بهجت داهود يبحث مع متلقيه عن الإنسان ويكشف سره

إبن مدينة الحسكة يعيدنا إلى عبق زمن كان كل ما فيه ينبض بالعفوية، كل الأمور فيه ترتقي ببساطتها لا تضمين ولا دلالات عميقة، لا مقولات مستوردة ولا تنظير، المعيار كان الواقع بكل وضوحه.

إذا إعتبرنا الفن كائن بروح وأحاسيس، وهو كذلك فعلاً فلا يمكننا التعامل معها إلا وفق ذلك، وحين نقول أن الفنان كائن غير عادي إن كان ما يملكه من أحاسيس غير عادية تصل في رقتها وشفافيتها إلى ما لا يمكننا تشبيهها بأي شيء، لا بورق السجائر، ولا بالبللور حتى، فهو أرق منهما وأكثر شفافية كذلك، قد يحق لنا تشبيهها فقط بقلب ملاك قادمة من السماء العاشرة، عاشقة لحد الذوبان، أو ما يمكن أن يحمله من طاقة قادرة أن تجعله عابراً للآفاق، أقول هذا عن الفنان لأنه يحمل في داخله ذلك الكائن الذي أسميناه الفن بكل أحاسيسه وجمالياته، فإذا كان الأمر كذلك كيف بنا أن نفهم إبتعاد فنان ما عن هذا الكائن العذب لسنوات قد تصل لربع قرن مثلاً كما هو الأمر مع الفنان الذي نحن بصدد قراءته في هذه المادة وأقصد بهجت داهود إبن مدينة الحسكة الذي ولد فيها عام 1963 ومنها هاجر إلى كندا عام 1998 حيث يقيم الآن، إنقطع ربع قرن ليعود بروح الثمانينات والتسعينات، تلك الروح البسيطة التي كانت تلتقط ما حولها من مشاهد إجتماعية، وريفية، وطبيعية باتت من التراث والفولكلور الذي يحن كل منا إليها، عاد ليكمل من النقطة التي وقف عندها، من ذاكرته البعيدة وهي تجول في أروقة الحياة والمدينة والقرية حينها، عاد ليواجه بوعيه الوعي الذي كان، ويبذل ما في وسعه لتكون هذه العودة حميدة ومثمرة، وإشارة حنين وإنتماء، عاد بتشجيع من الفنان والناقد السوري عبدالقادر خليل حين دعاه للمشاركة في المعرض الدولي في إسبانيا والذي أقيم في متحف ميرينداس التاريخي لمدينة ميداينا دي بومار عام 2021 والذي شارك فيه 79 فناناً من دول كثيرة، فهذه العودة منحته روح الفن من جديد، وأيقظها من سباتها العميق والطويل، ولن يكون سهلاً التعامل معها، يحتاج الأمر إلى صبر وحب، إذا كان قد عاد بكل شغفه، فالأمر قد يكون مختلفاً عند الطرف الآخر، أقصد الفن، قد يكون نومه ثقيلاً ولغته باتت ثقيلة لم يمارسها منذ سنوات بعيدة، الأمر ليس سهلاً، بل يحتاج إلى فك تأتأته، والإنصات إليه مطولاً فلديه ما يقوله وما سيحاسبه، قد يغفر للفنان هذا الغياب ويتصالح معه، أو قد يرفض تلك المصالحة ويبقى في برودته، وهذا ما سيظهر لنا ونحن نقرأ نتاجاته التي بين أيدينا، سيظهر ذلك جلياً في إقترابنا منها وتحريك الساكن فيها.

