نموذج قدري حفني: بين المعرفة والاختيارات المعرفية

انتقال الاستقطاب السياسي إلى المجال العلمي والأكاديمي قزم مكانة مصر وقوتها الناعمة في كل مكانّ.

ساعدتني الظروف أن ألتقي بنخبة من الكبار في حياتي العلمية، محفورة ذكراهم في العقل والقلب بسماحتهم وودهم الذي لا ينسى، آخرهم كان البروفيسور قدري حفني الذي رحل عن عالمنا مؤخرا تاركا إرثا وزخما واسعا، وتلاميذ يدينون له بالفضل والمودة.

يتسم البروفيسور قدري حفني بأنك قد يكون لديك اختيارات حياتية تختلف مع اختياراته لحد ما، لكنه يحترم علمك ومعرفتك ويقدرها رغم اختلافه معها، ومن هنا فرقت في عنوان المقال بين المعرفة المجردة، وبين الاختيارات المعرفية والأفكار المختلفة لبحث سبل تطويرها ومقاربتها.

في رحيل عالمنا الكبير د. قدري حفني رائد علم النفس السياسي في مصر والعالم العربي، أتذكر أنني حين عرضت عليه دراستي عن "سيكولوجية الصراع السياسي" طلب مناقشتي في أجزاء منها، وفوجئت به وقد صال وجال في الدراسة ولم يترك فيها جحرا إلا وكشف عنه، وكأنني كنت في مناقشة علمية للحصول على إجازة جديدة للدكتوراه، ليطلب بعض التعديلات التي قد تتفق مع اختياراته المعرفية، وحين جادلته في بعضها وقبلت البعض وفق اختياراتي المعرفية، متبعا الطرق المنهجية المعرفية المنضبطة في عرض تصوري، لم يتردد في أن يضع كلمة تشيد بالدراسة ويصفها بأنها "جهد علمي نادر" رغم التباين في بعض الاختيارات المعرفية بيننا.

أعتقد أننا في حاجة لاستلهام تلك الروح العلمية المتحققة التي تملك المعرفة وتملك الاختيارات المعرفية، وتدرك الفرق بينهما، وتقر وتعترف حتى لمن يخالفها في الاختيارات بحقه العلمي، أعتقد أن جيل العلماء الرواد المصريين الذين يملكون تصورا شاملا متسامحا للظاهرة البشرية، يكاد يختفي.

والحقيقية أن نشاط د. قدري حفني اتسع وتداخل معرفيا بين دراسة الذات العربية ودراسة الآخر والبحث في الظاهرة الإنسانية ككل، فقد تنوعت كتبه ما بين التفسير النفسـي للتاريخ، وعلم النفس الصناعي والصـراع الطبقي، ودراسة سيكولوجية الشخصية الإسـرائيلية.. لقد قدمت المدرسة العلمية المصرية نموذج الباحث القادر على الإحاطة بمعظم جوانب الظاهرة الإنسانية مبكرا وهم كثر في جيل الراحل د. حفني، لكن عندما تحولت الأكاديمية المصرية للشكل الإجرائي والرتيب وابتعد الفرز والاختيار عن شكله الطبيعي، وتم تهميش القدرات الحقيقية التي تستطيع أن تعبر عن البلاد وروحها، لصالح المحسوبية وأصحاب الولاء منذ بداية الثمانينيات على استحياء وبشكل علني لا يعرف للحياء سبيلا منذ التسعينيات، وأصبح مشروع الوجود المصري الحضاري والعلمي في خطر.

لقد قدم هؤلاء الرواد النموذج لأحدث صيحات العلم الشائعة الآن في مصر، وهو الباحث المثقف الملم بمعظم جوانب الظاهرة البشرية، والذي يعرف العلاقات المتداخلة بينها، فيما نسميه نحن الآن "الدراسات البينية" بين المجالات العلمية المتخصصة، أو "الدراسات الثقافية" التي ترد ظاهرة ما لمجمل السياق التاريخي والثقافي التي خرجت منه، لتعرف اختياراتها واختياراتها البديلة، المعلن فيها والمسكوت عنه.

إن هذه الدراسات لا تعتمد في الأساس على أبنية منهجية جامدة ومدخلات نمطية، لتقدم مخرجات جاهزة مثل الدراسات الوصفية أو التاريخية أو الأدبية أو اللغوية، أو حتى الدراسات التحليلية التي تتعامل مع الطبقة السطحية للظاهرة محل الدرس، هذه الدراسات تعتمد على فرز شخصي وقدرة الباحث المجردة على إجراء المقابلات ووضع الدراسة التي يقوم بها في علاقة متداخلة ومتحركة مع التاريخ والاجتماع والجغرافيا واللغة والخطاب والسياسية..الخ، ومهما حاولنا وضع وتحديد مناهج وإجراءات محددة للدراسات الثقافية والبينية، ستظل روح الباحث وعقليته الفردية في هذا المجال هى الأساس.

يجب أن يكون رحيل جيل العلماء الكبار الذي كاد أن ينقرض من المشهد، يجب أن يكون ناقوس خطر لنا، لقد أصبح الفرز وفق الاختيارات المعرفية لأهل الولاء، ولم نعد نمنح العيش لخبازه كما يقول المثل المصري الشعبي الرائع.

انتقال الاستقطاب السياسي إلى المجال العلمي والأكاديمي قزم مكانة مصر وقوتها الناعمة في كل مكانّ! ونحن في حاجة لشق طريق علمي ومعرفي يقوم على التأسيس لنهضة حضارية مصرية، همها الأول إقامة بنية مؤسسية ثقافية وعلمية وبحثية قوية بعيدا عن الاستقطاب، تضع مصر في المقام الأول وتعيد بناء الملفات التي انهارت على رأس أصحابها، في الثقافة والخارجية والعلاقات الدولية والعربية تحديدا.

رحمة الله على البروفيسور قدري حفني وجيل أخذ العلم على عاتقه بجدية، نحن في حاجة لكي تكون ذكرى هؤلاء دعوة لإعادة بعث روح العلم والعلمية والبحث عن الكفاءات، وأن تتحول الدراسات الإنسانية ككل لعلاقة تفاعلية مع المجتمع المصري تبحث في سبل نهضته، وتتواصل مع الواقع وتدرس حالته وفق أطر معرفية منضبطة، تتجاور فيها الاختيارات المعرفية المختلفة وتتعدد برحابة صدر وتفهم، ويكون معيار الفرز والاختيار هو التجربة والتعلم، وصالح الوطن العام والأشمل.

وهو أمر لو تعلمون عظيم.