شكري المبخوت يحذر: النقد العربي أمام أزمة تهدد وجوده

محمد الحمامصي
تراجع الآداب والإنسانيات تدريسا وبحثا

يتمتع د. شكري المبخوت بحضور بالغ الثراء على الساحة الثقافية التونسية والعربية، حيث تتنوع اشتغالاته بين الدرس الأكاديمي والنقد الثقافي والترجمة والرواية وكتابة المقال، الأمر الذي شكل لديه رؤية خاصة بمجمل تجليات الثقافة والإبداع العربيين، وقد قدم مجالات اشتغاله عددا من المؤلفات التي تشكل إضافة متميزة.

حصل على العديد من الجوائز العربية المهمة، فبعد فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر 2015" عن رواية "الطلياني"، حصل على جائزة الملك فيصل العالمية للغة العربية والأدب 2018 عن أعماله النقدية "سيرة الغائب، سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب "الأيام" لطه حسين"، و"أحفاد سارق النار: في السيرة الذاتية الفكرية"، و"الزعيم وظلاله: السيرة الذاتية في الأدب التونسي".

تولى المبخوت مواقع مهمة في الجامعة منها عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة ورئيس جامعة منوبة، وهو مؤسس مجلة "الفكر الجديد" ومديرها المسئول، ويشغل الآن منصب مدير معرض تونس الدولي للكتاب. التقيناه على هامش احتفالات جائزة سلطان العويس بتوزيع جائزتها للدورة الـ 15 وكان معه هذا الحوار.

حول جمعه بين الدرس الأكاديمي والاشتغال بالنقد والترجمة وأخيرا الرواية، والانتقالات الرئيسية في هذه التجربة، قال "كل ما تراه تنوعا وفتحا لجبهات متعددة، كان يسير باستمرار في رأيي في اتجاه واحد، لأن المرء يريد دائما في حياته أن يكون له مشروع، أن يقول كلمة أن يقول فكرة، وربما يبحث عن نمط الخطاب أو في أنماط الخطاب المختلفة، سعيا إلى أن يصوغ هذه الفكرة، لست أرى شخصيا اختلافا أو تناقضا بين هذه الأنماط من الخطاب التي مارستها وذكرتها في سؤالك، فالبحث العلمي حتى في اختياراتي سواء حين كتبت في الدراسات الأدبية أو الدراسات اللسانية هو بحث عن معنى ما، لا أستطيع الآن أن أحدده، ولكن هو البحث عن هذا المعنى الذي أعبر عنه أيضا بطرق أخرى من خلال المقالات الصحفية التي أكتبها والأعمدة، من خلال أيضا الأدب، لأن الأدب يتيح مجالا أوسع لتضارب الرؤى، للصراع بين التصورات، بين التأويلات، بين وجهات النظر، إلى آخره، لذلك ما قد يبدو انتقالات مجرد شكل ظاهري، أما ما يعتمل في النفس والعقل فهو شيء واحد، وربما إذا أخذت مسافة مما كتبت ونظرت فيه اليوم أستطيع أن أحدد الملامح، ملامح المعنى الذي أبحث عنه بهذه الخطابات المختلفة.

