إسماعيل أبو ترابة ومصداقية الجدل مع التشكيل

التشكيلي السوري يدخل خطابه اللوني خلف ستارة ليس غير المتلقي الفطن قادر أن يمزقها لتنكشف له كل تلك الكنوز الراحلة في تكويناته.

كلما فكرت بالكتابة عن أحد أعمال إسماعيل أبو ترابة كلما أسرعت عدة مكابح توقف همتي وتكسر مهمتي، فإسماعيل نحات يتخذ من أزقة التاريخ حيناً ومن مرجعية الذات حيناً آخر موضوعاً لمجسماته التي تحاكي فلسفة تقارب فهم الحياة عبر طرق تفضي عن قصد أو دون قصد إلى تأويلات معرفية تشغلك حتى وأنت تبتعد عنها، كما أنه صاحب أصابع يداعب القوس وقزح بإيقاع يطلق العنان لصياغاته بغنى كل السياقات التي يتجول فيها.

فكانت الحيرة تشغلني كثيراً، ولكن عمله الذي نحن بصدد قراءته وهي من أعماله الأخيرة أماتت تلك الحيرة، وعبر تأمل دام أكثر من عدة أيام وما زالت تفعل فعلها برؤياي، أوقفني عمله هذا، عمل يبلغ سوية النصوص التي تقودك نحو منتج جمالي وبوعي جمالي، فهو يؤكد مصداقية الجدل مع التشكيل، مع محاولته للإنشغال بفعل الإغتراب القائم على البعد الرابع والذي يعطي لأبي ترابة كحاضن مميز لمقاييسه غير المحدودة بساتر لوني ولا بحاجز زمني، ولهذا نراه يحرر كل حبال وعيه وهذا ما يدعو إلى حضور وقفز عدة سبل أمام ريشته، التي تتقن كل مفردات التشكيل، فيرمي أبو ترابة وجهاً في منتصف العمل المنتج كوسيلة تحفيز بين ما هو مبحر وما هو منتج من جهة، وبين ما هو منتج والمتلقي من جهة ثانية، وذلك بإحاطة تكويناته بمقولات هي نوافذه للإبحار مع أشرعته، رغم الوجود الهائل من القيم الجمالية التي تبحر بدورها مع تلك الأشرعة، فأبي ترابة هنا يتجاوز تلك الرؤية الولودة من تكريس بؤرة العمل على أساس لا ينفصم من عودته إلى الذات ،يتجاوز إلى خلق قيم نبيلة بتجليات عاشق مبحر في عيون من يحب، دون أن يعاني أي عقبات ولا أي ويلات، فهو يرتاد حواف الحكاية بترتيب تكاملي ثم إلى المتن بتأنق مفترض حيث الوجود الحكائي الجمالي الذوقي الذي يحيلك إلى كم من تشكيل معطيات متخيلة بنمط يتعلق بصوت الفنان داخل عمله.

وكان من الممكن لأبي ترابة ألا يقتصر على الجانب الوصفي حين حاصر منجزه هذا بهالات عريضة من معايير عملية تحمل مفاهيم تتأرجح بين اللجوء إلى التحليل في إطار عملية الإستعراف، وبين ما هو ممكن كعناوين غير إعتباطية أو حتى ما يمكن تسميته ضابط إيقاع لعمله، وفق توثيق العلاقة وبحميمية عالية ما بين اللون والخط دون الوقوع في تجليات الموضوع، فهو هنا يكسر الرومانس بإنتاج الفعل الضمني للعمل الذي يعول عليه في الإستفادة من كل المداخلات (اللونية خاصة) بما فيها تلاشي الأفق المطابق لاحداثيات خلق العمل، فأبو ترابة وفي علاقاته بأحوال وشروط تولد العمل يضع كل دلالات مقولته بمعناها الشامل في توكيد ملامح العمل، تلك الملامح التي تنأى في الإنطلاق والنزوع بين الشوائب التي قد تخالطه، وبهذا يحتفي أبو ترابة بالتتابع الدال منذ الوهلة الأولى في غوص عمله مع الإستهلال الزمني في هيكلية المنتًج عبر مقياس داخلي يستجيب لكل المواجهات المحتملة وعلى نحوأخص الإيجابية منها في سياقاتها المتنوعة (التكوينية المكثفة، حماية النزعة البحثية، محايثة علائق التركيب الفني بالخلفية ...... إلخ) وضمناً السياق الذي يجعل العمل وفي منظوره الجمالي إطاراً مرجعياً يعادل إبداعه في سياقه الخلقي، وقد إستعان أبو ترابة بمقولات نظرية التعبير ضمن تأثره بأسس قائمة على الممكن كأساس لمعياره القيمي مع الحفاظ على نوع ما من المجاورة ما بين البني في تدرجاته وما بين الماء في غفرانه لأزرقه، وهذا بحد ذاته يشكل لأبي ترابة فاصلاً إنعطافياً في لغته التجريدية وقد تكون نقلة ضمن نظام نهضوي لتجربته العالية القيمة، وبتطور يصل بجهد تراكمي إلى أفقه، وبتمايز حقيقي يدخل أبو ترابة خطابه التشكيلي خلف ستارة ليس غير المتلقي الفطن قادر أن يمزق تلك الستارة لتنكشف له كل تلك الكنوز الراحلة في تكويناته.