بهجت داهود يعيدنا إلى عبق زمن كان كل ما فيه ينبض بالعفوية، كل الأمور فيه ترتقي ببساطتها، لا تضمين ولا دلالات عميقة، لا مقولات مستوردة ولا تنظير، المعيار كان الواقع بكل وضوحه، يرفض التعقيدات وكل ما يمكن أن يوحي بغير حقيقته، كاد أن يصل إلى حد الإستسهال لعدم إقترانه بتغريبة الإنسان من عالميه الداخلي والخارجي، كل شيء يشد كل شيء وهو السبيل إلى التطهر من الأدران التي قد تظهر في دروب الحياة، يعيدنا إلى عبق مازال لدى داهود نفس ينفخ فيه ليكون صالحاً للتعبير عنه وعن عطره النوعي، الآن وفي كل حين، عبق لم يعد موجوداً إلا في حكاياتنا وأحاديثنا والتي بدورها باتت قليلة في هذا الزمن المعتوه، لم يعد موجوداً إلا في ذاكرتنا البعيدة التي تأبى تركه في مهب الريح العاتية، مؤكداً ملامحه التي تتبدى في مشاهده ككلمات غير خاطفة، ككلمات تتلبس الطريق لتضمن لنفسها بقاءها في دائرة الفعل الجميل، وتبقى على الدوام تذكرنا بواقع لا إضطراب روحي عميق فيه ولا معاناة نفسية عميقة فيها، ولتروي حكاياتها الموغلة في القدم بتعميمات عميقة للحياة، فالإنساني فيه ليس في تناقض مع الوسط الذي كان يعيش فيه، بل في حالة من الوئام والتآلف، والناس كانوا طيبين في المكان، لم تصب بعد بتلك الآفات التي قدمت عليها فيما بعد، فكانت صلة القربى بين مفرداتها في أفضل حالاتها، وهذه سمة تسجل لها حينها ولهذا كانت تصويرات الفنانين عموماً تميل إلى الواقعية كإتجاه وكانت تحقق النتائج المرجوة برفعة وبما يفرضه المنطق الخارجي في مجمل قواعده وحركاته، وبهجت داهود في رحلة عودته إلى ذلك الماضي وهو يعيد إستعادته لا يكف في إلتقاط ملامحه وإمتثاله لها بكل أنماطها حتى تبدو طريقة إقامة وحياة، إن كانت في شعور الإلتقاء بالحقيقة على أرضية الهدف ونقائه، أو من خلال إلقاء الضوء على أحداث وظروف وأمكنة ووقائع يكون فيها بالضرورة أميناً في نقل تفاصيلها التي هي تفاصيل المرحلة الزمنية بأكثر نماذجها.

بهجت داهود وبصرف النظر عن قربه اللذيذ من تلك المرحلة فهو يملك وعياً بالأشياء وبسماتها المميزة، وبقوة النفس الإنسانية التي يمتلكها، ولهذا يضع في حسابه العالم الذي عاش فيه والذي يعيش فيه، عالماً خلق فيه شيئاً مشتركاً كإدراكه وفهمه الجانب الإنساني العام في الإنسان، وهذا لا يتعارض مع أي مبدأ آخر من وجهة نظر حرة، وهذا هو الذي جعلت تجربته ترتبط بخط أساسي كامن في دواخله، برغباته ودوافعه ومعاناته، راصداً حركاتها كمرايا تعكس آراءه ووجهات نظره في الإنسان وواقعه، ويجدر بنا القول بأن أية قراءة لعمل فني تتطلب بالضرورة التمييز بعناية بين تأثير العصر الذي ألف فيه ذلك العمل على الفنان والزمن الذي ينتج فيه، ومن خلال إلقاء الضوء على أعماله الأخيرة لا بد من حضور تفاصيل المرحلة الزمنية وتجسيدها، أو نقلها إلى ضفة أخرى على أقل تقدير، وما الرموز الحيوانية التي تحضر فيها ( الثور، الكبش، الذئب، النمر، السمك، الضفدع، العقرب، العصفور، الحمام، الأفعى، الغزال، الديك، الحصان...إلخ ) إلا نماذج لفهم الحياة وموضوعاتها بوجهة نظر تصويرية تدرك الأهمية الحاسمة للمبدأ الذي يضع الإنسان والعالم الذي يعيش فيه في حسابه، وهذا حاضر لديه بإباء وعنفوان، كما هي حاضرة بقوة النفس الإنسانية ذاتها لديه وشموخها، ويجسد كل ذلك في تلك الأعمال التي ستنوب عنه في التعبير، فكلما كانت الأفكار في تنام كان البحث مرتبط بها لا كنتيجة حتمية لما هو قائم، بل كتأكيد على الحياة وتمجيدها، ويعرب بتلك الرموز الحيوانية بأشكالها المختلفة عن مدى قوة وعمق نقد الواقعية وأسسها الخاصة وإن كان يسعى بها إلى كشف العالم بشكل كامل ومن كل الجوانب، وكتعبيري يسعى إلى كشف العالم الداخلي للإنسان، وضمن هذه العمليات الجارية يجذب متلقيه بشكل أساسي، وقد يكون ذلك سر وأساس تركيزهم الشديد في كشف الإنسان معه.