يحيى القيسي: النقد الحقيقي لا يظل تابعا للأدب

الأديب الأردني يرى أن مأساة الكتاب العرب أن أعمالهم تظل حبيسة البلدان الناطقة بالعربية.

الكتابة.. هذا السفر المفتوح على الأكوان حيث الكلمات نشيد الذات في حلها وترحالها ترجمانا وتقصدا لقول الكامن في الشواسع وفق الحلم والرغبات وما به يسعد الكائن وهو يقتفي أثر البهاء.. ثمة شجن وأغنيات جمة وأسئلة مربكة ... هكذا ومن كل هذا وغيره تجترح الكتابة بضروبها وصنوفها وأجناسها وتفاصيلها وسردياتها وإبداعها عوالمها الباذخة وجمالها ومتعتها التي لا تضاهى..

هكذا أتذكر صاحبنا في تلك الأيام التونسية في أواخر الثمانينات حيث عاش معنا وقاسمنا الحياة وهواجس الكتابة .. أذكر ضحكته العارمة وشغفه بالكتابة وهيامه الأدبي هذا الذي قاده إلى الإبداع من خلال حضوره المميز في الساحة الأدبية العربية وكذلك إصداراته العديدة في مجالات السرد وهو المعني بالكتابة والإعلام والنقد .. مسيرة بين الأردن وتونس ولندن ومدن شتى وأفق يانع بالأحلام والكتب القادمة.. أتذكر هذا الجميل وأعني الكاتب يحيى القيسي.. هو روائي، وباحث، وإعلامي من مواليد قرية حرثا 1963 .. درس اللغة الإنكليزية في جامعة فيلادلفيا بمرحلة البكالوريس، ثم تابع دراساته العليا في الترجمة في الجامعة الأردنية. عمل في وزارة الثقافة الأردنية خلال الفترة من 1996 إلى 2006 مدير تحرير لعدد من المجلات الأدبية والفنية مثل صوت الجيل، مجلة الفنون، أفكار، ومديرا للدراسات والنشر، ومديرا للتبادل الثقافي إضافة إلى عضويته في العديد من اللجان المتخصّصة مثل التخطيط والنشر وغيرها. عمل في الصحافة التونسية والخليجية والأردنية واللندنية، مراسلاً ومحرراً منذ العام 1990 وحتى العام 2009، كما قام بالكتابة والإعداد لنحو 25 فيلما توثيقيا للتلفزيون الأردني بعنوان "سيرة مبدع" عن أبرز الشخصيات الفكرية والأدبية الأردنية. عمل في هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام مديرا للشؤون الثقافية، ونائبا للمدير العام 2013-2016 وأشرف على العديد من المؤتمرات الإعلامية المتخصصة والمهرجانات الفنية والملتقيات والمعارض، وقام بتأسيس الموقع الإخباري "الفجيرة نيوز"، ومجلة "الفجيرة الثقافية". وعلى مدار الخمسة عشر عاما الماضية انشغل بالقراءات في التصوّف والماورائيات والفكر الديني إضافة إلى تطوير تجربته الروحية، وتفرّغ تماما خلال الفترة من 2016 إلى 2018 لقراءة متعمّقة لكتب الشيخ محيي الدين بن عربي، وقد أصدر الجزء الأول من كتاب يراجع هذه التجربة بكلّ جرأة، ويجهز حاليا لكتابه البحثي التأملي الجديد لمراجعة الفكر الديني. عمل في بريطانيا خلال الفترة من 2018 إلى 2024 ضمن فريق مؤسسة غير حكومية تعنى بالفكر والتنمية البشرية والتنوير. أنجز مئات الحوارات مع عدد من أبرز الأدباء والكتاب العرب إضافة إلى كتابة المقالات. مؤسس ومدير تنفيذي لمنصة ألف كتاب وكتاب في بريطانيا والمتخصصة بالكتب العربية الرقمية. وله من حيث الإصدارات في الرواية: "حيوات سحيقة" عن دار خطوط للنشر والتوزيع بعمّان – 2020 و"بعد الحياة بخطوة" – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2017 و"الفردوس المحرّم" – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2015 و"أبناء السماء" – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2010 و"باب الحيرة" – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2006.. وفي القصة القصيرة: رغبات مشروخة – دار النسر للنشر والتوزيع – عمان – 1996 والولوج في الزمن الماء – دار طبريا للنشر والتوزيع – إربد – 1990 وكيف تمسك أرنباً؟ - مجموعة قصصية - إصدارات وزارة الثقافة 2024.. وفي المجال الثقافي والبحث الفكري: ابن عربي في الفتح المكي: الانتقاص من القدر المحمّدي – مؤسسة أونيكس – بريطانيا - 2019 – الطبعة الثانية 2022 المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان وحمّى الكتابة – حوارات في الفكر والإبداع – منشورات الدائرة الثقافية لأمانة عمان 2004 ... عن تجربته ومسيرة الكتابة معه وبعض قضايا الأدب كان هذا الحوار وهذه الفسحة الرائقة من الحديث إليه:

