دارا آرام يبحث عن سر يقربه من نفسه أكثر
دارا آرام فنان تشكيلي كردي من كردستان العراق، ولد فيها و درس في مدارسها حتى تخرج من معهد السليمانية للفنون الجميلة، فرسم كدحاً من الزمن جوانب من حياتها و تاريخها و طبيعتها، رسم كل ما له علاقة بثقافتها المحلية حتى أحس أن الأمر لم يعد يطفىء غليله و ظمأه الإبداعي فكان حاله كحال الكثيرين الذين يعيشون ذات الحالة، فيركبون البحار علها تقذف بهم ما وراءها فيجدون ما يبحثون عنه، كان نصيب آرام كندا، فينضم إلى كلية أونتاريو للفنون في تورونتو حيث ما زال يعيش فيها إلى الآن، و يتخرج منها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل وجد دارا آرام ضالته، أم أنه ما زال يبحث عنها، أم أن عملية البحث عنده هي حالة مستديمة لا نهاية لها، فإن كان يستلهم موضوعاته من عمق المجتمع و الطبيعة، فها هو يفعلها هنا أيضاً حين يلتقط من نافذته كل ما تقع تحت عينيه، فبحثه هنا مفتوح على العديد من الخيارات و المحاور، فيتحرك ضمن أفق متعدد و متحرك، كما أنه يمكن أن يختار أنموذجاً يكون مفتوحاً بدوره على إمكان تأمل الخصائص الجمالية لها، و تجنب الغزارة المحتملة، و هذا محور من المحاور المتاحة له، فقد ينجز عدداً غير محدود من الأعمال في نطاق يمنحه الرغبة دائماً في كل بحث من التركيز و الإحكام، و تتباين الأعمال بوصفها أنماطاً من اللغات الإنسانية المرئية لها أدواتها التعبيرية و التقنية المتباينة و المختلفة، أو هي نمط تفكيري تخط و ترسم و تنطق بالخطوط و الألوان و الأشكال، فآرام مهما تباينت وجوه الرؤية إليه فهو يشكل رهانه الخاص و حقله الخاص، فيشتغل عليهما بالإفادة من شرط الحاجة المتبادلة التي كان يطرحها و يخلق مشاهد معادلة لها، مع وجود فن جديد الذي بات يغدو مفجراً إبداعياً في غير قليل من الحالات لديه، و يمكن رصد ملامحه أو بعضهاً منها على الأقل من مسار العلاقة بينهما، أو في تداخل لغة الألوان مع إيقاعاتها، و هذا يجعله يحقق جملته المفيدة و يدونها كقصيدة دون قيود عروضية، يجعله يحقق جملة جماليات بقيمها التعبيرية و كذلك بحساسياتها و رهافاتها اللافتة في مدرجات ألوانه، فالقضية عنده جمالية و في ذلك ما يمنحه و يمنح متلقيه معه قاموساً من المعاني، لكل مفردة منها طاقمها الفني، و تفسيراتها و حلولها البصرية الخاصة، و إن كانت ستأخذ أبعاداً مغايرة و التي ستستند إلى معطيات لها إقتباساتها و أنصارها، لها تأويلاتها و تحليلاتها، و كل ذلك يؤشر على ما يطمح إليه آرام، إن كان إلى البحث عن التوافق بين مقولاته الأساسية، بوصفها إهتزازات لتعديدات عديدة كآفاق لكل منها مآلها، مسارات أخرى، أحلام الثقافة الإنسانية،.... إلخ، أو الإقتران بين قيمها، فيوضح على الرغم من تطلعه إلى نسق من القيم الإنسانية تلك الترابطات التي تقرب بينها و تبين إرتباطاتها الكثيرة بين مضامينها المختلفة.