• الروائي الأكاديمي

لكن الذهنية الأكاديمية أو ذهنية الناقد والدارس والباحث أيضا تختلف عن ذهنية المترجم تختلف، عن روحه، أيضا تختلف عن روح الإبداع خاصة، فضلا عن وصول متأخر في كتابة الرواية، وهنا رأى المبخوت أن "هناك طريقتان للإجابة، الأولى أننا حينما ننظر إلى ما يكتب في العالم اليوم نجد أن كتابا كثيرين في فرنسا أو إيطاليا أو غيرها من الدول الأوروبية هم أكاديميون، إن هذا السؤال الذي يضع تقابلا بين الممارسة الأكاديمية وبين الممارسة الإبداعية، سؤال نطرحه نحن في بعض الأوساط الثقافية العربية، ومع ذلك على المستوى العربي هناك في المغرب مثلا أكاديميون كثيرون يكتبون الرواية، إذن الأمر لا أعتقد أنه يطرح في هذا المستوى، الفرق ينبغي أن يكون في احترام جنس القول أو جنس الخطاب الذي نكتب، فإذا كتبنا أدبا ينبغي أن نحترم خصائص هذا النوع من الكتابة، وإذا كتبنا بحثا علميا علينا أن نحترم أيضا خصائص هذه الكتابة، فالوصول متأخر أو باكر هذا أمر ثانوي، الإيطالي أمبرتو إيكو متى كتب روايته الأولى؟ كتبها في سن متأخرة وهو أكاديمي أيضا، أنا لا أتخذه نموذجا على أهمية الرجل، ولكن هذا مساري.

وأعتقد أن هذه الانتقالات أو دروب الانتقال من جنس إلى آخر ينبغي أن ينظر إليه من زاوية: هل احترمت في الكتابة الروائية خصائص هذا النوع؟ هل احترمت في الكتابة الأكاديمية معايير وضع الكتب والمقالات أو النظريات؟

هذا هو المهم بالنسبة إليّ من الناحية الذاتية الآن أجيب وهو الدرب الثاني من الإجابة هو كما قلت لكم الإنسان لا يمكن اختصاره في بعد واحد أو في جانب واحد، فثمة هواجس وأسئلة يطرحها المرء على نفسه ويسعى في كل نوع من الخطاب أن يصوغ بعضا من هذه الحياة وبعضا من هذه الهواجس، شخصيا أعتقد أن المهم هو أن ننتج وأن نقول ما نرغب في قوله مهما كان شكل الكتابة، ربما هنا الفارق الأساسي أن الأدب والرواية خاصة تجد لها جمهورا وسعا وأكبر من الكتابة الأكاديمية التي لها جمهور أضيق.

الكتابة في اللسانيات جمهورها أضيق من جمهور الكتابة في النقد الأدبي وهكذا، لكن الأمر لا يزعجني لأنني حين أكتب البحث العلمي أحاول أن أكون كالنحلة التي تنتج أو تشتغل دون أن تعرف من سيتمتع بعسلها، في الكتابة الأدبية أيضا هناك لا أقول تقدير الجمهور ولكن الكاتب يضع المتلقي ضمن أفق الكتابة الجمالية، لا يمكن أن نكتب خارج سياقنا التواصلي الأدبي، أقصد بذلك ما كتب من روايات في العربية من قبل، وما يكتب الآن، توجهات الرواية في هذا البلد أو ذاك، أو في الإبداع العربي، إذا ربما الهاجس التواصلي بالمعني الأدبي، التواصل الأدبي في الرواية أكبر منه في البحث العلمي.

• انتهى عهد الإلهام

لكن لا يمكن على الأقل نفي تأثير الخبرة الأكاديمية وخبرة الترجمة على الأقل تقنيات النص الروائي، وسرده، اللغة، وقد أكد المبخوت أن هناك فكرة واضحة الآن أصبحت منتشرة، تتمثل في انتهاء عهد الإلهام وعهد العبقريات والوحي وغير ذلك، لقد دخلنا في عهد أن الإنسان ينحت من فكره، من نفسه، ما يعبر به عن نفسه في الأدب، والفكرة السائدة اليوم والتي لها منطقها ومعقوليتها أن الرواية وليدة خبرة، ولا أفهم أننا نقبل أن يكون للمرء خبرة اجتماعية مثلا أو سياسية أو خبرة بالنفسيات تيسر له صياغة نصوصه الأدبية، ولا نعتبر المعرفة الأكاديمية بالتقنيات والأساليب والطرائق جزءا من هذه الخبرة التي تكوّن كفاءة الروائي في الكتابة؟ لماذا لا نعتبر ذلك؟ يقال أحيانا خاصة في تونس أن الأكاديميين يفكرون كثيرا فيما يكتبون، فيأتي أدبهم مصطنعا، أي ليس فيه ذاك التدفق وتلك الروح إلخ.