كيف يتحدث الكاتب والروائي يحيى القيسي عن تجربة البدايات مع الكتابة والسرد ... ومع الذات والمكان؟

ولدت في قرية ساحرة، تقع على هضبة داخل المربع الذهبي الذي يضم شمال الأردن، وجنوب سوريا، وشمال فلسطين، وجنوب لبنان، حيث الواقعية السحرية تسري بشكل فطري في المرويات الشفاهية التي استيقظت عليها، وحيث الحروب المتواصلة ابتداء من 1967 التي شكلت الوجدان المبكر لقضية فلسطين الكبرى. ثمة الطفولة المغموسة بالتدين التقليدي الذي لم تكن السياسة قد أفسدته، حيث طقوس المولد النبوي، والأعياد، وغيرها، واكتشاف متعة القراءة بما وجدته في بيتنا من كتب لأخي الأكبر، ثم مكتبة المدرسة، وهكذا، وصولا إلى انغماسي فيما بعد بالمجتمع المدني في إربد ثم العاصمة عمان واختلاطي بالأدباء هناك. استطيع القول إنني جئتهم جاهزاً بنصوص قصصية ناضجة تم نشرها في أبرز الملاحق الثقافية المحلية والعربية منذ العام 1988، لهذا جاءت مجموعتي القصصية الأولى "الولوج في الزمن الماء" في العام 1990 لترصد هذا الاشتغال الأدبي السردي الذي شق طريقه في المشهد الثقافي الأردني حينها.

الرواية والنقد.. ماذا تقول عن العلاقة بينهما؟

النقد المتوفر حالياً أغلبه إخواني الطابع، أي يدخل في باب المجاملات والعلاقات العامة، وثمة نوع آخر ينتمي إلى ما صنفه الجاحظ بقوله "تمييز جيد الأدب من رديئه"، لكن النقد الحقيقي برأيي لا ينبغي له أن يظل تابعاً للأدب، فيكتب متابعاته الخاصة بناء على الإصدارات، بل النقد الذي أقدره عالياً هو الذي يقوم بقراءة النص قراءة جمالية، واكتشاف مكامن النص وتقنياته، والتأشير على مستقبل السرد عند هذا الكاتب أو ذاك، وبيان موطن الضعف أو القوة.

والوضع الحالي لكتاب الرواية العرب غالباً أنهم لا يجدون متابعة حقيقية لكتاباتهم بالعرض المتعمق والسابر للنصوص، ولا بالنقد الأكاديمي التحليلي البحثي، ولا حتى بالمقالات التعريفية. ثمة أزمة حقيقية في النقد، وقصور عن متابعة الإصدارات الجديدة، لهذا طغت على السطح موجة من الكتاب الشباب الذي يستسهلون الكتابة الروائية، ويأخذونها على أنها موضة تنتمي إلى موجة عاتية مدعومة من وسائل التواصل الاجتماعي، والبعد عن الكتابة الروائية الناضجة والاحترافية.

كتبت القصّة والرواية.. هل ترى أنك أضفت لهما؟

نعم أصدرت 3 مجموعات قصصية وخمس روايات، ومسألة أن هذه التجربة السردية أضافت الجديد أو ساهمت في مراكمة المشهد التقليدي متروكة للنقاد والباحثين، لكن باعتراف الكثير منهم عبر المقالات أو الدراسات المعمقة فإن تجربتي قد اتخذت منحى جديدا ومغايرا للسائد حين تخصص في روايات الماورائيات. من جهة أخرى أنا أتبنى الرواية التي تقوم على البحث والتقصي والاشتغال الدؤوب على موضوعاتها، إذ لا يكفي الاعتماد على الخيال فقط، أو التورط بالموضوعات اليومية المستهلكة الاجتماعية والسياسية وغيرها، وعسى أن تكون رواياتي قد ساهمت ولو قليلاً في إيجاد مكانة لها عبر خصوصيتها وفرادة موضوعاتها، وانشغالاتها.

