نورك موسويان يستلهم من حكايا الأجداد ومروياتهم

من الوهلة الأولى ونحن نخطو نحو عالم الفنان الشاب الكردي الروسي يتراءى لنا عالم بجذور سردية مختلفة، عالم لا يبدو متواضعاً أبداً بل كل ما فيه يمضي نحو التبلور.

نورك موسويان فنان شاب في مقتبل العمر، من كورد روسيا، هاجرت أجداده قبل عقود طويلة من مدينة قارس (karsi) الكردية والواقعة شمال بحر وان على الحدود الإيرانية إلى أرمينيا، هناك تلد والدته (صدا موسويان)، وتنطلق إلى روسيا لتتخرج من جامعاتها وتصبح مدرسة لغات (روسية، إنكليزية) ومازالت تمارسها.

هناك يولد نورك الفنان ألدي نحن بصدده وصدد قراءة أعماله، عشق الرسم مذ كان في السادسة من عمره، وتبدو الأم مرتبطة إلى أبعد الحدود، يقومها الكورد وتراثهم، ولهذا حرصت على بقاء الكردية لغة للأسرة يتبادلون بها فيما بينهم، ولهذا يتقنون الحديث بها جيداً، حتى حين إستمعت إلى حديثها مع الصديق والفنان لقمان أحمد في برنامجه حفت رنك (7 ألوان) لا تكاد تفرقها عن المقربين منك والذين مازالوا يعيشون على ترابهم.

 كانت لغتها الكردية قريبة إلينا، وإن ظهرت بعض المفردات الروسية في لكنة إبنها وأقصد في لكنة فناننا الشاب نورك، وهي حريصة أن ترسي بأولادها ومستقبلهم إلى ضفاف جميلة، فكانت القراءة العمل الأجمل لهم والتحريض الكبير عليها، فهي مدركة تماماً من يقرأ ويعيش أجوائه وأجواء الكتب تتكون شخصيته وكيانه ولا يمكن أن ينحرف سلباً، ولهذا تحولت إلى أسرة متعلمة ومثقفة وإنموذجية، فهي كما قلنا تعمل في سلك التعليم وإبنتها موسيقية، وإبنها نورك كانت تتمنى أن يمضي في أحد الطرق الثلاث: إما أن رياضياً أو موسيقياً أو رساماً.

ولم يخب ظن والدته به، فقد أنجز الثلاثة معاً، فقد أحسن إتقان رياضة الجودو، ودرس الموسيقى وبات موسيقياً ودرس الفن التشكيلي وأنجز أعمالاً بإمكانها أن تضعه في طريق الصعود، أعمالاً تفوح منها الهمة والإجتهاد، فقدم أربع معارض في روسيا، ونال إحدى الجوائز في مهرجان فني تشكيلي يضم الفنانون من بقاع كثيرة من الأرض، والحلم الذي يتأمله أن يقدم معرضاً في كردستان، حلم من يحب ومن يرغب أن يكون قريباً من النفس الذي ينتمي إليه، ونتمنى أن يحقق حلمه هذا، ونراه وأعماله في ربوع كردستان، في السليمانية أو أربيل أو دهوك، وهي همسة في أذن المسؤولين الكورد ليدعوه ويجعلوه ضيفاً على كردستان.

من الوهلة الأولى ونحن نخطو نحو عالمه يتراءى لنا عالم بجذور سردية مختلفة، عالم لا يبدو متواضعاً أبداً، بل عالم كل ما فيه يمضي نحو التبلور بمجمل عملياتها، عالماً له من الإمكانات ما يجعله قادراً على المضي في طريق التطور والنمو والنضج للوصول إلى مرحلة يشار فيها إليه، حيث يمكن التأسيس لرؤية ناضجة وبتجربة ناضجة تجعل من منحاه ما يدل عليه وعلى لمساته الخاصة.