أقول إن هذا الكلام كلام مردود على صاحبه، لأن الرواية اليوم في العالم كله لا تكتب بالسذاجة التي نعتقدها، والعمل الروائي أصبح ممارسة معرفية وليس مجرد حكايات تروى، إذن هذا الجانب المعرفي مهم لعدة الروائي حين يضع نفسه في مقام كتابة الرواية.

إن كل الروائيين الجادين أكاديميين أو غير أكاديميين، إذا كتبوا في موضوع ما يوثقون له، يبحثون عن المعلومة في مصادرها، في كتبها، خذ مثلا كتابات اللبناني ربيع جابر، ربيع جابر يكتب تاريخ بيروت، تاريخ المكان في بيروت، ويعود إلى مراجع، كل الكتاب الجادين الذين يضيفون اليوم إلى الرواية العريبة يشتغلون شغلا إكاديميا، لكن لا يسمى عندهم أكاديمي لأنهم ينتمون إلى عالم الصحافة، إذن مقياس هذه الروح الموجودة وغير الموجودة وهذه العفوية، هذه لم تعد معايير في الكاتبة الأدبية، المهم أن النص قادر على أن يقدم معرفة أدبية حتى إذا كان كتابة تاريخية، ليس مهما البعد التاريخي، لكن البعد الروائي، أي صياغة عالم متماسك وثري، وهل يحترم جنس الكتابة الروائية أم لا؟ بكل ما فيه من تنوعات وطبقات؟ لأن الرواية ليست شيئا جامدا أو جنسا جامدا له ثوابت لا تتغير، لكن له خصائص عامة نقول هذه رواية وهذه ليست رواية.

• الكتابة المتأخرة

ورأى المبخوت أن قضية الروائي الأكاديمي والروائي غير الأكاديمي هي "قضية زائفة، ليس لأنك أكاديمي ستكتب رواية جيدة، وليس لأنك أكاديمي كتبت رواية غير جيدة".

وأكد أنه ليس عيبا أن كتب روايته الأولى "الطلياني" متأخرا، وتساءل "ما العيب في ذلك؟ هل يوجد سن لكتابة الرواية؟ وقال "بالطبع لأ.. ولكن بعد أن تشكلت البنية للمرجعيات الأساسية في العقل. إذن هي وليدة نضج وليست وليدة حرص على أن أكتب أي شيء. ومن قال لك إنني لم أجرب كتابات من قبل ولم أنشرها؟ من قال لك إنني لم أحبر آلاف الصفحات ولم أرها جديرة بالنشر. هذه مسائل داخل ورشة الكاتب، فمثل هذه الأسئلة لا تهم القارئ على أهميتها، فما يهم القارئ النص في حد ذاته.. هل هذه الرواية تشده؟ هل يجد فيها متعة جمالية، هل يجد فيها أسئلة تثيره أم لا؟ كل البقية.. من أين جاء وإلى أين يذهب لا تهم القارئ.

