هنادي يوسفان تكشف روحية المكان والإنسان

إبنة مدينة حماه السورية تعير اهتماما كبيرا لقضايا صادقة مفعمة بالنفس الإنسانية مؤكدة على فكرة إرتباط الفن بشكل وثيق بالحياة وروحها، ولهذا فهي وإن كانت منسجمة مع ظواهرها إلا أن جلّ أعمالها تغوص في أعماقها وفقاً لمنطق الضرورات الثلاث الموضوعية والفنية والإنسانية.

هي إبنة مدينة حماه السورية، فيها ولدت، وفيها درست، ومن معهدها للفنون الجميلة تخرجت، وفيها نالت دبلوم التربية الفنية، وفيها مارست التدريس كمدرسة لمادة التربية الفنية، لها العديد من المعارض الفردية والمشتركة.

أعارت اهتماماً كبيراً لقضايا صادقة مفعمة بالنفس الإنسانية، مؤكدة على فكرة إرتباط الفن بشكل وثيق بالحياة وروحها، ولهذا فهي وإن كانت منسجمة مع ظواهرها إلا أن جلّ أعمالها تغوص في أعماقها وفقاً لمنطق الضرورات الثلاث الموضوعية والفنية والإنسانية، وبدوافع فيها من الحب للحياة وروحها، والمكان وروحه ما يشغلها النهوض بعملها الفني ملبية حاجتها الداخلية إلى الجميل والفاتن والمدهش، فهي تسير في مسار متصاعد لا بإتجاه صخب الحياة وتدويره، بل بإتجاه عالم من الإستيهامات الذاتية المتقاربة من وقائعها، الساعية لسبر أغوارها وأسرارها علها تعثر على مفاتيحها فتكشف الحياة الروحية الداخلية للمكان والإنسان، مزدهية بمدارات تحكمها مجموعة من الصور والتداعيات غير المكتفية بذاتها، وما لا يفقد العمل الفني جمالياته مهما كان الوقوع في الحماس عالياً، مزدهية بتجربة تتطلع فيها إلى الحركة والفعل وروح الإنسان وأثر ذلك إيجابياً على تطورها.

وبهذا المعنى يمكن إعتبار ذلك حالات ممهدة للإنتقال بمنهجها التصويري من الظاهر إلى الباطن حيث يكتنز الجمال، فتصيغ أدواتها وأساليبها الفنية ما يلائم ذلك، وترسي أسس قصورها المرتبطة بها، وبإهتماماتها فتكسب جانباً قوياً راسخاً تخدم طموحاتها غير المتناهية، فروحها وثابة تجعلها تبيح لمفرداتها تأدية وظائفها.

غير أن بناء العلامات عندها تجعلها تقوض خياراتها غير الفاعلة، فهي ببساطة تتعامل مع وحدات ناشطة لا تقبل التقرير بل تعزز كل ما هو مكثف، ولا تستبعد أدوات الربط بين تلك الوحدات مهما أبقت دلالاتها مفتوحة، فهي تعي تماماً أهميتها، إن كانت في تجسيد آلياتها وتقويض العلاقة بين هيمنة جملتها ودلالتها المسبقة، أو في إثباتها لأهمية العلاقة بين جملتها تلك وما تحمله من علامات وبين قيمتها العليا في مرحلتها الحلمية .

تستعمل هنادي يوسفان لغة إكتشافية بمعايير معرفية، فتقيم حواراً بين مشاهدها من جهة، وبينها وبينهم من جهة ثانية، وبينهم وبيننا من جهة ثالثة، هذا الحوار الأكثر فعلاً فيها وفينا وفي الأشياء التي تخشى تلوثها، بل إنهيارها، فهي بطريقتها الحوارية تلك كأنها تمارس سلطة العاطفة في معالجة المسائل الفنية الجمالية، فمن طبيعتها أنها تحمل من العاطفة والخيال ما يعزز سلطتها تلك، دون أن تتجاهل إستراتيجية مشاهدها المحصنة بصلابة نافذة، بها تكشف وبصورة جلية تلك الأرواح المختارة التي تحمل قدراً من التحمل واللطافة والصبر بوصفها متغيرات مجازة كمرتكز لتحقيق الذات وحضورها.

