نامو رستم وسر ثراء نصه

فنان تشكيلي كردي لا يهدأ ولا يستقر حماسه بل يستفيض على إمتداد الخلق، وله أجنحته الخاصة في التحليق في كل الفضاءات المفتوحة ليطلق حريته بين الشكل (الجسد) ، والمعنى (الروح).
لحن التفاؤل يصاحب تجربة المدرس في المعهد الفني في أربيل

نامو رستم فنان تشكيلي كردي، يعمل مدرساً في المعهد الفني في أربيل بكردستان العراق، لا يهدأ، ولا يستقر، حماسه يستفيض على إمتداد الخلق، وعيه مأهول بالأحداث وبفواصل زمنية تناول فيها المسافات بجمالية مكتفية بذاتها، ولا حدود قصوى أمامه، بل الآفاق وحدها تقيم في عالمه.
فكل الأمكنة فضاءات مفتوحة على الآلهة، له أجنحته الخاصة في التحليق فيها، متنقلاً من سماء إلى آخر، كأنه نسر يأبى أن يعيش إلا حرّاً، فيطلق حريته بين الشكل (الجسد)، والمعنى (الروح) حتى يروم الكلام فيه، حتى يبلغ بألوانه ما يحيكه، وما يفصله من قصر جمالي منيف سيبلغ عنه في القرب أو في البعد على سبيل سائر الإبداعات التي تلد من رؤياه الفنية الخاصة والتي تحمله من مطرح إلى آخر، ليقيه من الضياع. وهو فنان مجدّد، وجدناه في أعمال واقعية عكست تلاوينه في رؤية العالم، يشرع في العمل، ينجزه، يمثل موقفه من ظاهرة ما اجتماعية كانت أم تراثية  بيئية كانت أم فولكلورية، سياسية كانت أم إنسانية، لا يقف عند تداعيات هشة، فهو يفطن للإستيهامات الفردية على نحو كبير.