• الثورة دافعا

وحول دور الثورة التونسية عام 2011 في دفعه للكتابة الروائية، قال المبخوت "هذا لا يمكن نفيه.. لأن حجم الأسئلة وعمق الأسئلة والقلق المعرفي والوجداني والنفسي ودروب الحيرة العديدة التي ولدتها الثورة التونسية شكلت زلزالا حقيقيا، يطرح على المرء أسئلة حارقة، ولا أظن أنه يوجد جنس قادر على أن يتلمس جمرة هذه الأسئلة أكثر من جنس الرواية، لذلك كتبت الرواية.. نعم لم أكتبها عن الثورة مباشرة، وإنما روح الثورة وأسئلة الثورة موجودة في رواية الـ "الطلياني" كما هي موجودة في رواية "باجندا" كما أنها موجودة في المجموعة القصصية "سيدي الرئيس"، هنا يصبح للأمر معنى آخر، لأن ميزة الثورة علاوة على إخراج هذه الأسئلة حول الهوية الفردية "هويتي أنا" والهوية الجمعية "هوية تونس" كان دورا حاسما، كان يمكن أن أكتب الرواية قبل الثورة، ولكن لم يكن لها أن تكون بمثل هذا الاندفاع والتعقد والتركيب والتدفق، ثم الأمر الثاني الذي سمحت به الثورة وهو رفع سقف حرية التعبير لدي، باعتباري روائيا، لأنني حين كتبتها لم يكن ثمة أي شيء ممنوع، وهناك شعور بالانتشاء بالحرية، وبأن دورنا ككتاب أن نقول الحقيقة، هذه هي الفكرة، أي الأساسي والجوهري في ما كان يعتمد تلك الفترة.

• أسئلة الجيل

وأوضح المبخوت "المرء لا يستطيع أن يطرح على نفسه إلا الأسئلة التي يستطيع أن يجيب عليها كما قال ماركس، ما طرحته هو ما أعرفه جيدا عن واقعي التونسي، ولذلك ففي هذه الرواية ثمة تحد أن تكون الرواية تونسية بمعنى أن تقول تونس، وأن تقول تونس في فترة شبيهة جدا بفترة الثورة، فترة الانتقال من نظام سياسي إلى آخر، فترة انقلاب السابع من نوفمبر 1987 التي لم يعشها الجيل الحالي.

في الرواية نوع من المرايا لبعض ماعاشته تونس من تحولات وتقلبات في الانتقال من نظام بن علي إلى النظام الجديد بعد الثورة، إذن كانت الكتابة عما أعرفه أنا، وأنا ابن جيل، وربما رشح من ذلك - وهذا قوة الفن الروائي في الحقيقة وقوة التخييل الروائي - ما رشح من ذلك بالنسبة إلى شباب لم يعيشوا تلك الفترة، ولكنهم يعرفون ماعاشته تونس بعد الثورة.

• السير الذاتية العربية

وأضاف المبخوت "هذا الكتاب الذي وضعته عن طه حسين مر عليه الآن ربع قرن، ولكن أعتقد أنه ما يزال راهنا، لأنه حاول أن يبين ما سميته منذ فترة قصيرة بـ "لعنة طه حسين"، "لعنة الأيام".. ما هي "لعنة الأيام"؟ أن ما كتبه طه حسين يخلو من البعد الحميمي، بعد البوح، وإفشاء الأسرار الشخصية الحميمية، وركز على مغامرة العقل والإرادة والمعرفة في الانتصار على بيئة الجهل والتخلف، فكانت سيرة طه حسين أقرب إلى السيرة الفكرية في تشكل فكر الرجل، وكيف استطاع أن يصنع من ضعفه قوة، فهذا البعد الملحمي لا يخلو ضمن كتابة طه حسين من صنع مثال للأجيال الجديدة، وقتها، حتى تعرف أن طريق حريتها هي المعرفة والعلم، هي دعوة للأجيال، هذا ماذا أنتج؟

كان علينا أن ننتظر أكثر من نصف قرن حتى نجد سيرة ذاتية تقول لنا إن الإنسان ليس ملاكا، وليس بالصورة التي يريد المجتمع أن يرانا عليها، وهي سيرة محمد شكري، رغم أنه سماها سيرة ذاتية روائية، تعجبني - أو مفتاح من مفاتيح هذه السيرة - آخر جملة فيها، وهي التي ألمحت إليها منذ قليل "لقد فاتني أن أكون ملاكاً" لأسباب عديدة، هذه السيرة منعت، منعها الرقيب العربي في البداية، ونشرت أول أمرها بغير العربية ثم قدمت بالعربية، ماذا تقول لنا هذه السيرة؟ كثيرون ركزوا على خرق المحظور، والجنس، لكن سيرة شكري ليس فيها هذا فقط، هي سيرة استقامت بصيغتها روائيا على نحو ممتاز، فيها الإيقاع والعفوية دون أن تكون هناك سذاجة، واستطاع أن يكون رمزا من رموز السيرة الذاتية العربية، لأنه روائي جيد".

