١٩٨٤ وأجندة الدكتاتوريين

رائعة جورج أورويل تظل واحدة من روائع الأدب الإنساني، لأنها تفاجئ قارئها بقوة طرحها وقدرة كاتبها على تخيل عالم مواز للواقع الذي نعيشه.
محو ذاكرة الناس، والتسلل إلى رءوسهم لتسييد ما تطرح الدكتاتورية من فكر
الرواية لعبت على فكرة بسيطة وهي مقلوب عام ١٩٤٨ إلى ١٩٨٤

بعد أن قرأت رائعة جورج أورويل 1984 يمكنني أن أرصد من وجهة نظري عدة ملحوظات وهي:
* من حيث المبدأ هذه واحدة من أهم الروايات الكبرى في الأدب العالمي، نظراً لقوة الطرح الذي قدمته، وقدرتها المدهشة على خلق عالم مواز للعالم الذي نعيش فيه، وقدرة مؤلفها على إعادة تخيل مفردات العالم في ظل هيمنة الدكتاتورية، وهو ما جعله يقدم طروحات جديدة عن كل شيء، مديرا الحياة في ظل نسق تخيلي كامل عن المواطن البسيط الذي تنمحي حياته في سياق ورؤى ورغبة الحزب أو الجماعة. 
والمدهش هو تطابق كل الرمزيات التي طرحها المؤلف مع أي واقع تهيمن عليه الدكتاتورية، بدءا من محو التاريخ السابق عليها وإعادة صياغته وفقا لما يخدم مصالحها في البقاء بالسلطة، فضلا عن أدواتها وآلياتها في محو ذاكرة الناس، والتسلل إلى رءوسهم لتسييد ما تطرحه من فكر، حتى ولو كان مناقضا للمنطق أو مخالفا لما هو معهود أو ثابت تاريخيا خلال الأعوام وربما الشهور الأخيرة، وقوة أدوات الدكتاتورية وإعلامها ورجالها في التصفيق والتهليل لكل تناقض تنتجه، وكل كذب تقوله، وقدرتها على التجسس على أفكارهم، والتعامل معهم على أن التفكير في حد ذاته جريمة، وأنها لا تتخلص من معارضيها ولكن تبخرهم، فلا يكون لهم أثر في الحياة، لا قبل المعارضة ولا بعدها، لا في الواقع ولا في السجلات ولا في الذاكرة ولا الأذهان، وأنها حين تشفق على بعض مواطنيها تعيد تأهيلهم، من جديد عبر سلسلة من التعذيب المقترن بغسيل الذاكرة والوعي.

اورويل ربما اضطر لكتابة مزيد من الفصول أو الأجزاء للتأكيد على الفكرة، وهو ما حول إنسانيتها العظيمة وخيالها المدهش المباغت للقارئ إلى مجموعة رؤى أيديولوجية

وفي ظل كل هذا الحصار والجبروت لا يجد الناس أمامهم سوى الانسحاق والاستسلام، مستجيبين لغسيل أحلامهم وأفكارهم وذكرياتهم وذاكراتهم وتواريخهم الشخصية والعامة، بل وتسارعهم في إثبات ذكائهم في الإيمان بما يقال، وأهمية فهم الواقع وفهم ضروراته والوقوف ضد أي محاولة لتفتيت الحزب أو تقليل الإيمان بالأخ الكبير، واستسلامهم نفسيا وأخلاقيا للتكيف مع كل هراء ينتجه الحزب ورجاله، بل وإسهامهم في توزيع ونشر وتعميم هذا الهراء والإيمان به وبنقيضه حال قالت السلطة ذلك، والإبلاغ عن كل من يسعى للتفكير خارج السياق المملى من أعلى.
* هذه القدرة العبقرية لجورج أورويل على تخيل العالم وفقا لهذا النسق المجنون هي أهم ما يميز رائعته، وهو ما جعلها في مصاف الأعمال الكبرى إنسانياً، رغم اعتمادها على الأيديولوجيا.
* هذه الرواية ليست ضد السلطة البريطانية، ولا يمكن اعتبارها نوعاً من العمل النضالي ضد السلطة، رغم كون أورويل عاين ويلات الحرب العالمية الثانية، وعاين ويلات الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينيات، إلا أن الرواية فيما يبدو كتبت بمساعدة من المخابرات البريطانية، كنوع من الدعاية المضادة للشيوعية، والسعي إلى تصويرها على أنها نهاية العالم، ونهاية الحياة، وأنها تعني موت الفرد أو استلابه التام لصالح الحزب الواحد سواء كان البلاشفة أو ما شابههم كالاتحاد الاشتراكي في مصر في فترة الستينيات أو غيره من الصيغ التي انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية.
* الدعاية الموجهة في الرواية ضد روسيا وستالين والحزب البلشيفي واضحة، والجزء الثالث من الرواية يكاد الكلام فيها يكون بأوضح ما يكون عن الشيوعية، وما يمكن أن تفعله في المؤمنين بها، وكأن المؤلف خشى ألا يفهم القارئ ما أراد أن يقوله بوضوح فراح يؤكد ويوضح بأكثر من طريقة ومعنى، مما جعله أضعف أجزاء الرواية. 

