أوروبا التي زُجت في حرب لا تريدها
تفضل الولايات المتحدة أن تبتز أوروبا تحت شعار التضامن مع أوكرانيا على أن تشجعها على القيام بدور وسيط عاقل بين طرفي الأزمة.
وإذا ما كان بوتين قد لجأ إلى الحرب باعتبارها من وجهة نظره الحل الأخير للإزعاج الأوكراني فإن الرئيس الأميركي لم يكن أقل حماسة لذلك الحل الذي هو من وجهة نظره بداية لحرب أوروبا على روسيا.
فالحرب روسية لكن على أنغام أميركية.
ومَن أرعبتهم مشاهد الذعر الشعبي الأوكراني نسوا بالتأكيد تفاصيل المجزرة الكبرى التي ارتكبتها القوات الأميركية حين غزت العراق عام 2003، ناهيك عن الخراب العظيم الذي حل بسوريا وكانت الجماعات الارهابية تُدعم وتُمول من قبل دول صديقة للولايات المتحدة.
كانت الإدارة الأميركية قد أعدت حزمة عقوباتها على روسيا قبل أن يعطي بوتين الضوء الأخضر لقواته لغزو أوكرانيا. ولم يكن العناد الأوكراني إلا استجابة لضمانات وتطمينات أميركية بأن روسيا هي التي تدفع الثمن في النهاية حتى لو أتيح للقوات الروسية دخول كييف التي سيكون إسقاط حكومتها جولة حاسمة في حرب أوروبا على روسيا التي يُراد لها أن لا تكتفي بأقل الخسائر.
روسيا المنبوذة أوروبيا هي جوهر الحكاية الأميركية. اما ما يُصيب أوكرانيا وشعبها فتلك حكاية يُمكن أن تُطوى مثلما طويت حكاية العراق وشعبه ومثلما ستُطوى حكاية سوريا وشعبها.
ربما أعتقد الأوكرانيون أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى انقاذهم مع الإطلاقة الروسية الأولى وأنها لن تسمح للدبابات الروسية بسحق المدن ببشرها. ذلك لم يكن صحيحا وانتهى الأمر بشعور عميق بالإحباط. كان في إمكان الإدارة الأميركية أن تمنع وقوع الحرب غير أنها لم تفعل. تلك إشارة سلبية كان من المفترض أن ينظر الأوكرانيون إلى مصيرهم من خلالها. لقد تم استعمالهم ليكونوا ضحية وكان الهدف الأهم أن تشعر أوروبا بالخطر.
كل تقارب أوروبي ــ روسي يسوء الولايات المتحدة. وفي المقابل فقد كانت هناك دول أوروبية لا تنظر إلى روسيا باعتبارها عدوا حتميا. لم تعد روسيا ذلك العدو العقائدي الذي يجب الحذر منه كما أنه ليس صحيحا الحديث عن "القيصر الجديد" الذي يحلم بإعادة تركيب الاتحاد السوفييتي على أسس جديدة.
روسيا التي ورثت مقعد الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن يحق لها أن تنظر إلى وجودها من زاوية كونها الدولة العظمي التي في إمكانها من خلال اللجوء إلى حق الفيتو أن تُفشل ما يتفق الغرب عليه من قرارات في شأن قضايا الشعوب.
تلك نقطة لا يمكن القفز عليها إذا ما أردنا النظر إلى معادلة توازن القوى العالمية. لذلك فقد كان صادما ان ترفض دولة مثل أوكرانيا بموقعها الحساس الانصات إلى الصوت الروسي. كان العناد الأوكراني مدروسا في سياق برمجة أميركية تذهب إلى سد الآفاق أمام أي حوار ممكن بين وريثة الاتحاد السوفييتي وواحدة من جمهورياته السابقة. كان ذلك تطورا غير مسبوق وغير متوقع من شأنه أن يفتح الباب على أسوأ الاحتمالات فكانت الحرب قدرا لم تكن أوروبا لترغب فيه لو لم تضع الولايات المتحدة كل جهدها من أجل أن يقع.
اليوم، الحرب روسية غير أن أوروبا أُجبرت على أن تكون طرفا فيها. فباستثناء ثلاث دول من الاتحاد الأوروبي فإن أوروبا كلها استجابت للأوامر الأميركية بتزويد أوكرانيا بالسلاح ودخلت في متاهة العداء المحكم لروسيا. فهل تكفي مفاوضات أوكرانية روسية لحل الأزمة في مثل ذلك التحول في الموقف الأوروبي؟
الولايات المتحدة تدير الحرب من موقع المايسترو الذي يحرص على مراقبة أفراد فرقته وهم يؤدون مهماتهم. وأوروبا التي كانت يوما ما تستعد لكي تكون ندا غربيا للولايات المتحدة صغر حجمها واندحرت معنوياتها فصارت أشبه بساعي بريد.
أوروبا اليوم هي في أسوأ أحوالها.
فهي من جهة عاجزة عن حل واحدة من مشكلاتها ومن جهة أخرى فإنها صارت أكثر تابعية للولايات المتحدة.
فالحرب في أوكرانيا ليست حرب أوروبا غير أنها تدفع ثمنها. هي حرب أميركية بالرغم من أن الولايات المتحدة تكتفي بالإشراف عن بعد، فيما تتحمل أوروبا كل العبء. عبء الحرب وعبء اللاجئين وعبء الهزيمة التي ستضرب الجميع بتداعياتها. ستكون هناك أوروبا أخرى بعد هذه الحرب. وهي أوروبا ستكون منقسمة على نفسها بعد هذا التماسك المفتعل والارتجالي ضد روسيا.
ليست أوروبا مستعدة لخسارة روسيا. فبالرغم من الضغوط الأميركية فإن لأوروبا حساباتها التي لن تضع روسيا في موقع العدو الدائم.