سمكو توفيق بين بهجة اللون وانسجامه وروعة الشكل ودقته

يوجد بين الفنانين قلة قليلة يمكن أن تخطو خطوات أكبر وتصل إلى القمة، قلة قليلة منهم يتجاوزون البديهيات ويندسون بين ألوانهم، ويتعلقون بآليات إنكشاف الذات فالطريق مفتوح أمامهم وهم كالملائكة ينزعون إلى إطلاق سراح النور الكامن في أرواحهم.

تؤكد أعمال سمكو توفيق (1949- السليمانية) بأنها مرشده إلى عوالم لحكايات تتخطى ظلمات الحاضر، وتحرص على جدوى البحث ومدى محاولاته في الإنطلاق نحو جذور لقضايا يحيا بها، وذلك رداً على الجمود والتقليد الذي يغزو الإنسان وأشياءه، وهنا تبرز أهمية تلك الأعمال وفلسفتها، إن كانت في ماهيتها، ومرتكزاتها، أو بما تقوم به من معالجات بنطاق إبداعي معتبرة إياها مجالات بحثية مهمة بينها تداخلات ملفتة على مستوى التأثير الذي يحتذى به، فتوكيد القيمة الفنية الخاصة في سردياته اللونية نابع من المقدرة الفنية والتعبيرية العالية له.

ورغم ما تحققه أعمال سمكو توفيق في المنجز التشكيلي ومشهده في كردستان العراق على نحو خاص وفي العراق على نحو عام، فهي ما زالت تحتفظ بقوة بنائها وتأثيرها وقيمها الجمالية والتشكيلية والفلسفية الخاصة بها عبر حكايات كل منها تعبر عن ذلك، مضافاً إليها رحلاته إلى الحلم المستعاد في تداعياته وتداعيات شخوصه بإضاءاتها وبما تعمق فهمه وفهمنا لطبائع محفزة لترقبه وترقبنا، لانتظاره وانتظارنا، ومن خلال شروعنا في حلمه ذاك أوجب علينا النظر في موجوداته برؤية حالمة، والقصد منها معرفة المزدهر منها على محاورها العدة والتي تبرر تبوُّؤها في قمة حسه الفني الذي يفتح بدوره نوافذ أسئلته الداعية إلى إدراك الأشياء، بل إلى إدراك ذوات الأشياء بتعبير أدق، ولجعل ذلك مستقلاً بروعته كان لا بد عليه أن يقدم عدة اقتباسات عن وجود الممكنات الاعتبارية، الخارجية منها والداخلية، فهو لا يحجب النور عن طرقاتها، بل يمدها بالطمأنينة والحب، وبناء عليها فإن توفيق يملك إستراتيجيته كفنان في إنتاج العمل المبدع بمعايير وتقنيات ووسائل خاصة به لتحقيقها، فهو يتمتع بتعبير يضمن له النتيجة، وهذا يعني حتماً صحة المقدمات، أي أنه يملك مهارة الاستنتاج للوصول إلى التفاصيل الصغيرة حول أي موضوع قد يذهب إلى الخوض فيه، وبذلك يرتبط الاستنتاج لديه بكل من التحليل والتركيب للوصول لجزيئات الأمور، أي أن توفيق يدرس العموميات التي تندرج تحتها تلك الجزيئات، وهذا مرتكز أساسي وعام لديه يمكن الإفادة منه، وعلى نحو أخص في مناطق التلامس بين المتلقي والعمل المنتج، المناطق التي تتحول إلى تداخل مع اندفاع الحركة لكل منهما نحو الآخر، ويتمثل لنا ذلك ونحن ماضون في قراءة ذلك المنتج وبما يقدمه من مشهدية جمالية حكائية مغايرة في الأصول وفي موقعها الفني النهضوي متزودة بالمعرفة والثقافة وبالتالي برؤى ورغبات ومقاصد تحاكي تلك المكابدات والمعاناة ذات الخصوصية والفردانية المنبثقة من أربطة الحكاية ذاتها التي يمكن أن تخلق الأشياء بحقيقتها بصور مستغرقة فيها إلى حد الترف، إلى حد الإسراف في المتع الحسية وما ينجم عنها من تحرير الذات التي تحقق بدورها ذاتية المبدع وتعيد الروح إليها.

