ما بين 1968 و2020 تغير العالم لكن نحو الأسوأ

المحتجون وقد تنوعت أعراقهم وهوياتهم انما يطالبون بأن يخفف النظام الرأسمالي من عنفه وشراسته. عنف اجهزته الأمنية ليس سوى الغلاف الخارجي المهذب لها.
عنف سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي تجري ممارسته في العمق
التحول لن يقع في وقت منظور غير أنه سيكون ماثلا في كل انعطافة تاريخية
شارل ديغول استوعب الرسالة وكانت عينه على التاريخ الذي أدرك أنه لن يرحمه

ما من أوجه شبه بين ما شهدته باريس عام 1968 من احتجاجات غلب عليها الطابع الطلابي وبين ما تشهده اليوم مدن أميركية عديدة، في مقدمتها نيويورك من تظاهرات تغلب عليها المطالبة بالعدالة العرقية لمناسبة مقتل المواطن الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد.

ما بين 1968 و2020 تغير العالم كثيرا وصار أسوأ مما كان يتوقعه المحتجون الشباب في شوارع باريس.

صارت فرنسا نفسها تسمح لرجل خفيف مثل نيكولاس ساركوزي بأن يحكمها بعد أن كانت لا تقبل بأقل من جورج بومبيدو وفرانسوا ميتران وجاك شيراك.

وحين نقف أمام النموذجين لابد أن تبهت صورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام لمعان ايقونة الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي استوعب يومها الرسالة وكانت عينه على التاريخ الذي أدرك أنه لن يرحمه.

لا أحد يأمل في أن يفهم ترامب مضامين الدرس الحالي.

كل ما قاله ترامب تعليقا على ما يجري في بلاده انما يكشف عن تخلفه في فهم الحقائق التي تعيشها بلاده ويعيش الشعب على تماس بها. لقد بدا منفصلا تماما عن الواقع وسبل عيش المواطنين ولم يكن يرى إلا لصوصا وقطاع طرق وحين ارتقى بلغته فإنه اتهم قوى اليسار بالوقوف وراء مؤامرة، يراد من ورائها زعزعة الأمن والاستقرار في النظام الرأسمالي ونهب أموال الأثرياء.

تذكر الرئيس الأميركي اليسار في لحظة حرجة، قد تشكل منعطفا في التاريخ الأميركي الحديث. وفي ذلك نوع من الاعتراف بقوى الهامش السياسي الذي لن يقدر له في سياق الحسابات السياسية أن يحكم الولايات المتحدة.

يُظلم ترامب حين يُقارن بشخصية تاريخية مثل ديغول الذي عرف أن عصره انتهى عام 1968 فاعتزل السياسة من غير أن يرتكب حماقة واحدة في حق شعبه. اما ترامب فإن تاريخه هو عبارة عن سطر واحد يُذكر فيه تسلسله بين الرؤساء الأميركان لذلك فلا بأس أن يمتلأ حاضره الذي سيُنسى بسيل من الحماقات التي يرتكبها باعتبارها تجليات لتجربة حكم فاشلة فاشلة.

غير أن الموقف السلبي للرئيس ترامب لن يُفسد المعاني العظيمة التي تنطوي عليها الاحتجاجات بعد أن اتسعت دائرة أهدافها لتشمل اضافة إلى المطالبة بالعدالة العرقية السعي في اتجاه تغيير النظام الجنائي برمته ووضع قيود محكمة لسلوك الشرطة والأجهزة الأمنية.

تلك مطالب خارجية أما في العمق فإن المحتجين وقد تنوعت أعراقهم وهوياتهم انما يطالبون بأن يخفف النظام الرآسمالي من عنفه وشراسته التي لا يمثل عنف اجهزته الأمنية سوى الغلاف الخارجي المهذب لها. هناك عنف سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي تجري ممارسته في العمق، هو ما يؤدي إلى انتاج فئات مهمشة ومنبوذة ومحرومة في مجتمع متهالك، يخشى الالتفات من أجل أن لا تفوته فرصة للثراء.

خرج الأميركيون في تظاهراتهم وكل واحد منهم يشعر أن مساحة التنفس صارت ضيقة وأنه مهدد بالاختناق. تلك هي فرصته لكي يساهم في بناء نظام جديد يليق بإنسانيته. ذلك ما يتمكن ترامب بعقله الصغير من استيعابه.      

عام 1968 انحنى ديغول أمام إرادة الشعب الفرنسي وذهب إلى قريته مكللا بهالات تاريخية.

اما ترامب فإنه إن فكر بالاستقالة فإنه سيجلس في أعلى برجه لكي لا يرى أحدا. من هناك سيبدو الأميركيون أشبه بالحشرات.

لا تنطوي الاحتجاجات الأميركية على دعوة استثنائية لتغيير العالم بقدر ما يسعى المتظاهرون إلى تسليط الضوء على كلفة العيش العالية التي لا تستقيم مع قيم الحياة الإنسانية.  

ولذلك معان تتعلق بآلية عمل النظام الرأسمالي الذي بلغ اليوم واحدة من ذرى وحشيته من خلال حادثة القتل.

سيكون أثر الاحتجاجات بعيد المدى لذلك فإن التحول لن يقع في وقت منظور غير أنه سيكون ماثلا في كل انعطافة تاريخية.