ضحالة الواقع ومرارة العيش تحت ظل كورونا في'عدوّ غير مرئيّ'
يرى الناقد والأكاديمي الجزائري محمد بكاي في مقدمته لرواية الـكاتب والرّوائي بومدين بلكبير "عدوّ غير مرئيّ: يوميّات روائيّ في الحجر"، أنها رواية تقذف بنا داخل مدارات العزلة، لتدوّن بمهارة وحذاقة انطباعات مواطن يحاول تخطّي عبث يومياته في ظلّ تفشّي وباء كورونا. ويقول ترغم تلك التأملات بومدين على عبور الهاوية، وتفادي الغرق في وحل التشاؤمية التي تدثّر بها وضعنا الجزائري مؤخّرا. يجول بنا بومدين في تضاريس اليومي وتفاصيله البسيطة والكثيفة، ويكشف عن العاهات التي تشلّنا والبؤس الذي ينخرنا حتى النّخاع".
ويضيف أن "عدوّ غير مرئيّ" الصادرة بالتعاون بين داري منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف هي يوميّات تكابد ضحالة الواقع ومرارة العيش، كما تستحضر وعي الكاتب ولاوعيه معاً لـما يرغب في قوله، حينما يباغته سؤال العدم ويتعذّر الكلام في حضرة اللاّشيء، يتجاوز كل ذلك ليقف عند هاوية الصَّمت واللاّمحدد، مستشعرا فضاء الحقيقة المتمنّعة عن القول، وتحسّس الرغبة التي يسيطر عليها اللاّمعنى والعدم. ينسحب الكاتب بهدوء إلى جسد الكتابة ليدوّن كيف يلتذّ بتأمّل دائرة الحياة الحلزونية بنعمها وشقائها. في أبسط صُور الـممارسات العادية والنشاطات الرّوتينية، كيف ينجو الكاتب –عبر كتابة صفحات يوميّاته- من هذا العبث الذي يغرقنا في الـمبتذل والتفاهة.
ويتابع بكاي "أمام الضّجر الذي يرهق، وركود الزّمن الذي يلفّ الجميع، تتسرّب إلى الذات نشوة سرد تفاصيل فنون العيش اليوميّ في ظل زمن صعب؛ حيث الوباء وكوارث الطبيعة والجرائم وتوحش البشر وتفشّي اليأس. ينسلّ بومدين من هذا الخراب ليواجه قسوة الحياة ومرارات الخيبة، بلغة رشيقة وخفيفة لا تزعجنا بالمصطنع، كما لا تنحاز إلى أخيلة مركّبة أو صور بلاغية مضخّمة، بل تستحوذ عليها لغة يغوينا سهلها الممتنع الذي يتناغم مع إيقاع هذه اليوميات، عدوّ غير مرئيّ هي مساءلة تنفتح باستحقاق على البُعد التراجيدي للحياة، في إشارة إلى السّقوط الفجّ والـمتكرّر الذي يصاب به الفرد المعاصر وهو يعيش في عالم مجزّأ، يتربّص به التفكّك وتنهشه الأوبئة وتخيّم عليه أنباء الـموت وفظاعتها من كلّ حدب وصوب.
