فاطمة إسبر تدب في الحياة بأجنحة لا تهدأ

فاطمة إسبر ابنة قرية قصابين القريبة من جبلة السورية لا تستجيب للسكون ولا تخضع لتصورات معينة أو لهيكلية خاصة وترفض أن تكون رهينة لأية جهة فنية، وطاقتها تتحرك للتعبير عن الواقع الاجتماعي بصياغات جديدة.

أن تحصل على الثانوية وتدرس في دار المعلمين في سورية، والجامعية (لغة عربية) في مصر وأن تنال الماجستير من الجامعات الإيرانية والدكتوراه من الجامعات المجرية، أن تعيش هذه الدائرة الحياتية المفتوحة على السموات، وفي مراكز بؤرها لا في الحواف، قريبة من حقائقها، بعيدة عن العتبات، أن تكون البوابات أمامها مشرعة بهذا الشكل النابض بالأوكسجين، أن يكون الظاهر والباطن عندها في حالة وئام لا في حالة خصام.
 ألا يكفي كل هذا حتى تكون نظرتها للأشياء مغايرة ألا تكفيها أن ترى ما لا يُرى، أتحدث هنا عن فاطمة إسبر إبنة قرية قصابين القريبة من مدينة جبلة السورية.
 تنفست الثقافة منذ ولادتها فهي إبنة أسرة تنبض بالثقافة والمعرفة والكتب، عاشت بكنف الشعر والصور والأدب واللون، فالبيت مكتبة بذاتها، ونهر يتدفق، فشقيقها هو أدونيس الشاعر الشمس، وإبنة أحد أشقائها هي فرات إسبر الشجرة المثمرة بالشعر والأدب.
 ألا يكفي هذا كي يكون لفاطمة إسبر حوافزها في الإبداع والظهور، وبالتالي في التمايز والحضور، فصحيح أن عودتها إلى اللون والريشة جاءت متأخرة (2010) ، لكنها لم تكن بعيدة عنه، فكانت غارقة في بحور الشعر تجمع لآلئها، كما كانت لها خربشاتها منذ صغرها والتي شكلت طفولتها تلك الطفولة التي لم تترك أعمالها والتي بقيت مرافقة لها بل عائشة فيها.
 ولهذا كانت لوحتها أقرب إلى عفويتها، فبإحساس طفلة لم تكبر بعد تلجأ إسبر إلى ألوانها وفراشيها، وبفطرية طفولتها تلك تبين قدرتها على التعبير، وتنتقل من لون إلى آخر، و من جزء إلى آخر، فهي تزج لوحتها ببساطة توازي بساطة روحها.
 وبها/عليها تستعيد علاقاتها الإنسانية،. وتستحضر تلك المقاطع الرئيسية من سيرتها البصرية لتقدمه لنا كمتلقين كوجبة فنية دسمة تحمل من التأويلات ما تكفي شارعاً، حيّاً، مدينة، عمراً.
 ونحن ننتقل مع تنقلاتها الأشبه برحلة إلى الذات، مكتشفة إياها في خطاب جمالي، وفي تكوينات تخضع لخطوطها الأفقية أكثر منها للعمودية، كي تبقي حركة العين مستديمة، تركز عليها دون غيرها، وهذا ما يجعلها أيضاً تلجأ إلى كثافة سردياتها بطريقة مبسطة ومحددة، كثافة هي أقرب إلى الأحاسيس المموسقة منها إلى تراكمات قصصية، كثافة أقرب إلى البدايات، وإلى تبني حكاياها داخل النص منها إلى الإنفعالات وقوتها، كثافة غير متمردة.
فالمدى الفضائي التشكيلي عندها يشي بمساحات مصورة بدقة حتى أنها قد توهم المتلقي بعمقها في التداخل والحركة، فالعلاقة الناتجة عن تباين كل من المظاهر الإيهامية القريبة من الفن البصري، والمظاهر التأويلية المنبثقة من بنائيتها علاقة هامة وتكاد تبرز تلك العوامل المؤثرة في نشأة عملها، والظروف في ملاءمتهما مهيئة وفي أحسن حالاتها.