ماذا عن أحوال الرواية العربية؟ وما هي القضايا الأدبية التي شغلتك مع جيلك؟

الرواية العربية التي يتم إنجازها من الكتّاب المُحترفين والمتمرسين في أفضل حالاتها، فثمة تنوع في التقنيات السردية، وتعددية في اللغة، واختيار موضوعات جديدة وغنية بالدلالات، والدليل على ذلك كثرة الجوائز الأدبية العربية الكبرى المخصصة للرواية، ولكن ليس كل من يكتب رواية فهو يعبر حقيقة عن تطور هذا النوع الأدبي السردي بل ثمة الكثير من الغثاء أيضاً كما أشرت من قبل، وخصوصاً من جيل وسائل التواصل الاجتماعي والتيكتوك، ومستخدمي الذكاء الاصطناعي الذين يستسهلون الكتابة الروائية دون أن يكون لديهم رصيد حقيقي من القراءة وفهم المآلات التي وصلت إليها الرواية العربية عبر قرن من الزمان تقريباً، لهذا ربما لا تندرج كتاباتهم تحت مسمى الرواية بل "الحكاية" المستعجلة المسلوقة، التي لا تقدم فكرة ناضجة، ولا تقنيات كتابية مقنعة، ولا لغة قوية وصحيحة.

بعض الشعراء مروا إلى الرواية وأبدعوا فيها .. كيف ترى ذلك؟

الإبداع الحقيقي عبارة عن نهر جار، قد يتخذ مسارب متعددة في طريقه، وثمة الكثير من الشعراء الذين هاجروا إلى الرواية أو جمعوا بين النوعين ونجحوا فيها، مثل إبراهيم نصرالله، وأمجد ناصر، وجلال برجس وغيرهم، وثمة شعراء كتبوا الرواية وفشلوا في ذلك، والأمثلة كثيرة، كما أن هناك هجرة من القصة القصيرة إلى الرواية، ولهذا الأمر أسبابه الكثيرة منها الجوائز المالية الضخمة المخصصة للرواية، وبالتالي قد تكون مطمعا عند بعض "المهاجرين"، أو يكون الأمر على سبيل التعددية في مسارب الإبداع كما أسلفت. في كل الأحوال الأمر متروك أيضا للباحثين والنقاد الجادين لبيان من نجح ومن أخفق إضافة بالطبع إلى رأي القراء والمتابعين.

هل ترى للأدب من جدوى في الزمن الراهـن؟

لا يكتب المرء على سبيل الخلوص إلى أجر من وراء كتابته، لقد تورطنا كلنا في الكتابة الإبداعية لأسباب تكوينية ربما تتعلق بالجينات أو بالمواهب المولودة مع المرء أو المكتسبة لاحقا، لهذا نكتب لأننا ولدنا على محبة الكتابة والانغماس فيها سواء كان لها جدوى أم غير ذلك، أما زماننا الراهن فربما كان مثل أزمنة سابقة لأمتنا التي عاشت ويلات وحروب كثيرة واستعمارات وانكسارات منذ ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا.

الكلمة ليست سيفا وليست بديلة عنه، هي محاولة لإضاءة شيء من العتمة التي تهيمن على نفوس الناس، لمنح بعض الأمل، والجمال أيضا لهذا الواقع الذي تشوه كثيراً وطالته مخالب الطاقة السلبية.

كيف تقيم حال العلاقة بين الكاتب والقراء اليوم؟ 

القارئ أو المتلقي هو الذي تغيرت أحواله اليوم لأسباب كثيرة، منها التقدم التقني المذهل والذي أوجد خيارات كثيرة أمام هذا المتلقي غير الكتاب، لكن في النهاية يحتاج الأمر سنوات طويلة قبل أن تتحدد سمات هذه العلاقة المتقلبة.

حاليا تشهد معارض الكتب حضور العديد من القراء لاقتناء الكتب، لكن الوضع بالطبع لا يشبه ما يجري في البلدان الغربية حيث التشجيع على القراءة منذ الصغر رغم كل المشاغل التقنية المشتتة للقراءة، ولكن علينا الانتباه إلى نوع آخر من القراء أصبح يفضل قراءة الكتب بصيغة رقمية، أو صوتية.

لقد تابعت فعاليات معرض لندن الدولي للكتاب خلال شهر مارس/آذار 2024 ووجدت أن التوجه العالمي في صناعة الكتاب، والعلاقة مع القارئ تركز على تطوير القراءة الرقمية عبر التطبيقات والهواتف النقالة والأجهزة اللوحية، وأيضا عبر سماع الكتب، لهذا يجب علينا الانتباه إلى هذه الوسائل الجديدة حتى لا نخسر القراء الجدد.