 وكذلك يفطن للإستعارات القسرية التي إذا حكمت العمل قتلته، يفطن لكل ما قد يحول العمل الفني إلى زخرفات لونية فقط، زخرفات لا طعم ولا معنى ولا نكهة لها.
 فهو يقظ لكل ذلك ولهذا يبقى عمله مأواه ومهربه من كل طارىء، ولا يغيب عنه قضاياه، فهو يؤكد أن الظواهر الكبيرة لا بد أن تدفع العمل الفني إلى أمكنة ومسافات متجاوزة وجديدة.
 فيلاحظ أن التحول الذي يعيشه ويكرسه في منجزه البصري هو بالضبط ما سينهض بتجربته ويجعلها مغايرة للمألوف والمتداول، ويدفعها بإتجاه صخب الحياة وأنينها، ووجدناه وهو يسمح للمعاصرة أن تغزو منجزه، فيعيد النظر كلما اقترب من حدث ما، إن كان هذا الحدث من غضب، أو من هوامش مدونة على يومياته، فقد يتملص من الإلتزام ومكائدها، ومما آل إليه طبائعنا، حتى يكون قادراً أن يكشف الويلات والمحن التي حيكت في واقعنا وفي أحلامنا الفردية منها والجماعية حتى يجاهر ما تبقى من أصداء وجودنا المندحر .
يمكننا أن نلاحظ أن هذا الإهتمام بالتحولات اللامتناهية التي يتخذها نامو رستم والتي يعيشها عمله الفني كان دائماً يربطها بين المراحل، أو حين ينعطف من مرحلة إلى أخرى، وإن كان يدشن مرحلة جديدة فهي غير منقطعة عما قبلها، هي صورة لطرف ثان، أو نتيجة لكيانات سابقة ينظر إليها على أنها تحديدات وتعيينات متناسلة من وجود سابق.
 وهو بذلك يسعى إلى تجاوز المألوف على نحو دائم، والبحث هو خطوته التي يعطيها الأولوية والأفضلية في مجمل تحركاته وإنجازاته، ويستثمر ذلك للمقاربة من القيمة الجمالية لمنجزه، وعناصره ضمن إطاره الزمني/ التاريخي، وإخراجه إلى السطح بوصفه نبضات روح لا يمكن تخيلها إلا في حالة وجد وحب، وهي تجربة تخصه ومن شأنها التأثير على وسائله التعبيرية التي فيها تكمن سر ثراء نصه، وسر إستخدامه لمفردات ساعدته في إبراز مفاهيم الذات والجوهر كمقام آمن لمناداته الصريحة بضرورة إنحسار الرموز والعودة إلى مواكبة القضايا الملحة التي تمس حياة الناس بجرأة دون تردد و دون مراوغة.
 فالحماس وحده لا يكفي، لا بد من زج الألوان فيها على شكل إشتقاقات تحفز الذات لتبدع الروح وفكرتها، وتضفي على سماتها المصورة لمسات حادة مميزة يتجاوز تأثيرها أفعال وعلاقات الألوان لتشمل الأشياء وكل ما يحيط به، لا بل و ضرورة ذلك من أجل إظهار وكشف مغزاها بشكل جلي ومتميز.
 وهنا يكمن سر لحن التفاؤل الذي يصاحب تجربته، تجربته التي تستند على ذاتها دون التعويل على أي شيء آخر، فخريطته تشتمل على علامات المكان البارزة، المميزة داخله، وقد تكون هي ممراته التي يرى الأفق من خلالها، ويمكن له أن يتصور نفسه في مجمل مشاهده التي لا يمكن أن يضل طريقه فيها، ويعزز وجوده بإستعداده للإستجابة التلقائية لأنماط مختلفة من الحاجات الإنسانية التي تشغل بال الإنسان على نحو دائم عبر حياته، بالإندماج معها أو محاولة إستخلاصه منها.
 فغالباً ما يقوم بشيء معين في لحظة معينة، وهذا ما يمكن أن يقوده إلى ما وراء إمكاناته حيث البحث عن التحدي والإثارة والجدة ضمن خرائط معرفية نمّاه هو، ولسنا في حاجة إلى الإشارة بأن البيئة الأكثر تنوعاً هي الأكبر فرصة للإنشغال الإيجابي والجمالي في الوقت نفسه، ويتضح كل ذلك في إستكشافاته الجديدة المرتبطة بفكرة الملاذ في ضوء اختباراته لصدق المنحى التطوري الذي يمضي فيه حول الجماليات الشكلية، والرمزية، الشكلية التي تعنى أكثر بتذوق الأشكال والإيقاعات والتركيبات بطرائق عدة، و الرمزية التي تمنحه والمتلقي بعض الفرح والمتع الخاصة.
 وهذا يوفر له فرصاً غير محدودة للرؤية، وفرصاً مبكرة لإسكتشاف عالمه البصري وما يحمله من ثروة هائلة من المادة الفنية .
نامو رستم من الفنانين الذين يشكلون إتجاهات جديدة لروحهم الفردية، الروح التي تظلل منطقه الداخلي بوصفها اقتضاء معرفياً بوجه عام، فهي قد تأتي فكرة أو نغمة أو تكويناً مع حاجتها إلى سياق ما لتأملها وتأمل وسائطها، فكثيراً ما يحرر نامو حالاتها وما شابهها ليجدي قارئه في أمور قد تبدو معقدة في الوهلة الأولى، حتى تأخذ مسارها لا كإرهاصات طافية على سطوحه، ولا كبقع لونية تنعي ذاتها عند المحطات المهمة، بل كضرورات فنية تمس كل حادثة لها تاريخها، كخلايا حية لها تواصلاتها وتبادلاتها، لها أحاسيسها التي ترخي طغيانها بثمن باهض كلما أعلنت حياتها.
 فهو لا يكتفي بالإحتكام إلى ما يملي عليه المعنى والقصد، بل يقتطف ما يطلق عنان الفعل والحركة والفكر نحو مساحات تستدعيها جميعاً ويكون نامو الجانب الفاعل والأهم فيها وفي تمديد شأنها إلى جميع المجالات والحقول الأخرى، حتى يصاحب رغباتها وإملاءاتها بحالتيها الزماني والمكاني متجسداً بذاته ولذاتها حتى يختزل كل فواصلها دون وسيط تصويري.
 و في هذا المقام ينبغي عليه أن يواصل فتح مجراه معوّلاً على مكوناته الخاصة وقواه التخيلية الذاتية لينتشل كل ما هو مهدد بالتلاشي، وفي عملية الإنتقال هذه ستتجلى أسلوبه ووسائلها، فهو يبتدع حيناً مشاهد طافحة بالألم تتوغل عميقاً في رحاب الوجع، و حيناً يصعد بألوانه إلى السماء العاشرة محتضناً ما سيأتي، إن كان في شكل إيماءة عابرة بها يفتتن مشهده، أو في شكل نغمات طافحة بالدلالات، كل ما فيها تومىء بالواقع ومدركاته.
 فنامو يتصرف وفق ما تملي عليه استيهاماته مع حرصه على أن يكون منتجه لا مجموعة من التصاوير التي قد ترغمه ومتلقيه على التعايش معها، بل ممارسات لونية فيها تتوالد استراتيجيته في البناء وإمتلائه بلحظاته التاريخية، في خلق جدل طويل بينها بكل أحابيلها، وبين العالم/المتلقي الذي يقتفيها، ويُسْتَدْرَج معها إلى مأواها حتى يفطنها تماماً .