وأشار "سيرة محمد شكري نبهت إلى هذه المفارقة بالمقارنة مع سيرة طه حسين، هذه المفارقة التي يعيشها الكاتب العربي الذي يتصدى لرواية تاريخه الشخصي وحياته وتكونه، أنه كاتب لا يستطيع أن يتجاوز في البوح حدودا تناقض أخلاق المجتمع، وتناقض التصورات الأيديولوجية السائدة في المجتمع، في حين أننا نعرف جميعا أن مجتمعاتنا العربية بلا استثناء مجتمعات مثل جميع المجتمعات تعيش تناقضات، تعيش قيما سامية وقيما أخرى منحطة ورزائل ومخازي ومعايب، ولكننا كما لو أننا نريد أن نسكت على هذه المخازي والمعايب خوفا من سوط الرقيب الذي داخلنا قبل الرقيب الذي هو خارجنا.. هذه مشكلة السيرة الذاتية العربية.. أن مجتمعاتنا لا تؤمن بالفرد وحريته، لذلك الفرد لا يستطيع أن يقول ذاته، ولا يستطيع أن يخوض مغامرته في الحياة دون خوف من أبنية أعلى منه، العائلة، العشيرة، القبيلة، الدولة القامعة إلى آخره.

إذن السيرة الذاتية بهذا المعنى تكشف لنا عن أمر أساسي أحب أن أسميه "محرار الحرية الفردية"، فيوم أن يستطيع الكاتب العربي أن يقول ذاته في سيرة ذاتية أو غيرها من أشكال الكتابة الشخصية كما هي، أي بتناقضاتها، بتردداتها، بفضائلها ومخازيها ورزائلها يومها، سنقول لقد بدأ الفرد الكيان الحر يوجد في ثقافتنا.

• ازدهار كيفي أم كمي

وتساءل المبخوت "ماذا ننتج نحن العرب مجتمعين من روايات؟ عدد قليل خمسمائة، ستمائة، ثمانيمائة، ألف، هذا لا شيء أمام ما ينتج في العالم من روايات، هذه الناحية الكم، فكثيرنا الذي ننتجه في الرواية قليل بالمقارنة مع غيرنا، في فرنسا مثلا تقريبا في بداية السنة الأدبية ينشر في حدود 500 رواية ليس ما ينتج طيلة العام، إذن ماذا يوجد عندنا في العالم العربي! ورغم ذلك يتبرم الناس من هذه الكثرة وهي قلة في الحقيقة.

نحن ننظر إلى أدبنا وثقافتنا كما لو أننا في جزيرة معزولة، لا، نحن في عالم، والعالم يوميا يطبع مئات الروايات، إن لم يكن الآلاف، على الأقل في الثقافات التي نعرفها، نأتي الآن إلى وجه آخر من القضية، أنت تعرف أن دور نشر كبرى في فرنسا مثلا، يمكن أن تصل إلى دار نشر في السنة ألف رواية، وهذه أرقام حقيقية، ولا تنشر هذه الدار ولا تختار منها إلا روايتين أو ثلاثة، لأن لهم آليات في التحكيم، في انتقاء الروايات، في تحرير الروايات وإعادة تحريرها، إذن الكتاب والرواية تحديدا مهنة، وليست عبقرية هذا الكاتب أو ذاك.