دارا آرام يخلق حواراً طويلاً بينه و بين منتجه أولاً، و بين متلقيه و منتجه ثانياً، حواراً مبنياً على الإنفتاح و الترحيب بعيداً عن حالات التوتر و سوء الفهم، و وفق إيقاع بطيء و لذلك دلالته، فالإنبهار المتبادل بين طرفي المعادلة (هو و هي، هم و هي) هو إشارات يتلقاها كل منهما على أنها رؤى لا تخضع لنظرات مسبقة الصنع، بل رؤى لها الأثر البيّن، و مخيلة سباقة إلى الإهتمام الجميل و العميق بخصوصيات المنتج إن كان في تنوعها المرموق، أو فيما تطرحه من أسئلة، و تضعها أمامنا بصيغ بحثية جديرة بالإجابة و القراءة، جديرة بمقولات يمكن مقاربتها فنياً، فالمقاربة الجمالية التي يذهب إليها آرام تتقاطع مع أفكاره إلى حد كبير، و في مجمل فضاءاتها، و يعطي الكثير من الوقت لتجلياته حين يميل بها نحو الداخل، ناشداً أبعادها الإنفعالية، و ما تحمله من لحظات الصمت و مفرداتها، فهو و سعياً كي تكون مستويات التقاطع عالية يفضي بمشهده البصري أو بفضائه الفني إلى حالة تحيل إتجاه بحثه إلى إتجاهات أخرى يتبرج فيها، بصورها الجديدة و هي تصنع خطاباً فنياً جديداً، منها و معها تنداح إشارات الإستفهام الكثيرة، و بأبجديات مستحمة في ضوء تعبيرية ملقحة بتجريدية لها مفاهيمها، و مرتبطة بدورها بمفاهيم تراثية قادمة من تاريخ و أساطير ما بين النهرين و التي هي متنفسه إلى حد كبير، و ربما هنا يكمن السر حين يجمع بين البارد و الحار كناسك قادم لتوّه من المعبد، فإسقاط ألوانه بطقوسه هو يجعله يقدم مجموعة من تخييلاته بطيب خاطر و كأنه يسعف روحه بها، فصيغه التعبيرية بمجمل عناصرها، اللونية منها و الخطية يوظفها على سطوحه بإتساق جمالي و بما يمكن أن تتحول إلى ألغام لونية تكون قادرة على التفجير في اللحظة ذاتها التي تفجر القوة الكامنة في دواخله، حينها تبدأ حركات الأشكال بالتكون مشرعة أبوابها على إيقاعات لأشرعته المبحرة في اللحظات ذات الحساسية الوارفة بالجمال و المشبعة بمعالم جديدة مفتوحة على الفضاءات بلمساتها المليئة بمحبة الآخرين.
دارا آرام يلهمه كل ما يمر و ما مرً بذاكرتيه، البعيدة منها، و التي تعيد به إلى مرابع الوطن بناسه و حميميتهم، و بطبيعته التي أبهرت الآلهة فكانت مكمناً لعروشهم و حبهم، و القريبة منها حيث يقيم و إن برؤية جديدة جعلته يجد نفسه في مواجهة صراع وجود و تاريخ، هذا الإلهام الذي يتكىء عليه فناننا آرام ليس ثابتاً، بل متحركاً في الوقت كله و كأنه يعارض الثبات، و هو كذلك، فهو مدرك تماماً أن الإبداع الحقيقي يكمن في الحركة و الإنتقالات الممتعة، لا في السكون و تنازلاته الكثيرة، فهو و من خلال عوالم الحركة من ضوء و لون و تفاعل بصري حسي يتعرف على جماليات الخلق في الطبيعة و ما فيها من أبجديات صغيرة و حميمة، و تجعله يلاحق الذكريات و اللحظات و كأنها هي مبررات وجوده، فهذا الفهم و بإحساسه الداخلي العميق يحافظ على خصوصية مساحاته عبر مسيرة سعيه إلى تجسيد فنه بصدق، و هذا يساعده في القبض على روح الذاكرة، بل في القبض على روح المكان و الزمان فيها، و كأنه يترجم ما إستلهمه بخطوط و لون هي التي ترسم مفاصل تجربته، فإذا كانت " اللوحة ليست مجرد مساحة فارغة نملؤها بالخطوط، أو مجرد بقع لونية و شخبطات، بل هي مسؤولية و تاريخ و شهادة و موقف " حسب تعبير الحي أبداً عمر حمدي (مالفا )، فهي عند آرام ذلك و أكثر، مضافاً عليها أنها مسائل ملحة في إطار مهمته الحسية الإنسانية، و هي مساحات أشبه بسجادات صلاة عليها يمارس طقوسه الداخلية في أي زمان و أي مكان، فلا علاقة لذلك بإنسانيتنا ورما نشعر به.
دارا آرام له من الرصيد أكثر من مائة معرض، بين الشخصي و الجماعي، أو بين الفردي و المشترك في صالات العرض و المتاحف المنتشرة في مساحات الأرض الواسعة، فقدم في اليابان و السويد و الدانمارك و المانيا و النرويج و بريطانيا و......إلخ، و بعض أعماله مقتناة من السفارات الكندية في دول عدة، كسفارة كندا في كل من الدانمارك و السويد، و حائز على أكثر من جائزة، لكن الجائزة الأهم هو ذلك الحضور المميز من متلقيه في أي مكان ينتهكه بفنه و أعماله، و بمبادئه و أخلاقياته التي تدين كل بشاعات الأرض و الإنسان، و هو منذ خطواته الأولى مع ريشته و إلى الآن يبحث عن السر الذي يقربه من نفسه ليكتشف هذه النفس و ما بداخلها، وحدها الدائرة التي ستوصله إلى الحقيقة التي سيبقى يواجهها طالما بقي يواجه المساحات البيضاء.