيْلِهِ ** لَيْسَ المُفَارِقُ يَا أُمَيْمَ كَمَنْ نَأَى

أَمَلٌ تَبَوَّأَ فِي مَنَازِلِ ذِلَّةٍ ** والمَيِّتُونَ شِرارُ مَنْ تَحْتِ الثَّرَى

أَحْيَاؤُهُمْ عَارٌ عَلَى مَوتَاهُمُ ** ومَتَى تُفَارِقْهُمْ تُفَارِقْ عَنْ قِلى

وإِذَا تُصَاحِبُهُمْ تُصَاحِبُ خَانَةً ** وإِذَا عَوَى ذِيْبٌ بِصَاحِبِهِ عَوَى

لا يَفْزَعُونَ إِلَى مَخَافَةِ جَارِهِمْ ** أَمْ هَلْ لِحَتْفٍ رَاصِدٍ مِنْ مُنْتَأَى

هَلْ فِي السَّمَاءِ لِصَاعِدٍ مِنْ مُرْتَقًى ** سِيَّانِ فِيْهِ مَنْ تَصَعْلَكَ واقْتَنَى

للهِ دَرُّكَ مِنْ سَبِيْلٍ واضِحٍ ** إِذْ لا ذَلِيْلَ أَذَلُّ مِنْ وادِي القُرَى

عَجَبًا عَجِبْتُ لِمَنْ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ ** والعِرْضُ بَعْدَ ذَهَابِهِ لا يُشْتَرَى

والثَّوبُ يَخْلَقُ ثُمَّ يُشَرَى غَيْرُهُ ** ويَصُونُ حُلَّتَهُ يُوَقِّيْهَا الأَذَى

إلا رَوَاكِدَ بَيْنَهُنَّ خَصَاصَةٌ ** سُفْعَ المَنَاكِبِ كُلُّهُنَّ قَدِ اصْطَلَى

ومُجَوَّفاتٌ قَدْ عَلا أَجْوَازَهَا ** أَسْآرُ جُرْدٍ مُتْرَصَاتٌ كَالنَّوَى

ومُجَوَّفٍ بَلَقًا مَلَكْتُ عِنَانَهُ ** يَعْدُو عَلَى خَمْسٍ قَوَائِمُهُ زَكَا