أوروبا الغائبة عن وعيها ليست أوروبا التاريخية

تجربة أوكرانيا لا تمثل سوى دليل واحد على فشل أوروبا في معالجة مشكلاتها.

لم تعد أوروبا تثق بمستقبلها. أبهذه البساطة؟

ليس لأن اليمين المتطرف وجد طريقه لأول مرة إلى الحكم في عدد من دولها أو صار منافسا قويا يترك الآخرين وراءه دائما حسب، بل وأيضا لأنها تخلت بيسر عن مجالها الحيوي بيسر كما لو أنها لم تعد قادرة على إدارة وتصريف شؤونها بنفسها، في الوقت الذي يتعرض النظام العالمي لهزات عنيفة بسبب محاولة الولايات المتحدة إفشال المساعي الروسية والصينية لإخراج العالم من نظام القطب الواحد.

لم تخرج أوروبا عن حجمها حتى قبل أن يخرج الصراع الروسي الاميركي إلى العلن في حرب أوكرانيا. وبدلا من يتسع دورها في الأزمات العالمية حضورا ايجابيا صار ذلك الدور ينكمش ويتراجع ومع غياب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن الحياة السياسية بدا واضحا أن أوروبا لن تكون مستعدة لمد يدها إلى العالم فهي في حاجة إلى مواجهة مشكلاتها التي استحدثت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عملية صادمة يُخشى من تكرارها بعد صعود أسهم اليمين المتطرف في البورصة السياسية الأوروبية.

راهن الأوروبيون في وقت ما على أن يكون اتحادهم قوة ثالثة في النظام العالمي الجديد، متعدد الأقطاب بعد أن تمكن بوتين من إعادة روسيا إلى النظام السياسي العالمي وبعد أن صارت الصين مطمئنة إلى تفوقها الاقتصادي وصارت تتحرك بثقة باعتبارها قوة سياسية لا تُدخل المعيار العقائدي في ميزان علاقتها بالنظام السياسي الدولي. غير أن المزاج الشعبي الأوروبي الذي انزلق إلى الشعبوية أفشل ذلك الرهان وسار بالدول الأوروبية واحدة تلو الأخرى إلى الانغلاق على نفسها وعدم التفكير في القيام بأي دور عالمي.

ليست مشكلات الهجرة التي تؤرق اليمين الأوروبي المتطرف هي السبب في صعود ذلك المزاج وإتساع أثره وإن كان بعض الحزبيين قد استعملها مثل فزاعة للتخويف كما فعلت مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا التي كادت أن تصبح رئيسة للجمهورية. يكمن السبب في بنية الإتحاد الأوروبي التي اتسعت أفقيا ولم تراكم خبراتها المكتسبة عموديا. كان قبول دول هزيلة خرجت لتوها من التجربة الشيوعية الثقيلة واحدا من أكبر أخطاء الاتحاد الأوروبي. لقد صار الاتحاد ثقيلا من غير معنى. وهو ما تنبهت له زعامة الاتحاد حين عالجت مسألة انضمام أوكرانيا الداخلة في حرب مع روسيا بالرفض.

ما كان غائبا في مسألة قبول الدول الشيوعية السابقة حضر مع أوكرانيا. فأوروبا السياسية هي ليست أوروبا الجغرافيا. غالبا ما تصنع السياسة الجغرافيا وليس العكس. غير أن أوروبا فقدت الكثير من رصيدها العالمي في المسألة الأوكرانية حين التحقت بالموقف الأميركي وهو ما أضر بها وأضعف موقفها. لقد كان أجدى لها أن لا تتعامل مع روسيا باعتبارها عدوا مثلما تفعل الولايات المتحدة دائما. روسيا ليست عدوا لأوروبا. تلك حقيقة تاريخية. اما الانجرار وراء الموقف الأميركي المعادي لروسيا فقد أفقد أوروبا مصداقيتها في حماية أوكرانيا من حرب مدمرة لن تخرج منها بنتائج إيجابية.

كان في إمكان أوروبا أن تجنب أوكرانيا الحرب من خلال استغلال اللغة الأوروبية المشتركة باعتبار روسيا جزء من أوروبا غير أن التخلي عن روسيا القريبة لمصلحة الولايات المتحدة البعيدة كان مقدمة للتخلي عن أوكرانيا.

لعبت شعبوية الحياة السياسية في أوروبا دورا كبيرا في الدفع بالعربة الأوروبية إلى السكة الأميركية. صار الأمر كما لو أن عداء مبيتا لروسيا هو الذي يتحكم بالقرارات التي يتخذها الاتحاد الأوروبي. وإذا ما كانت الأمور قد انتهت إلى الحرب التي كان من الممكن تفاديها فإن الاتحاد الأوروبي أصبح غير مؤهل للدخول طرفا في المفاوضات المستقبلية بعد أن فقد مصداقيته.

تجربة أوكرانيا لا تمثل سوى دليل واحد على فشل أوروبا في معالجة مشكلاتها. وستكون أوروبا أكثر ضعفا وهي تسعى إلى حل مشكلتها الاقتصادية المتمثلة بالتضخم الذي لم تشهد مثيلا له منذ عقود. كان عليها أن تتريث قبل الالتحاق بالقطار الأميركي. وقد كان في إمكانها أن تكون قوة ثالثة في النظام العالمي الجديد لو أنها تجاوزت مفهوم الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة وتخلت عنه. لو أنها آمنت أن الغرب أوروبي وليس أميركيا لكانت أوروبا اهتدت إلى حقيقتها كيانا تاريخيا عظيما.  

أوروبا اليوم غريبة عن نفسها.