ويشير إلى أنه من أوّل وهلة تبدو هذه اليوميات وكأنها لا تروم شيئا، لكن الهوامش السّردية تخلق خريطة لابتكار آخر ناجم عن تكتيك كتابي لاكتشاف الـمعاني الدّاخلية (الذات) والخارجية (العالم). يوميات بلكبير سرديات هامشية تعرّي الواقع وتكشف تفاصيله بدقّة وحِدّة، وهي سردٌ لا يبالي بخصوصية فنيات تثقل كاهل الكاتب. حيث إنها مشبعة بأحاديث عن العلاقة مع اللامحدد واللامحدود، عند عتبة الكلمة حيث ينفجر سيل من الكلمات التي تريد أن تعرّف تراجيديا اليوميّ بحبر طري ينحت ذاته، ويرسم طريقه نورا في العتمة، فاللغة كالضوء تنير عَدَم الكتابة كما قال إدمون جابيس، الكتابة وهج يهب الحيوات للحروف لتحدث ثقبا في العدم. ما يوجد في نصيات بلكبير ينشّط ما هو خبيء ومطموس في صدورنا، يكشف عن البياض الصّباحي، هو تنفّس عميق يحرّر صرخاتنا المكتومة في زمن الكورونا. يكتب ليحرّر الوريقات من قلق السّلب ويحوّلها إلى ترياق لحالات الوجوم والنَّكسة والقنوط، لأنّ الكتابة صيدلية تمارس استراتيجية الانفلات السّلس من قبضة الزّمن وأمراضه الـمستشرية، فعل الكتابة استشفاء؛ هي سعي الكاتب للقبض على هنيهات خاطفة تشبه "الحدث"، يمارس الكاتب رعب الخطفة؛ أي "خطف اللّحظة"، وسكب ذلك الإحساس على الورق، إنها فرادة فضاء السّرد التي تتخطّى كثافة العزلة وفاجعة الصّمت لتحنو على فجر اللّغة وإيقاعات الوجود الخالصة.
ويؤكد بكاي أن كتابة اليوميات تعلّمنا الإنصات إلى اللاّطمأنينة، إلى التفكير في هدوء اللانهائي المعتم الذي يثير الكثير من البلبلة ويسيل الكثير من الحبر، كتابة اليوميات هي تطلّع إلى ما بعد عتبة السّرد، إلى مواجهة الفراغ والخواء الحتميّ، حيث اللا أحد. ولهذا جاءت لغة بلكبير في يومياته رقيقة تبلغ أقصاها لأنها موعودة بالحفر في مقبرة الوجود عن آثار البقاء وملمح الخلاص، كلام لا يحجم عن الانفصال عن كل شيء لتتورط كتابته في المساس بحنين الأنا إلى الحياد والفقدان.
ويقول "أمام هذه اليوميات يستوقفك الفراغ الذي يضمر استكانة وجودية. ما يتوارى خلف المقاطع اليومية موضوع مفقود، منسي، يجترّه الكاتب ليحاكي فراغ المكبوت. سرديات تفكّر بألـم كما قال بلانشو، وتحاول فتح شرنقة الذّات، اليوميات هي إفراغ نرجسيّ يداعب المخيّلة ويهدهد اللغة ويقاوم القبح الذي يكتسحنا. عدوّ غير مرئي يوميات تمارس التداعيات الحرّة وتناثر الذات الـمتحدثة، لعبور الفضاءات والأزمنة، مشكّلة خرائط لحالات الكآبة واللاّجدوى وفقدان الإرادة، كتابة تقترن بالعبث والرّفض والتعنّت. كتابة الحياد عند بلكبير توق إلى الطّمأنينة وضدّها، إذ تجتهد لتحقيقها لكنها تخفق في إحلالها في كنف عالم شنيع، هو عالم الخيبات، فيعود الكاتب إلى درجة الصّفر، حيث يفقد الرّوح والحسّ والجسد فيبزغ امتداد الخواء واتّساع الرؤية وإخفاق العبارة".
ويلاحظ بكاي أنه كثيرا ما ارتبط فعل الكتابة في هذه اليوميات بالمقاومة والاستكانة، كتابة في ظروف حرجة وخاصة تنهك الذات وتقصيها وتجعلها في مدارات القبض والبسط. كتابة بالنقصان كما يسميها بلانشو، بمثابة حركية تعطّل الحياة وتفتح إيقاع الإقبال على الحياة ليتواصل موتها. إنها تداخلات كثيفة تتماهى فيها الأنا بأشياء العالم الخارجي، في نوع من المزاوجة الشَّبقية بين اللغة والذات المتحدثة، في مزج ترميزي بين صوت الوعي الدّاخلي وامتصاصات الجسد، استجمام كتابي تتمظهر من خلاله آثار خاطفة للفراغ الخلاّق. تمثل هذه اليوميات محطّات لعبثٍ مطلق ليس له موضوع ثابت، فهل هذه الجمالية الاعتباطية والفوضى المفتوحة إثارة لـما يهدّد ذواتنا؟ عدوّ غير مرئي جهد جمالي لـمواجهة الهوّة السحيقة التي تسحبنا إليها كثقب أسود يلتهم كلّ شيء. هذه التجربة السّردية الجديدة عبارة عن شذرات حميمة تحتضن صورا مشحونة بغير القابل للتمثيل، نصيات تأوي داخلها أحداثا لا نعرف مآلات لها، فنحن نقاوم العبث فقط، عبر اللّغة والحَكي نخلق عالـما خياليا مـمزوجا بشتات الواقع لتسمية ما لا موضوع له، لضبط نقطة بلا نهاية، هكذا يرتسم نصّ بومدين بلكبير في فضاء مأهول بالفراغ.
