السوري سليمان طربيه يفتح نزيفه بريشته المتخمة بالوجع

الفنان التشكيلي لا يخشى أن تبقى رائحة موجوداته في منتجه فهو على يقين أن كل ذلك سيقوده إلى الحلم.

"من يمتلك موهبة الرسم يمتلك العالم بأسره" مقولة قالها في حوار ما الفنان التشكيلي سليمان طربيه ابن مجدل شمس في الجولان المحتل حيث ولد فيها عام 1965.

مقولة تكاد تلخص المدلول الحقيقي لوجود الفنان وحضوره اللامتناهي في الحياة وامتلاكه اللامتناهي لروح هذه الحياة، وهو صداه الذي يكشف المزيد من انغلاقاته ويقوم بتفكيك أثره ومفاهيمه.

فليس صدفة ما قاله طربيه، بل ملخص لخطاب الوجود فهما وتعبيرا وسلسلة لإشاراته اللانهائية، تلك الإشارات التي يلتقطها الفنان فيفك شيفراتها وأنماط إدراكاتها الجمالية ويمنحها معطياته التي منها بدأت خبراته بمنظورها الضمني وتساؤلاته بوصفها معابر إلى عوالم تقوم على التوقع.

يمنحها عشقه الذي يتحدث إلى أعماقه الخاصة بحساسيته وأسمائها بذاكرته ومخزونها، ويصيغ ملامحها وتأملاته كفسحات يجاهر بها حتى يسلمها للقدر الذي يبحث عن أشياء مفقودة بين تراكم المسافات المتعبة منها والحميمية المشحونة بانفعالاته المقطوفة من وهج التجربة بشحناتها التعبيرية وكثافة معانيها، فيطلق طربيه العنان لحركاته المزودة برائحة ملامحه وبأبجديته التي تتقن اللون ومبررات مغادرته كنزيف راعف من مفاصل الأرض إلى المساحات البيضاء.

ويدرك طربيه هذه اللعبة ومدى أثرها عليه أولا وعلى متلقيه ثانيا، وبأنها زحام يسير في مسافاته الطويلة علّه يلتقي بذاته، بتلك الحقيقة الغائرة في الحياة وأناقتها، أو في الحياة ومرارتها لا يهم فالأمر سيان، بل غربة تحيط بها مخزون الأيام التي مرت ولن تعود، مؤكدا أن العمر وهواجسه ليست إلا ألوانا مبعثرة فيه ويجب لملمتها على تلك المساحات التي باتت تشبهه / تشبهنا في كل همومه / همومنا المتداخلة، والانعتاق منها مسكون في أدواته التعبيرية والتي ستؤكد قدرته في إطلاق سراحها وعدم قدرته في لجمها مهما استمر في محاولته بكل خوفها وبكل قلقها، فالتدفق قادم لا محال وسيفاجئه بغزارتها التي ستقوده إلى حلمه، الحلم الممتد في الضوء كرؤية مركبة لا يخشى من سردها.

عندما تتواجد كل من الموهبة مع المثابرة والقدرات مع المسؤولية وبعيدا عن مفاهيم استعراضية، فإن الخطوات ستلد تباعا وستوضع في مكانها المناسب، فلا نهايات هنا، الكل يسير في صعوده، وطربيه يسير في بحثه واكتشافاته بشكل غير اعتباطي، فرغباته الروحية بقيمها الإنسانية تمضي به نحو عوالم هي في حقيقتها معطيات لانتماءات ليست هزلية ولا وقتية، بل هي قرارات على هيئة أحكام لتفاعلات تلاحق عملياته الإبداعية بتداخلات مؤلمة يشي بالجديد والمعاصرة.

فأعماله تحمل مؤثراتها في تقنياتها اللونية وفي لغتها التعبيرية، بل في طريقة نسجها وتحسسها لزمنها العابر حتى أنه بدأ في المراحل الأخيرة بدفع ملامح شخوصه للتشرد، بل للانتحار أيضا.

وقد يكون ذلك شكلا رماديا على تلمس الحقيقة أو الإدمان عليها، أو كأنه يقول لنا بأن الواقع بات دون ملامح، أو أن الملامح لم تعد تجدي، فالحابل ذهب بالنابل كما يقولون، فالسموات باتت مخترقة بطوفان ألوان، لا الاتجاهات متوازنة ولا البوصلة قادرة على تحديدها، وحدها القدرة الإبداعية تحشد طاقاتها لتنظيم الاندفاعات الانفعالية للون والتي ستؤكد في اللانهاية على ذاته الملتهبة من جهة وعلى ما يقرر عوالم العمل المنتج من جهة ثانية، فتركيز طربيه على قائمة من الألوان المجبولة بالألم تمنح عمله طقسا له سحره وجماله، له لحظاته ومقاماته البصرية تمكنه من فتح نزيفه بريشته المتخمة بالتعب وبأسوار تلامس الوجع من دائرة قوامه.

لوحة
أعمال تحمل مؤثراتها في تقنياتها اللونية وفي لغتها التعبيرية

التناغم الذي يسافر في دواخل مشهده يفاجئنا طربيه بألوانه التي تلبي حاجة ذلك المشهد بطروحاته المحافظة على شغف تشظي أشيائها الكثيرة، بدءا من موضوعاته الصامتة الصائتة ومرورا بألوانه المتهافتة على طريق بحثه.

وليس آخر لحظات الخلق لديه، فطربيه لا يخشى أن تبقى رائحة موجوداته في منتجه ولا من ذلك القلق الذي يرافقه في تلك اللحظات، فهو على يقين أن كل ذلك سيقوده إلى الحلم، وإن كان هذا الحلم قد خسر بعضا من ملامحه أيضا نتيجة للخراب الكبير الذي لحق بحق الإنسان والبلاد.

الحلم الذي سيتحاور مع نفسه نحو التكون، أو حتى يستكين، فهو يرسم وكأنه يركب موجة في يوم عاصف، رائحة الماء محطات وقود له وتعلمه بأن اللقائق تسكن أعالي الأشجار، فلا ضير من فيض دموع على جواز سفره في مساحاته البيضاء الكثيرة والتي بقيت تحمل من القسوة الكثير رغم انشغاله عليها وتسجيل ألوانه عليها بثقة وكبرياء كسكانها، كأفراد حاشيتها تأبى الفرح خشية من قنصها ودفنها في مفاصلها.

ويرتبط بهذه الفكرة بياناته المماثلة والتي ستكون مؤشرات لمستوى مكاسبه في التنبؤ بالتذوق الذي يتسم بالخروج عن المألوف والذي سيستأثر بالاهتمام في مجمل وسائله التعبيرية في ظل توافر بنية فنية عالية عليها تتفاعل معظم تعالقاته التبادلية، مع القيام بضرورة التركيز على مفاهيم معرفية تعمق أذواق متلقيه الثابتة منها والمتغيرة، فالأمر هنا مرتبط بجوانب جمالياته إلى حد الملاءمة مع أساليبه في استعراض إستراتيجيته وسماتها، والميل إلى قبول أشكال مركبة هي من نتاجات إبداعاته، ترقى بين الانفعال والإرادة، أو بين المكتسب والخبرة، وبالتالي خلق تحالف بينها مع استلهام تصورات جمالية هي إلى حد ما نواتج لتجربة تلعب دورا على إدراك الاحتمالات الفنية والتي تدفع بخياله في عوالم الابتكار والاكتشاف والتي تتفق مع معاييره الخاصة.

لوحات