أقول من الوهلة الأولى ومقارنة إلى سنه الفتي بإمكاننا أن نقول بأننا أمام تجربة ستكون لها شأنها في الوسط التشكيلي الكردستاني على الأقل، تجربة مختلفة تحمل كل مؤهلات الصعود والتمايز، تجربة تحتضن في زواياها مفاصل ظاهرة لا يمكن عزلها عن سياق ظهورها، فهو يحاول أن يؤرخ البدايات تمهيداً للبحث في الراهن، ويبذل قصارى جهده لكي يخرج من منطقة المسلمات إلى منطقة الوصف الموضوعي لهذا البحث، وهذا يمنح تجربته مضاءها، ويفتحها على أبعادها الرمزية منها والواقعية، ويجعلها في مواجهة الحياة دون أن تتهاوى موضوعاته في دروب الأفول، بل ثمة إستراتيجية يعتمد عليها في تداعياته المكثفة، فيذهب به الحماس لتناول مجموعة صور بكيفياتها التي تجعله يفطن لجماليات إحيائها، ثم يواصل فتح مجراه معتمداً على إمكانياته الخاصة وقوى مفرداته، فترد جملته المنتعشة بما تفتن مشهدية مرئياته التي قد تأتي على شكل إيماءات عابرة، أو على شكل أديم يحتل موضعاً محدداً، فترد مبتدعة وطافحة بأنغام تجعله يتوغل عميقاً في رحابها، وتتوالى الصور الطافحة بالدلالات تنكشف وكأنها إيماءات متزامنة تمضي في الإتجاهات جميعها، أو كأنها حشد من المرايا المتناظرة كل منها يحيل إلى الآخر حشوداً من الدلالات، وكل هذا لا يرد ولا يتحقق صدفة، بل هو نتاج حركيّة الإيقاع فيها، ينتقل من سلم إلى آخر، يبعثرها في الصدى، وهنا يشار بفرح إلى ما في داخل تجربته، فهو يمتلك ماضياً ممعناً فيه، ومدى ينهض أمام رؤياه.

يستلهم نورك موسويان موضوعاته من حكايا الأجداد ومروياتهم له، ومن والدته التي لا تبخل عليه بكل ما لديها من قصص وروايات، بل تكاد تكون النهر الرافد له، النهر العذب والغزير في النفاذ إلى دواخله، بل ومن جهة أخرى هي سلسلة الجبال التي تسنده وتدفع به بكل هديرها ونسيمها، كما أنه وحسب قوله يستلهمها من إطلاعاته ومن قراءاته للتراث الكردي وفولكلوره، ومما تيسر له عبر الإنترنت كوعاء يحمل معانيه ليمنح نفسه له، فيبتنيها بإيقاعاتها ودلالاتها حركات وأشكالاً ورموز اً، وبذلك يستمد خطاباته وقضاياه مواجهاً أسئلة راهنة تبقى تترصده، كنوع من التحريض على إبراز مقاصده.

تلك المقاصد التي يحتاجها في لحظة الإنجاز، اللحظة التي يحاصر فيها أبعاد نصه بمكائده وتحايلها إلى أقصاها، أو بمقارباتها لمحور الإختيار والتعمق فيه، فهو يوسع دائرة الذاكرة ويشحن خياله علّه يحقق مناخات جديدة لا تربكه مهما كان الإزدحام كبيراً، بل تثير فيه أن يتجاوز ما هو مستهلك، ويمضي إلى ما هو أبعد من حدود إصطناعية، إلى حدود لأشكال جديدة بقيم بصرية جديدة، ولهذا لا يكتفي بالمضي في ذهن المتلقي الذي ينشد على نحو عام إبهاره وإيهامه بكل ما يفي حاجاته، وما يستجيب لقراءته، القراءة التي تقي ذاتها، أو حتى التي قد تتعلق بخاصية من خاصياته الجمالية أو البنائية، بل يدفعه إلى حمل أسئلته والبحث عن أجوبتها في كل مفاصل التجربة.

بموجب احتكاكه المباشر بالواقعية الروسية كان لا بد أن ينتمي إليها، وأن يعوم في أجوائها، وأن يقول بصريح العبارة بأنه بحاجة ماسة إليها، ولهذا فهو شديد الحرص على العلاقات القائمة بين تفاصيلها وما تحتاجه من حركات تركز على سلسلة مفردات تلخص بدورها موضوعات بحوثها على وجه الخصوص، وموسويان يسيطر على تلك الخصوصية بمحاولاتها توفير سياق صحيح لتطور سردياته، تلك السرديات التي تتوزع على البورتريه والطبيعة وما تيسر له من إلتقاط مشاهد بصرية من التراث الكردي وفولكلوره.

ويعرف موسويان تماماً أن لغته قادرة على هندسة مشاهده، وإبعادها من إشكاليات قد تلد هنا أو هناك ومن المفيد أن تؤخذ بعين الإعتبار ففي دلك يكمن بيت الحكمة، نعم يدرك أن لغته قادرة أيضاً على توفير الأحتكاكات بين مفاصلها إلى درجة كبيرة، فهو ينطلق من مقولات عن جماليات فنون الخلق التي تقوم على التجانس المأخوذ من عملية الإبداع ذاته، فآداته لغته التي تركز على توالدات شديدة التوافق مع إنجازاته التي تعطي بعض إشاراتها الموجزة فيما يمضي هو إليه من تأسيس جماليات معرفية، غنية وموحية وداعيةتتفق مع لغته الخاصة التي تذهب في إتجاه تأكيد مواقيت ملخصاته.