هل تُرجمت كتاباتك السردية وإلى أي اللغات؟

للأسف لم تترجم أي من أعمالي الروائية أو القصصية إلى لغات أخرى، ربما يجري حاليا ترجمة واحدة من رواياتي إلى الإنكليزية من خلال متخصص عربي مقيم في هولندا، وآمل أن تكتمل هذه الترجمة ليتم نشر الكتاب كي تفتح المجال للغات أخرى.

هناك مأساة حقيقية عند الكتاب العرب وهي أن أعمالهم تظل حبيسة البلدان الناطقة بالعربية لأنها لم تترجم، ما عدا الكتاب الذين فازوا بجوائز مثل البوكر وكتارا، فإنَّ الفرصة مهيأة لأعمالهم ليتم ترجمتها إلى لغات عديدة. أعتقد من الضرورة أن تفكر الجهات العربية الثقافية الرسمية والأهلية بإيجاد آلية لترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى، وليس المقصود اللغات الحية المعروفة مثل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية فحسب، بل إلى الصينية والروسية والهندية وغيرها أيضا، وهذا المشروع ما يزال مؤجلا عند الكثير من الجهات، وانتقائيا للأسف.

وأنت في أوج هذه المسيرة السردية .. ماذا تقول تجاه علاقة الأدب بالواقع لاسيما جراح غزة ولبنان وهذا العالم السلبي الذي فقد ضميره وعقله وصار بلا قلب؟

لا أظن أني في أوج مسيرتي بعد، صحيح أننا كبرنا في العمر، وأصبحت الخيارات المتاحة أمامنا قليلة والزمن ضيقا، إنما يكون الإنسان في أوج مسيرته يوم رحيله عن هذا العالم، لهذا ثمة الكثير مما لم ننجزه بعد، أما بخصوص علاقة الأدب بالواقع، وما يجري حاليا في غزة ولبنان، فقد ولدت على كوارث كبرى وأولها كما أشرت هزيمة 1967، والانتماء إلى فلسطين كما عبر عنه الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا" هو انتماء فكري وليس بالدم، فقد يتحول الدم إلى ماء أو كوكا كولا، لا يمكن التعويل عليه، لكن الانتماء الفكري لقضية فلسطين هو مسألة بدهية عند المبدع العربي في كل مكان، فقد يكون التونسي فلسطينيا أكثر من الفلسطيني بالدم، وقد يكون المصري أو السوداني وهكذا، ونحن لم نغادر قضية فلسطين أساسا فنحن نعيش وجعها يوميا، وسواء كان تعبيرنا بالكتابة عن ذلك مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة فإن الانتصار لهذا الشعب وقضيته مسألة أساسية. صحيح أن دهاليز السياسة مثيرة للجدل وفيها الكثير من الكذب والتضليل، لكن البوصلة واضحة بالنسبة إلينا ككتاب، وكلما وجدنا وسيلة للتعبير أو الدعم لن نقصر أبداً، وقد ظهرت فلسطين وقضيتها في رواياتي كلها تقريبا رغم موضوعاتها الماورائية لأنها كامنة في ما وراء السطور وستظل تؤرقنا حتى الوصول إلى الحل النهائي بعودة الأرض المحتلة إلى أصحابها.

 بماذا تحلم ككاتب... يا يحيى الأديب والإنسان؟

أتمنى أن أتوقف عن اللهث اليومي من أجل العيش، وأتذكر هنا بيتا للشاعر الإنكليزي توماس إليوت يعبر عن ذلك "أين هي الحياة التي ضيعناها في العيش؟"، إذ إن الخلاص من هذا الملف يعني توفر الوقت لكتابة أخرى أتمنى استكمالها، مثل مراجعاتي لتجربة الصوفي الشهير ابن عربي، ولكتابة سيرتي الخاصة عن فترة تصوفي أيضاً، وغير ذلك من المشاريع، إضافة بالطبع إلى مواصلة حفري المعرفي والعرفاني للإجابة عن الأسئلة الأربعة الكبرى بطريقة غير تقليدية: من نحن؟ من أين أتينا؟ ما هو دورنا؟ وإلى أين نذهب بعد الموت؟

وأخيرا..

"بقية القصّة مع القصّاص"، كما يقول الحلاج في طواسينه، فهي تختصر كل ما لم نقله هنا أو نسعى لقوله.