ولتوظيف هذه الذات وهذا الحضور لا كإنعطافة عابرة، بل كموقف لا يمكن التلاعب به، ولا مصادرته، فالإحتفاظ بمشهديتها في مستوى من التمثل الجميل الذي يستعيد كل خطوة من خطواتها كي تشرع في تفسيرات مختلفة لا تتنكر لمنطق الفكر التأويلي لمنح المتلقي أو القارىء مساحات أكبر من العوم فيها ومقاربتها على شكل اللعب الحر، فمهما كانت صورها في قبضتها فهي ستنفلت منها رغماً عنها، فالعزف الذي تمارسه هنا لا يرقد أبداً ولا يتقن الإنتظار، وتبقى هي تجر أسئلتها إلى حافة اللعب في مواجهة الحقائق لكشف النقاب عنها، فمسألة التعامل مع الموضوعات الواسعة والتي تقتضي مجهوداً مضاعفاً والتي تأتي بها في متن مشهدها البصري لا في ذيلها سيكون لها شأن في قصتها ومواقع أحداثها، فهي لا تستنسخها بل تحيكها علها تمهد لحالتها مقاصدها بسرعة إرادتها وقيمة نظامها، وتميز فكرتها وبداهة حضورها، وهنا يكمن هيامها المدهش الذي سيدفع برؤيتها نحو قوة قدرتها على إختصار الطريق ورصد التدفقات كتعبير أخير به تفك شفرتها على نحو جيد .

حماه، هدوء، لقاء، إخاء، حنين، نغم، نور، توليب، زهرة الليلك، شروق الشمس ... إلخ، عناوين لأعمالها، عناوين لروح أمكنتها ونبضها، عناوين لا ترتبك حين تطلقها، فهي وعلى نحو عام قد تكون تفسيرات ما يختلج في جوانحها، فالأمكنة التي تنفست فيها وبها تهيمن عليها على نحو كبير، وتجبرها على أن تكون بين دفاتها، وإذا كنّا نظن أن هذه الكلمة، هذا العنوان غير كاف لتحديد هويتها، وهوية عملها، إلا أنه قد يكون بداية حقلها، بداية توقعاتها داخل إطار هذا الحقل أو خارجه، وقد يفسد بعض حدودها حين تقولبه، أو تؤطره، أو قد يتحول الحقل إلى هوامش وتقسيمات.

ويبقى العنوان هو العابث بكل الحواجز، بل بكل الثمار، فرغم حميمية عناوينها، والكم الذي يحمله من حب وطاقة وإرتباط بالأمكنة بوصفها وحدات عضوية، أقول رغم تلك الحميمية فالحقول كانت مثمرة أكثر، كانت الأعمال حاملة لأسئلتها على نحو أجمل، وما السيرورات التي تحملها إلا إشارات للغنى المترف فيها، إشارات لا يمكن بلورتها ضمن حدود وتخوم معينة، لا يمكن بلورتها إلا في فضاءات مفتوحة على أمكنة تعشش بالحب والألفة، أمكنة تغمرها أحاسيس من عاشوا فيها، أو عبروا منها، هذه الأحاسيس هي التي تجعلها في حالة تجانس مع ذاتها، بألوانها وخطوطها، وتكويناتها، تجعلها في حالة لا تعقيدات فيها ولا ترددات، حالة غير قابلة للتفتت والذوبان، ولا للتشتيت، وحدها المعاني تنتشر فيها كعاشق مجنون، وحدها الدلالات تعزز مفرداتها بقصد أو دون قصد حتى تبقى محدقة، بريئة لتكون في إنجذاب دائم.