'جسد تعثر بالندى'.. قصائد من زمن المراثي

حيدر عبدالخضر ينتصر في مجموعة الشعرية للإنسانية ويضمد الجراح والخيبات ويحدّد موقفه الوجودي من الحياة، ويطرح مقاربات مختلفة للذات والآخر والعالم.

المجموعة الشعرية (جسد تعثر بالندى) للشاعر حيدر عبدالخضر صادرة عن دار الشؤون الثقافية- بغداد، 2016 بهذا الاستهلال يفتتح الشاعر نصه الشعري والتي تنسجها أوجاعه نصوص تنتصر للإنسانية والقضية.
مدخل متغنّج بسرمدية بسالة الثائر، مثلما هي عادة الشاعر في كل مراثي قصائده في ديوانه الأول، عودنا على ان يشهر نقده أو لومه قصائد بلباقة امتعاضه لما يجري من استلاب وفقد بنبرة غضب انتصارا للحس الإنساني وللقضايا المشروعة بشكل مبدئي غير قابل المهادنة.
هكذا يسلك بنا الشاعر صفحات الخيبة والانتكاسة ويضمد الجراحات صنوف ما كابدته من جلد للذات صاغها قصائد تشترطها اللعبة الكلامية، مقاربات مختلفة للذات والآخر والعالم.
اقتباس:
أيتها الأبدية
مدي لنا نياشينك الناضجة
وقلدينا موتا
يليق بأسمائنا وارواحنا ...ص22

