ديمقراطية العراق والعودة إلى مربع الكتلة الأكبر
ما حدث في أولى جلسات مجلس النواب العراقي الجديد لا يبشر بأن الأمور تسير في الاتجاه الديمقراطي الصحيح.
وككل المفاهيم السياسية المتداولة في العراق ينبغي وضع مفهوم الديمقراطية بين قوسين صارمين. ذلك لأن القوى السياسية تصل إلى مستوى بعينه تُحل فيه مصالحها المتشابكة والمتقاطعة في الوقت نفسه محل الخيارات الصعبة التي تفرضها حالة القبول بنتائج الانتخابات.
ففي الوقت الذي كان مقتدى الصدر وهو زعيم أكبر الكتل الفائزة في الانتخابات الأخيرة قد وعد بأن يضع الأحزاب الشيعية التي سبق لها وأن تداولت الحكم في ما بينها لسنوات طويلة أمام خيار التخلي عن الحكم لصالح أطراف أخرى سارعت تلك الأحزاب إلى مقاطعة تلك الجلسة في اعلان صريح بعدم القبول بتهميشها وهو ما أفرزته الانتخابات.
كانت الأمور تجري في المرات السابقة في اتجاه التوافق بشرط أن تكون الغلبة للأحزاب الشيعية الكبيرة التي استولت على الجزء الأكبر من الدولة بتأثير احتكارها الطويل للسلطة.
وبالرغم من المفاوضات المعقدة التي تلت الإعلان عن نتائج الانتخابات وسبقت انعقاد جلسة مجلس النواب الأولى لم تصل الأحزاب الشيعية إلى مستوى من التفاهم يتيح لها الوصول إلى مبتغاها. وهو هدف صعب بالنسبة لمقتدى الصدر الذي يعد بإلغاء التوافقية وانشاء حكومة على أساس ما يسميه بـ"الأغلبية الوطنية" في إشارة إلى حلفائه من السنة والأكراد والذين لم يشكل حضورهم في المرات السابقة أي نوع من الانفتاح على التعددية السياسية خارج دائرة مفهوم المحاصصة الطائفية.
ذلك يعني أن ما يفعله الصدر وما سيفعله ليس جديدا على النظام السياسي القائم، بل هو جوهره باستثناء استبعاد الأحزاب الشيعية الكبرى وميليشياتها. وهو ما يدركه زعماء الأحزاب والميليشيات وهم يرجعونه لا إلى ما أفرزته نتائج الانتخابات، بل إلى العداء الشخصي الذي يتوقعون أن الصدر يتصرف بدافع منه نتيجة لتراكمات من العلاقات المتوترة بين الطرفين.
وكما هو واضح فإن الصدر كان يأمل بأن تقتنع الأحزاب بتقديم تنازلات كبرى على طريق تسوية الخلافات. ذلك لم يقع، بل أن الأحزاب صعدت من لهجتها المشاكسة حين أعلنت أنها في طريقها إلى تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر لتمهد لإلغاء نتائج الانتخابات عمليا.
لطالما تكررت تلك اللعبة وكانت وسيلة لتثبيت النظام السياسي القائم على المحاصصة التي يميل ميزانها إلى جانب ما صار يُسمى بأحزاب السلطة التي لم تتوقع أن يخونها الحظ في أي انتخابات بغض النظر عن عزوفها عن تنفيذ أي اجراء ينم عن الرغبة في الإصلاح وبالأخص على مستوى وضع حد للفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والذي يعود الجزء الأكبر منه إلى هيمنتها المطلقة على الثروات.
غير أن التيار السياسي الذي يقوده الصدر لم يكن بعيدا عن تلك الهيمنة التي صار النظام يتعثر بها. وإذا كان هناك مَن يلوح الآن بنهاية عصر الفساد فإن تلك التلويحة لتي تعتبرها الأحزاب اختراقا لمناطق مصالحها لا يمكن أن تشكل سوى تمهيد لعصر جديد من الفساد قد لا تحتفظ الأحزاب فيه بمكتسباتها التي صارت تعتبرها حقا إلزاميا في رقبة الشعب العراقي.
ما يهم هنا أن الأحزاب الشيعية لا تزال تتمسك بقدرتها على تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر وهو ما يعني أن كل شيء سيدور في منطقة الفراغ إلى أن يحسم الصدر أمره ويعلن انتصاره الأخير. يومها ستضطر الأحزاب إلى مقاطعة مجلس النواب من غير أن تذهب إلى المعارضة في محاولة لعدم الخضوع لإرادة الصدر القائمة على التخلص من منافسيه وتسيد المشهد زعيما للشيعية السياسية التي تحافظ على توازن نظام المحاصصة لسنوات طويلة مقبلة من غير أي التزام بعبور الطائفية في اتجاه الوطنية.
كل ذلك سيقع ما لم تُستأنف الضغوط الإيرانية لإخراج الأحزاب من مأزقها والعودة بالنظام إلى منطقة التسويات التي يحتفظ الجميع فيها بمصالحهم وتستمر عجلة الفساد في إطار غطاء توافقي لا يُفقد الصدر هالة المنتصر غير أنه في الوقت نفسه لا يحط من شأن الأحزاب والميليشيات ولا يجعلها تسقط في هاوية هزيمة، خطط لها المقترعون وحلم بها الشعب العراقي في احتجاجاته نهاية عام 2019.
وما لم تسارع إيران إلى انقاذ أتباعها فإن وهم الكتلة الأكبر في مجلس النواب سيظل يحوم بأشباحه تحت قبة البرلمان ليشكل حجر عثرة يحول دون تشكيل الحكومة الموعودة.