محمد هرو عصاميا في رحلة البحث عن أبجديته

الرب يشاء أن يمنح الشاب المغادر لمقاعد الدراسة لاسباب صحية موهبة تعوضه عن المفقود منه، فيعطيه أجمل من الذي أخذه، أعطاه بما يمكنه أن يتحدى العالم بها، أعطاه موهبة الرسم وزرع في دواخله حبها وعشقها.

محمد هرو شاب في مقتبل العمر، من أبناء وأهالي القامشلي، ولد فيها عام 1999، دخل إلى مدارسها الإبتدائية كحال معظم الأطفال، لكنه لم يستطع أن يكمل تعليمه، سنتان فقط هما رصيده من التعليم، غادرها لأسباب صحية، فهو مقعد ومن ذوي الإحتياجات الخاصة، رغم تحفظي التام على هذه التسمية أوردتها لأقرب حالته من قارئي العزيز، فما أعرفه وما يعرفه الناس جميعاً وهو منهم بأن الإعاقة الفعلية لا تكون في الجسد، بل في الفكر والعقل والقلب والعمل.

ويشاء الرب أن يمنح هرو موهبة تعوضه عن المفقود منه، فيعطيه أجمل من الذي أخذه، أعطاه بما يمكنه أن يتحدى العالم بها، أعطاه موهبة الرسم وزرع في دواخله حبها وعشقها، فبدأ يرسم وهو في الثامنة من عمره، بدأ وهو شغوف به، يمد يده على ما تقع تحته من أدوات بسيطة كقلم الفحم، وقلم الأزرق الجاف وقلم الرصاص وبقايا قهوة نسكافة ليخرج برسومات تبهر المتلقي وتدهشه، دقة في الإلتقاط، دقة في التعامل مع الملامح وتفاصيلها، دقة في الإنجاز، فخوضه هذا المضمار يعطيه مكانته الذي من حقه أن يتنفس فيها، ويتكامل فيها، وينفعل فيها، نعم خوضه في هذا النهر كان إنطلاقته بكل رؤاه الخاصة، وبكل تصوراته التي تقربه من حال فيه يتباين الفاعل ويعوم فيه وهو الصياد الماهر فلا بد أن يكون صيده مثمراً، نعم يقربه من حال فيه يتباين اللافاعل، والذي يظهر وكأنه في حشر ينتظر ميزان الرب كي يصعد عليه ويرى مصيره، فهرو كان ماهراً، لا تلينه غدر الزمن وما ينطوي عليه من تركات تحمل تأثيراتها السلبية، فهو واضح الخطوة منذ البدء، ولد كي يكون فناناً، ولغته هي ريشته وألوانه وهما خير مطواع بتعبيراته وهو يسردها بين أطرها، من هنا بدأت أهدافه ترسم في مخيلته، بدأت آماله بالولادة، فلم يعد يكفيه أن يقضي جل وقته في غرفته الصغيرة، بين أدواته البسيطة وألوانه، فالأفق بدأ يرسم أمام عينيه، عليه أن يؤدي وظيفته الإبداعية الجميلة ليخلص إلى ما يحلم به، حلمه الأكبر أن يكون رساماً محترفاً وهذا ليس كثيراً عليه، فكل المؤشرات تقول بأنه سيكون كذلك في القادمات من السنين، كما يحب أن يكون مصمماً للأزياء ولديه تجربة صغيرة وجميلة، أعتقد سينال حلمه طالما يملك كل هذه الطاقة، وكل هذا التحدي، مع نفسه قبل أن يكون مع الآخر، وكل الحيثيات تقول بأنه يمضي إلى حلمه بخطوات واثقة، وما تسليط هذا الضوء على تلك الخطوات إلا ترسيخاً لها، وما إشباع روحه بالمواقف والفضائل إلا تقرباً منها، فهو يحدد العلاقة منذ البدء بينه وبين الحلم أقصد الرسم، الذي سيحدد بدوره العلاقة بينه وبين المجتمع، ولهذا دور فاعل وفي غاية الأهمية كي يكون، فينبغي عليه في الأساس أن يحمل تعليمات الطريق بين جوانحه، تعليمات تمسك بيده ليشير هو إليها فيما بعد والتي ستلخص بكيفية تنمية سلوك الإنسان، ومن ثم بكيفية صنع الأشياء التي تراود مخيلته.

في حديث قصير لمحطة ما يقول والتي تكاد تلخص طموحه وطموح كل إنسان يحب أن يعيش على هذه الأرض بحب ووئام : "أريد أن أرسل رسالة إلى العالم أجمع بأنني أحب الحياة، وأعشق الفنون، وأريد أن يرى العالم بأننا بالحب قادرين على بناء السلام الذي نرغب به جميعاً " هي رسالة من رسّام شاب يحمل في دواخله كل جماليات الفن والسلام، وبأن الحياة كافية للجميع وقادرة أن تحتضن الجميع بحب، وما الحقول الذي يمضي فيها، أو التي يرغب في صنعها، أو في سقايتها إلا حقولاً تجمل هذه الحياة والطريق إليها، فبعبارة أخرى نقول بأن محمد هرو يعشق الحياة ويرى بأنها تستحق أن تعاش تأييداً لمقولة محمود درويش، وبأن الإنسان وفي مقدمة ذلك الفنان قادر أن أن يرسل طيوره في السموات جميعها، تلك السموات التي تكفي الجميع، فقط بالحب وحده تجمل الأرض، ويصبح الإنسان إنساناً.

تعلم محمد هرو الرسم بالفطرة، لم يرتاد أي معهد فني، ولم يلجأ إلى أي فنان تشكيلي، ولم يلتحق بأي مركز فني، صغر هذا المركز أو كبر، فهو يعتمد على نفسه، ويتعلم كل ما يريد بنفسه، ولهذا فهو حين يرسم بورتريه لصديق، أو قريب، أو لشخصية معروفة ينهمك فيها طويلاً قد تذهب معه إلى أكثر من أسبوعين وربما قاربت الشهر، الزمن لا يشغله، ما يشغله أن يخرج العمل من بين يديه معافى وبصحة جيدة، ويحس بأنه كفى ووفى، ووصل إلى ما يريد، وأن يلامس قلوب متلقيه، فهو يعبر عن مشاعره بصدق، ويلعب ذلك في غاية الأهمية حين ينجز عملاً ما، النشوة التي يعيشها لا توصف، ورضا متلقيه تزيد من نشوته وفرحته، وهذا يشجعه كي يستمر ويقول كلمته في هذه الحياة، وكي يكون شخصاً مميزاً، ويصنع فارقاً مميزاً في حياته حسب ما يقول وحسب ما يريد.

وأخيراً لا بد أن نشير بأنه شارك في ما يقارب عشرة معارض، ويحتاج من يقف إلى جنبه، أقصد إلى جنب ريشته لتأخذ مساراً يليق بها، مساراً يعلن عن ولادة فنان قادم بقوة، فقط قليلاً من الإهتمام.