العنوان تجاوز دلالة التركيب الاسمي، المحمل بالثبات، منزاحاً إلى مشهد لا نهائي الحركة، يضج بديمومة التفاعل بين الذات /الاخر .من الصعب التنبؤ به، إلا إذا عرف بواعث الفقد والموت والخوف، ومن جماليات التركيب العنواني ـ ومن خلال وظيفته الإشارية ـ يضعنا في دوامة من التساؤلات الا نهائية، لان دلالة "الجسد/الندى" تقع فما بين الحسي/المادي خيط يؤرّق الإنسان فيجتاح ذاته كي يجعل من حركته في الواقع مستوى من مستويات الكون المستمرة في الحضور، مستلهما من عناصر الحياة شكل إطلالاتها الجمالية، ولعل الشّاعر كائن بين الجمال وبين فجوات الانكسار الإنساني.
عنوان يحمل حجم المعاناة، التي عاشها الشاعر- المتلقي معا بعد غياب الأمل. وهكذا، فإن العنوان يرتدي لون الفقد والخذلان، في تعبير صادق عن أزمة الإنسان واستحضار بعض هذه الصور في طابع حزين، الشاعر يدون في كل نص لحظة من اللحظات التي عاشها، الانسان/الوطن.
اقتباس:
اننا متوزعون
قد ضاع في
لغة النوافذ ارثنا
وتبعثرت ...اعمارنا
بين الهوامش والمتون ...ص50
وهنا يعمد الشاعر إلى تأكيد وجوديته عن طريق الثنائيات الضدية التي وظفها في حركة الدوال فلهذا وظّف الشاعر فعل الاغتراب لأنّها حالة من حالات البحث عن الاستقرار، وبالتّالي تصبح القصيدة حالة جمالية ترفرف بين الفضاء والواقع الذي ينتجها، وتمثل في الوقت ذاته إحالة إلى الشّاعر في بحثه عن الهوية الوجودية المستمرّة في الحضور، ولهذا لا يمكن للمفردة أن تخرج عن نطاق علاقة الشاعر بمحور الحركة المتمثل في الاخر. - الأنا/الآخر .
اقتباس:
أراهم يسدلون أجفانهم
حالمين...بصباح مشرق وفسيح
ومدن خالية من الأناشيد
هذه التي تركت أعمارهم في مهب العاصفة...ص62
إنّ الحضور والغياب "للأمكنة" مدينة الشاعر .يحدّد موقف الشّاعر الوجودي من الحياة كمأساة نمارسها لكي نقتلع منها بصمة الهوية والكينونة، فهي في وعي الشّاعر مأساة ما يجعل التوعّك في نطاق الذّات بدلالة وجودية ممكنا في المعنى الذي يتخلل خراب "المدينة".
. ولا يكتفي الشاعر بهذا التناول بل يأخذنا إلى طقوس الاحتفال لتسكر أوجاع الناس، ويهدأ سر المجروحين فهنا يأخذنا الشاعر إلى البعد الكرنفالي، الشاعر لا يقدم "حزنه –نقده" ككائن منعزل/بعيد عن الناس، بل يعيش بينهم ويعطيهم/يمنحهم ما يحتاجونه من غناء روحي جمالي، لهذا نجده يعطي البعدين حقهما، فبعد أن تحدث عن الناس المجروحين، ينقلنا إلى وقفات جمالية، نابع من وجدان الشاعر حيث تلعب الحمولات اللغوية دور المرايا، حوارٌ من الذات إلى الذات، يتشكل من خلاله الوجود.
اقتباس:
ما الذي أحاط بها
من سلخ ذكرياتها
وازاح عنها العشب
من اثقالها بالغبار والانين وجعلها خالية من الشموس...ص107
القصائد الشعرية هنا تتجاوز البعد السطحي والشخصي، لتشمل الحياة والروح والجسد. فتتحول الى نَفَسِ النص وروحه. ومن ثمة فهو يخلق فضاء شعريا أدبيا عن طريق البحث عن الذات والآخر في بصمات الصمت العبثية وظلمات الغياب اللا متناهية.
فالشعر صوت "الأنا" في حالة التيه والضياع، حُلمٌ خالق القصيدة من حالة البحث عن الذات الى حالةٍ فوضوية شبيهة بالجنون. وهنا يحاول الشاعر ترجمة الإحساس بشعرية الكلمة بالحكي ، وعبثية الحياة بالصمت، وصراع الوجود والعدم بالغيابا
وهكذا يمكن القول، إن الجرح الوجودي يأثث فضاء قصائد الشاعر، ويظهر ذلك من خلال عملية الربط التي ينهجها الشاعر بين الحضور والغياب . فهما مرادفان للعدم، صورة رمزية يتجلى من خلالها الوجود.
إقتباس:
من اين ابتدئ
بك...ام الليل
كلاكما يحاصرني
بالسكون ...ص125
الحالة النفسية المضطربة للذات في عالم العزلة والوحدة تختلط فيها ألوان الأرق .
حالة الحزن والعتاب التي تظهر من خلال التركيز على الفراغ وتصوير الذات في حالة من التيه والضياع والتعاسة والبحث المستمر عن مخلفات الذاكرة .
أسلوب الحوار والخطاب الموجه للآخر، الشاعر يخاطب نفسه عن طريق الآخر فنجده في محاولة الانسلاخ عن ذاته، حيث إن "أنا" الشاعر تتحول في كل صرخة صمتٍ الى صورة استعارية تعكس الأزمة الوجدانية التي يعيشها .
اقتباس:
مقلتيك.
وانت ياوجها مكتظا
بالرؤى
إلى أين تمضين..
الكل غادرني ولم تبق غير
رائحة...الذكرى...131
إن أسلوب الشاعر في الكتابة يغلب عليه طابع الجمل القصيرة، مما يجعلنا نتوقف عند كل سطر، لعلنا نلمس جوهر المعنى المنعكس على شكل صورٍ استعارية، يمتزج فيها الخيال. وكأنها نوافذ نصف مغلقة تحمل في غالب الأحيان طابعا رمزيا واستعاريا يعكس حالة الشاعر النفسية المتأزمة.
 وهنا لا يمكننا فقط الحديث عن عملية الانسلاخ عن الذات بل وصف حالة الذات النفسية حين يعتزل الفرد للعالم
أقول في هذه النصوص الشعرية نجد الشاعر يفصحُ عن كل ما يجول بخاطره من اللوعة والتي لا تفارق مخيلته، نسجها قصائد من لغة مستوحاة من أحاسيسه التي لا تفارق وجدانه ومخيلته، أن الشاعر في حالة من التساؤل والبحث المستمر عن أجوبة. يحاول هنا جاهدا ان يجعلها تداخلا فنيا من التناقض في الحس والكتابة ، في ظل أزمة الوجود.
اقتباس:
هكذا يساقط خلف أجسادنا
فتدونه الفصول والتقاويم
هكذا يبدو المحو
حيث لا جهة
ولا بوصلة تدل على الفائض...ص153
واخيرا اقول ان ما يميز أسلوب الشاعر ثقافته الواسعة في كل الفنون الاجناسية، هذا الأمر يتجلى في دواوينه وما يكتبه من نصوص في مجال المسرح والسرد والتي تتفاعل جميعها بقوة مع النص الشعري الحديث، والذي يترك روعة واناقة الصياغة الفنية في نفس المتلقي، حيدر عبدالخضر شاعر بارع وملم بخفايا الأدب والإبداع.