 وكأنها بذلك تؤكد عدم تأثرها بإسم ما أو بمدرسة معينة، وإن كانت عباءة المدرس تلاحقها سواء أكانت في مادتها السردية، أو في حكايتها وما تتوارى خلفها من الشغف والإحساس الغريزي بروح الفن، مع إصرارها في بقاء ذلك العطر الخفي الذي يجعل من عملها فناً يفوح منه الشذى والطيب، و يتسم بنمط ما من الرؤية التي تحتفي بالإنسان .
فاطمة إسبر لا تستجيب للسكون، ولا تخضع لتصور معين أو لهيكلية معينة، وترفض أن تكون رهينة لأية جهة فنية، فهي تدب في الحياة بأجنحة لا تهدأ، وتدب فيها الحياة موسيقا وأناشيد تتسع لحلمها وما تنتظره من أوراق سجلها يحيلها إلى معزوفة ترويها ووقائع حكايتها التي تعرضها دون تفاصيل، تاركة ذلك للمتلقي وقراءاته.
 تعرضها بخصوبة تظهر علاماتها في خطوطها الخفية والتي تنبىء بسيول إبداعية سيفيض في وديان وفضاءات عملها مشكلة طاقتها الخلاقة، متوخية التشخيص قدر الإمكان وإن كان قدرها أن يكون حاضراً رغماً عنها، الطاقة التي بها ستتحرك للتعبير عن واقع إجتماعي بصياغات جديدة، وهذا ما يجعلنا نرى تنوعاً من الصور لم نعتاد على رؤيتها (بعين واحدة، بوجهين).
 وهذا يفرض نوعاً من التناغم بين مختلف ترابطاتها اللونية وتآلفها، فهي منذ البدء حريصة على تلك العلاقات القائمة بين عناصرها، إن كان على صعيد اللون أو الخط أو الشكل دون أن تفقدها مدلولاتها، ولا شفافية شعريتها، تلك الشعرية التي تفيض بها أعمالها وكأنها قصائد مكتوبة باللون.
 فليس من باب الصدفة أن يلجأ الشعراء إلى أعمالها لتكون أغلفة لدواوينهم، فتلك الشعرية الطاغية فيها وفي مروياتها المقترنة بمقولات المغامرة والتجريب تدفع بمشهدها الإبداعي نحو سرد فيه تختزل سماته برؤية لا تخلو من الحداثة في بعض مظاهرها . 
فاطمة إسبر تسهم بهدوء خطها في تحديد بعض ملامح تجربتها، أي في تخطي الطرق التقليدية، وإبراز محاولاتها اللاصورية أكان ذلك في قيمها الخطية أو في قيمها اللونية، وتلفت إنتباه الوسط الفني إلى ذلك.
 ولعل المعبر عن ذلك سعيها نحو أسلوب مختلف ومتباين به تعبر عن رؤيتها الخاصة، فالأشكال التي تستوحيها من (وادي عبقر) تجعلها تركز بالضرورة على إحياء الصور وتجديدها، مع نزوعها نحو شيء من الغرائبية كإضافات لازمة لمشهدها حتى يبقى متماسكاً على إمتداد الخلق كما على إمتداد قراءتها.
 ونحن في هذا السياق وبعيداً عن التقاليد التقليدية في ولادة العمل الفني، ونظراً لقربها من الفن الجديد وما يعصف به في السنوات الأخيرة فهي تسهم في بلورة منطلقات أساسية لوعي جديد، وفي التمهيد لتعبير يرتكز على ذلك الوعي، بيد أن السمة التي تكاد تكون مصدر إلهامها هي ذاتها التي تساهم في إنتشار تحولاتها، ومعبراً عن طموحاتها في إعادة الذوق الرفيع في زمن أصبح الذوق الرديء هو السائد .