كل كاتب مهما علا شأنه يخضع للتحرير، وعليه أن يغير نصه إذا طلب المحررون ذلك، في العالم العربي هل لديك في دور النشر العربية لجان للتحرير صحيح موجودة ولكن قليلة جدا. إن مشكلة الرواية اليوم أنها تتطلب أن ينظر في مخطوطها نظرا دقيقا جيدا قبل دفعها للنشر، وعلى الروائي العربي أن يتواضع قليلا، وأن يصغى إلى المحرر الأدبي وأن يتفاعل معه ويتعاون معه. نحن في مرحلة تراكم كمي مهم، وإن كان دون المطلوب، أكرر مهما، وسيفرز حتما، إذا ما اضطلع الناشرون العرب الجادون بمهمتهم على أفضل وجه، تجارب أدبية وروائية مهمة.

• المشهد النقدي

وأكد المبخوت على التباس واختلاط الخطاب النقدي العربي حتى لدى الفاعلين في هذا المشهد النقدي، وقال "يخلط بين الكتابة الأكاديمية أو النقد الأكاديمي وبين النقد الصحفي الإعلامي، وهو جنس قائم بذاته، والنقد الثقافي أي الذي يجمع الخلفية الأكاديمية إلى الاهتمامات الثقافية والأدبية والجمالية، وهو أيضا صنف قائم بذاته، فتجد في بعض المجلات ناقد صحفي يقدم نفسه على أنه أكاديمي، وآخر ثقافي يقدم نفسه على أنه أكاديمي، وأكاديمي يقدم نفسه على أنه صحفي وإعلامي، هذا هو الالتباس الذي ذكرته كما أفهمه أنا، أو كما أراه أنا، هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية هناك أزمة حقيقة في النقد الأكاديمي، هو نقد له من حيث أساليبه في البحث ومن حيث مفاهيمه، من حيث نظرياته ونماذجه، له خصائص، وهذه الخصائص لا توافق أو لا تطابق بالضرورة عامة المشتغلين بالأدب والمتابعين له، ولكننا نجد بعض الأكاديمين يميلون شيئا فشيئا إلى أن يجدوا قراء لهم خارج السياق الأكاديمي الحقيقي، وهذا يحدث جزءا من الالتباس الذي ذكرته لك، فما معنى أن يأتي شخص يكتب مقالة في صحيفة ويحشوها مصطلحات غريبة، هل ليبرز معرفته أم ليحلل النص؟ أم ليصنع سلطة بلغة مختصة جدا بقراء غير مختصيين؟ هذا مثال.

والأمر الثالث الذي ألاحظه أن الفكر النقدي في الجامعة أي الكتابات النقدية والنظريات النقدية لم تعد لها الحظوة التي كانت لها من قبل، خاصة في الثمانينيات، ومرد ذلك أن متابعة النقاد العرب للتطورات النقدية في العالم خاصة في العالم الانجلوساكسوني، ظلت للأسف أقرب إلى اتباع الموضة والموجات منها إلى التعمق والنظر العلمي، وأقول لك بصراحة أن وضعية النقد العربي مع استثناءات قليلة جدا هي وضعية تنذر بانهيار علمي وانهيار ثقافي أيضا، حتى لا أكون متشائما وأقول إن الأمر انهار.

الجانب الرابع والمهم هو تراجع الآداب والإنسانيات تدريسا وبحثا في كامل العالم العربي، فبصراحة الوضعية الخطيرة هي وضعية الجامعات العربية التي تدرس الآدب والإنسانيات، وهذا ليس وليد اليوم وإنما نتيجة تراكم، تراكم تاريخي بدأ منذ على الأقل بداية التسعينيات من القرن الماضي، واليوم نجني ثمرته، وهو الإعلاء من شأن الدراسات التكنولوجية والدراسات العلمية والهندسية.. الخ، مع اعتبار كل الدراسات الإنسانية لم تعد لها المكانة السابقة، قد تكون ظاهرة عالمية نسبيا ولكن تلمس في جامعاتنا العربية على نحو أكبر، وهذا أمر خطير يجعل النقد العربي يقع في ما اعتبرته أنت التباس، ولكنني أوافقك على الالتباس، وأذهب أبعد من ذلك وأقول أزمه تهدد وجوده أصلا.