أفق أبيض ونظيف للأكاذيب
"لن تقوم حرب عالمية ثالثة". ذلك ما قاله فلوديمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا المنكوبة بحماقاته. صار علينا أن نرفع أيدينا عن قلوبنا. وهو ما كان يأمله حين سعى إلى طمأنتنا.
أما بالنسبة لأوكرانيا فإنها من وجهة نظره ستنتصر. كيف ومتى؟ لم يسأله أحد. والغرب مستمر في تزويده بالسلاح لكي لا يسقط نظام حكمه بعد أن أثبت خصمه الروسي بوتين أن لا رغبة لديه في احتلال أوكرانيا فهو ليس صدام حسين الذي ارتكب حماقة احتلال دولة هي عضو في الأمم المتحدة. لا رغبة لزيلينسكي في إنهاء الحرب لأنها لو انتهت بخسارة أوكرانيا لجزء من أراضيها التي قامت روسيا بضمها إليها فإن تلك النهاية ستكون سببا في سقوطه وانقلاب الشعب عليه.
يغطي زيلينسكي بطريقة غبية على شقاء شعبه بأمل أن لا تقوم حرب عالمية جديدة. ذلك يشبه ما قامت به الحكومة العراقية حين بنت جدارا عازلا من أجل اخفاء مظاهر الفقر في مدينة البصرة التي تحتضن فعاليات كأس الخليج العربي لكرة القدم، خليجي 25.
كلفة الجدار الذي يبلغ طوله 15 كيلومترا تكفي لإقامة مجمعات سكنية حديثة تنهي جزءا من ظاهرة العشوائيات. كما هي كلفة أن لا تقوم حرب عالمية فإن أبناء البصرة وهي المدينة التي تزود العراق بالمال قد دفعوا ثمن أن تكون البطولة نظيفة من فقرهم.
في الوقت نفسه لا يزال تنظيم القاعدة يبحث عن زعيم له بعد وفاة المصري أيمن الظواهري الذي خلف زعيمه المؤسس اسامة بن لادن. وبالرغم من انحسار نشاطه بعد أن تحول إلى مدرسة، صار خريجوها زعماء لتنظيمات وجماعات إرهابية فإن تنظيم القاعدة لا يزال ضروريا. "لمَن؟" "لا أدري".
وهو السؤال نفسه الذي يمكن أن يوجه بصيغة أخرى إلى العراقيين الرسميين الذين صنعوا من مناسبة افتتاح دورة الخليج لكرة القدم حفلة لمديح العراق متناسين أن دول الخليج وشعوبها تنتظر من العراقيين أن يصلوا إلى قناعة تفيد بأنهم قد تغيروا وتخلوا عن الغرور الفارغ والشعور المريض بالتفوق، وهو شعور يناقض الواقع ويزيف الحقيقة. كانت أغنية الافتتاح تقول "عاش العراق" فيما رددت الجماهير "منصورة يا بغداد" ولكن "منصورة على مَن؟"
ذلك ما يضع زيلينسكي في المشهد الذي لم يغادره. فالرئيس الذي صار عليه أن يعترف بأن القوى التي وعدته باحتواء أي عدوان روسي لم تفعل شيئا سوى استقبال لاجئي بلاده ومد جيشه بالأسلحة فيما كانت حربها ضد روسيا المعتدية تجري في مكان آخر وبأسلحة اقتصادية. وبالرغم من ذلك فإنه لا يزال يعد شعبه بالانتصار. "ولكن كيف ومتى وما هو ثمن ذلك الانتصار الذي لن يتحقق؟"
حرب عالمية ثالثة لن تقع. ما من أحد رأى فقر أهل البصرة ومعاناتهم. وأخيرا فإن العالم ينتظر ظهور خليفة للظواهري ليتزعم تنظيم القاعدة الإرهابي. أليس العالم سجينا لدائرة التيه التي تغذيها الأكاذيب بالأخبار التي لا تمت إلى احترام العقل بصلة. فما الذي ينفع الأوكرانيين في أن حربا عالمية لن تقع فيما ذهبت حياتهم إلى خواء يعادله خراب يحيط بهم من كل جانب؟ وما الذي قبضه العراقيون من أهالي البصرة المعزولين عن الصورة بسياج من النشيد الأبله "منصورة يا بغداد"؟ ثم ما الخير الذي سيأتي به زعيم جديد لتنظيم القاعدة الإرهابي للبشرية؟
صارت البشرية في حاجة إلى خيال أكثر ذكاء لكي لا تتحول إلى حاضنة للنصابين والمحتالين وقطاع الطرق ومسوقي التفاهات. لقد هبطت القيم الإنسانية بطريقة مريعة بحيث يكون تصفيق أعضاء الكونغرس الأميركي لرئيس مهزوم هو زيلينسكي مقياسا للانتصار وصارت حفلة المديح الأعمى للذات التي اقامها عراقيو الأحزاب في البصرة مظهر نجاح للبطولة الخليجية أما قلق البشرية بسبب الفراغ الذي تركه الظواهري بعد وفاته فإنه مناسبة للتفكير بضرورة الإرهاب في حياتنا.
إن قلت إن البشرية في حالة إعياء عقلي وذهني وأخلاقي فإن ذلك القول ليس بالجديد. هل كانت الطريق ممهدة وسالكة لكي نصل إلى هذا المستوى من التفاهة؟ كل هذا الكدح العلمي والفكري في كل مستويات النشاط الإبداعي الإنساني الذي مارسته البشرية عبر الخمسمئة سنة الأخيرة تبتلعه ماكنة السياسة لتحوله إلى مجرد تقنيات تساعد على إقامة مجتمعات استهلاكية لا يملك أبناؤها عقولا تفكر.
هل غادرنا زمن العقل الذي بشرت به أوروبا لنعود إلى زمن الجهل؟ ذلك هو السؤال المصيري.