قلنا في بداية الكلام بأن أعمال سمكو توفيق تؤكد بأنها مرشده إلى عوالم حكايات معلولها حقيقة، وماهيتها ما هي إلا مرتبة من مراتب سطع النور من أفق يسهم في وضع مشروعه على سلم الانفتاح الإنساني الجمالي بقيمه الجديدة، فارشاً مساحات ينصب عليها الإنسان كمخلوق قادر على إستعادة المتخيل بأريحية يغلب عليها الإرادة بوصفها معياراً لكل المفردات الموجودة، وهو بحق راوي حكايات، يتملكه الرغبة الكبيرة كي يرويها، ومعرفته كفنان بتفاصيل ما يرويه أقصد بتفاصيل الحكاية تجعله يعزز الطريقة التي بها يرويها والتي ترفع من نسبة الممكنات لرغبته وحيثياتها، محققاً لجميع موجوداتها ذاتيتها الفياضة بحقيقتها، ويمكن القول هنا أن القوة الدافعة لتنوع أرجاء مملكته الفنية بصورها ورسوماتها الكلامية هي بهجة اللون وروعة الشكل فيها، ولا غرابة هنا مهما غدت التحولات فيها إلى مدائن قد تسطع منها مغانم تعبر عن حبه للجمال الذي يلجأ إليه كلما ضاقت به سردياته، فهو يخلق لنفسه ترفاً لونياً هاماً سيضحى لاحقاً جزءاً مهماً من نفوذه، ويسنح له فرصة جديدة وغنية لإزدهار خطواته الواسعة والراسخة التي تستحق الدراسة والبحث، وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافاً فهو يرسم الحلم الذي يمضي إليه بقواعده الخاصة وبأسسه التي ترفع من منسوب سيطرته عليه، ينتهج طريقة مكتظة بالأحداث بقدر ما هي مكتظة بالألوان، لا بطريقة استعراضية، بل بطريقة مرتبطة بلمساته وبنمط يعترف بقيمة تلك اللمسات التي تحمل كل منها مخزوناً من الحب والشغف والإلهام، بطريقة لها أدواتها المختلفة وله مواده المتنوعة، وهذا بحد ذاته يضمن له التمايز في كل مرة يلجأ إلى ذلك، يضمن له التغاير عن مجايليه وبأن مشهده الخاص به لا يسوده فوضى ما نراه وما نعيشه، بل ما يتطلبه ذلك المشهد من خطوات متتابعة كل منها تستدعيه كي يكمل مروياته بتتابع جمالي، إبداعي.

يوجد بين الفنانين قلة قليلة يمكن أن تخطو خطوات أكبر وتصل إلى القمة، قلة قليلة منهم يتجاوزون البديهيات ويندسون بين ألوانهم، ويتعلقون بآليات إنكشاف الذات، فالطريق مفتوح أمامهم، وهم كالملائكة ينزعون إلى إطلاق سراح النور الكامن في أرواحهم، وبثها في الفضاءات لترى بأكثر من عين، مع إدراك الحقائق التي ستتوالد، إدراك تجلياتها وظهوراتها في كل موطن ومقام، في كل النفوس الموجودة في تلك الفضاءات التي ستعلو بأشيائها دون أن تتخلى عن أي جزء منها للوصول إلى فهم خاص للمسألة، وبالطبع المراد هنا هو أن يبقى الحس والخيال في مراتبها الأعلى، ويتجاوز النور كبديهة الظلمات ساعياً لكسب المعرفة الحقة من خلال القلوب الخالصة والطبائع الصافية، ثمة محاولة هنا لسمكو توفيق تمكنه من الاتحاد بعوالم حكاياته، تلك العوالم القادمة من سير الأولين ومن سبر ذواتهم التي لا تحس بالعجز في مواجهة التحولات للزمن، تلك التحولات التي ستغدو بداية لمرحلة من شأنها أن تدفع به إلى اللجوء كوحيد إلى بلاط الإبداع والخلق كفرصة جديدة لإزدهار ولادة جديدة، كوسيلة للبقاء والسير بخطوات واسعة نحو ما يشغله طوال الحياة، لتغلغله في حضارة ثقل حمله، وعظم شأنه، فهو يؤمن بأن الأثر سيكون راسخاً وخالداً، وهذا تلقين بأن الانحدار هو الموت بعينه، ويمكن القول هنا أن سمكو توفيق يتفق مع مطالب الحكاية وينفض عنها كل أتربة الزمن ماضياً إلى مشروعه الذي يراد إتمامه بما يحمله من أصول فنية مقررة في مخيلته، واضحة المعالم على مر الرواية، متنقلاً بها في أرجاء إمبراطوريته التي طالما حلم بإنجازها وترسيخ هذا الانجاز الذي يستحق الوقوف عندها مطولاً.

من المدهش أن نجد في عمل سمكو توفيق ما يدل على تحرره من ذلك الخوف الذي قد يلازم الفنان الحق المتأمل في مقولته وآثارها، وما يدل لنا على قدرته في إستجرارنا كمتلقين إلى محيط وجوهر تلك المقولة التي يمكن تلخيصها بأفكار تتماشى مع حكايا شهرزاد لشهريارها، أو حكايا المستشرقين وما أعادوه لنا، وإن بلغة غير مؤرخة، بل بلغة فيها من الهوس والجنون الأقرب للغة الآلهة حين يتصورون حياة مخلوقاتهم، فما ينثره توفيق لنا من حكايات حيث دقة الشكل وانسجام اللون وحسن الذوق لا يمكن تجاهله، ويتضح مما سبق أنه يمكن تتبع آثاره ولكن على رؤوس أصابعنا، فشخوصه حالمة وسيكون من النقص إذا استيقظناهم من ذلك الحلم الخرافي الجميل.

من السليمانية في كردستان العراق، المدينة التي ولد ودرس وكبر فيها، إلى بغداد حيث يتخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1975، إلى فلورنسا الإيطالية حيث يحقق حلمه ويتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة فيها عام 1982 وما زال يعيش فيها، رحلة ليست قصيرة قدم خلالها سمكو توفيق الكثير من المعارض الفردية والجماعية