ويرى أنه بعيدا عن البذخ البلاغي والانحراف اللّفظي، تشعّ نصوص بومدين بلكبير كعزلة لا يسعها شيء، إلا الإنصات لليوميّ، حيث تتسكّع سردياته في سكينتها ومكرها لتحيط بما هو عادي ومعقّد وكثيف. لغة شفافة تدفعك أثناء القراءة إلى الاسترسال معها داخل لعبة الحياة وشقاء الوجود، وسط تأمّلات ذات منعزلة تواجه ذاتها بكدّ وعناء. تشكّل هذه النّصوص استردادا للضّائع واللاَّشيء، طقوس الكتابة لديه عرضة للكتابة عمّا لا محلّ له، عن "اللاّشيء، الفراغ، العدم، اللاّجدوى"، وهي نصيات لا تؤمن إلاّ بتحطيم ذاتها كما قال رولان بارت. وهذا اللاشيء الذي يكتب عنه بومدين بلكبير ينغمس بإحساساته وتجريداته داخل منطق الصّمت والهباء واللاّيقين، درءا لـمكر الأنا وانقباضات اللغة التي لا يثق فيها.
ويخلص بكاي إلى أن رواية "عدوّ غير مرئي" عبارة عن إغماءات تهوي باللغة أمام ثقل الصّمت الـمبهر، الكتابة هي سعي حثيث إلى نقطة الانبجاس والإنصات لذّاكرة الذات السَّحيقة، ذلك الإنصات الـمرهف الذي يسائل الـمصائر والـمآلات. حيث ينتصر بومدين إلى حميمية الإنسان، معربا عن تلك الرّغبة القصوى للهواء والحياة وفتنة الأزرق، الكتابة لديه انجذاب رغائبي إلى الوجه الـمحجوب عنّا. تفاصيل يومية متناثرة تحيي الـمجاري التي جفّت، كلمات مفعمة بالعاديّ الذي يجذبنا ويُدهشنا".
يذكر أن بومدين أستاذ جامعي وباحث وروائي من الجزائر، له العديد من الكتب المنشورة، من أهمها: الثقافة التنظيمية في منظمات الأعمال، العرب وأسئلة النهوض، عصر اقتصاد المعرفة، إدارة التغيير والأداء المتميز في المنظمات العربية، قضايا معاصرة في إشكالية تقدم المجتمع العربي ، النص الأخير قبل الصمت.. كما صدر له روايات: خرافة الرجل القوي، ورواية زوج بغال، زنقة الطليان، وأخيرا "عدو غير مرئي-يوميات روائي في الحجر" 2022. وكتاب الاقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر: رؤى واتّجاهات مستقبليّة 2022.
مقتطف من الرواية
11/7/2021
اليوم ليست لديَّ أدنى التزامات بالعمل، أي يوم راحة بمثابة جنة بالنسبة لي، أو هدية ثمينة، بعد عام شاق في الجامعة جراء الوضع الجديد الذي فرضته بروتوكولات كوفيد-19، أصبح التّدريس مجددًا حضوريًا، مع مضاعفة عدد المحاضرات والحصص التّطبيقية بسبب إعادة تقسيم الطلبة إلى أفواج ومجموعات أصغر، والأمر ذاته في امتحانات نهاية السّنة، الكل متبرم وحانق.