novel
من روائع الأدب الإنساني

* تضمن الجزء الثالث نصا طويلا على اعتبار أنه الكتاب الذي كتبه معارض أو مناهض للأخ الكبير والحزب ويدعي جولدشتاين، والكتاب أقرب إلى فكرة الميثاق الذي وضعه عبدالناصر، وبالتأكيد كان في روسيا كتاب مشابه، أما المعارض المثقف فهو أشبه بتروتسكي الذي انشق على ستالين.
* الجزء الأول هو أعلى الأجزاء فنية لأنه يباغت القارئ بقدرة مهولة على التخيل، قدرة على صياغة عالم مفارق تماما لما هو معروف، قدرة على كشف أجندة الدكتاتورية ورغبتها في محو التاريخ من خيال وعقول وذاكرة الناس، وكيفية عمل هذا، وكيفية إقناعهم بالشيء ونقيضه في وقت واحد. وكيف يهلل الناس بإيمان وطني مرعب لكل هراءات الدكتاتورية ورجالها.
*  لا أستبعد أن رجال المخابرات البريطانية ساعدوا جورج أورويل في عمله، بداية من وضع تصوراتهم ومخاوفهم من سيادة الدكتاتورية الشيوعية، وصولاً لتندراتهم على أسماء الوزارات واللغة المستخدمة في كتب وخطب الشيوعيين.
* لعبت الرواية على فكرة بسيطة وهي مقلوب عام ١٩٤٨ إلى ١٩٨٤، فالأول هو العام الذي كتب فيه أورول روايته، والثاني هو مقلوبه، وكأنه يقول إنه بسيادة الشيوعية سوف يموت العالم على حاله، ولن يحدث أي تطور، ومن ثم فلا يوجد أي تطور أو تخيل على مستوى التقنيات إلا في فكرة الشاشة التي توجد في كل مكان والتي يتم التنصت من خلالها على كل فرد في الشارع أو الميدان او البيت أو الحمام، فضلاً عن أنها تعطي التعليمات للشخوص فيما يخصهم.
* الكاتب طرح الحل في فكرة الجنس بوصفها القدرة على الحياة في مواجهة الموت، واعتبر التحلل الجنسي هو أعلى أمنيات الفرد في مثل هذه المجتمعات، لأنه يمكنه أن يسقط الدكتاتوريات المحصنة في قلاعها.
* الجزء الأول هو الأقوى ثم يليه الثاني فالثالث، وكأن قدرة المؤلف على تنمية الفرض الذي طرحه ما كان لها أن تكتمل بنفس القوة، وربما اضطر اورويل لكتابة مزيد من الفصول أو الأجزاء للتأكيد على الفكرة، وهو ما حول إنسانيتها العظيمة وخيالها المدهش المباغت للقارئ إلى مجموعة رؤى أيديولوجية لا تختلف عن مساعى وأفكار وأداءات الدكتاتورية التي سعى لنقضها.
* رغم ذلك تظل 1984 واحدة من روائع الأدب الإنساني، لأنها تفاجئ قارئها بقوة طرحها وقدرة كاتبها على تخيل عالم مواز للواقع الذي نعيشه، وقدرته على الوصول إلى ما يمكن تسميته بالقانون الإنساني في ظل هيمنة الدكتاتورية، وهو القانون الذي يتحقق في كل زمان ومكان طالما تحققت شرطيات وجوده، وهذه هي أهم ميزات الأدب الإنساني الكبير.