نهضت صباحًا وأنا أفكّر في موعدي مع السيِّد حجار صاحب مكتبة الثّورة بساحة "الكور"، اتفقت معه على مرافقته إلى مرسم الفنان تمتام ليجلب لوحته زنقة الطليان أو شارع جوزيفين التي كانت جاهزة منذ أسبوع أو أكثر بقليل. أمام ناظري على الكرسي المقابل كتاب خوان غويتيسولو مفتوحًا ومقلبًا على وجهه، بعد أن فتحته قبل لحظات، قرأت منه أربع صفحات وأرجعته على تلك الهيئة. لم يتبق على الموعد سوى نصف ساعة، عليّ أن أجهز نفسي للخروج.
اتصلت بالسيِّد حجار، كان الاتفاق على أن نلتقي مقابل مصحة الابتسامة غير البعيدة عن محور دوران الجسر الأبيض. وصلت قبلهما؛ الصّديق تمتام الفنان التّشكيلي لم يصل بعد، هو الآن في سيارة الأجرة التي أقلته من مركز "السي أل أس" كما سبق وأخبرني حين اتصلت به، أين نُظِّم معرض يضم مجموعة من لوحاته، في حين بقيت مسمرًا أمام واجهة المرسم الزجاجية أشاهد نسخة من لوحة فان جوغ، وخمس لوحات بتقنيات مختلفة لوجه الفتاة الأفغانية المعروفة، و"بروتريه" آخر لمسؤول ثقافي بالمدينة، حتى باغتني الصّديق تمتام، وبعد لحظات وصل السيِّد حجار. بعد أن عرفتهما ببعضهما البعض، أخذنا الحديث إلى موضوعات شتى تتعلق بالرّسم والفن التّشكيلي والمعمار، خصوصا وأن السيد حجار درس في زواغي بقسنطينة في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي الهندسة المعمارية، غير بعيد عن مدرسة الفنون الجميلة التي درس بها الصديق تمتام بداية من عام ألفين. فضلا عن العلاقة الوطيدة بين الفن التشكيلي والهندسة المعمارية.
قصدت بعدها المدينة العتيقة "لابلاص دارم"، أكلت قطع بيتزا مع مشروب غازي في محل شعبي هناك، ثم قصدت وسط المدينة لقضاء بعض الحاجات. استغرقت وقتًا طويلًا في البحث عن "ستيك" العرق "ويليامز أنفيزيبل"، في الأغلب كل شيء يستورد في هذا البلد، ومع الجائحة تعطلت حركة الشّحن، فارتفعت أسعار تلك المنتجات المستوردة مع تسجيل السّوق ندرة الكثير منها، حتى تلك التي تدخل تأخذ وقتًا طويلًا والنّاس في انتظارها وسرعان ما تنفد مجددًا، وهكذا تجد نفسك تدفع مبلغًا أكبر وتستغرق وقتًا أطول في البحث عن حاجتك.
اقتنيت ثلاث نبتات صبار الزينة من بائع النباتات بجانب سور حديقة الحرية بسعر جد معقول، ثم اشتريت حجارة ملونة لتزيين إناءات الصبار من عند متجر بيع مستلزمات الأسماك والطيور والحيوانات الأليفة غير البعيد عن سينما المنار المغلقة للترميم من سنوات دون أدنى تقدم يذكر في الأشغال، كما اقتنيت صحونًا على شكل قلب لغرض وضعها تحت إناءات الصبار لحفظ الماء المتسرب منها، تكلفت لي تلك المقتنيات ضعفي ثمن النّبتات الثّلاث.
رجعت إلى الشّقة، استحممت، أعددت قهوة، مع قطع الموز وكعك التين وكأس حليب، ثم استلقيت على الفراش وشغلت المكيّف والتلفاز في ذات الوقت، وبدأت أقلب في القنوات، إلى أن عثرت على فيلم سبق وأن شاهدته وأعجبني، فقررت إعادة مشاهدته، كان عنوان الفيلم: "The GhostWriter"، على كل استمتعت مرة أخرى برؤية ومشاهدة الفيلم مجددًا كما لو أنّني أشاهده للمرة الأولى.