إخصاب الرؤية الإبداعية للقمان حسين
تشير الأمور من خلال إستعراضنا لأعمال لقمان حسين (1968- عامودا) إلى أهمية تكوين علاقات وثيقة بينها وبيننا كمتلقين، علاقات تقوم غالباً على أساس من التقارب اللافت والمتصاعد بإتجاه ما يؤكد التوازيات الدالة على التوافق مع ما يثبت فيها الجدة الحقة وأصالتها، الدالة على البعث والإحياء بإنفتاح على آفاق جديدة بصبغة لونية لها مداها الزمكاني التي لا تنفي الإضافات المغايرة، ونوعاً من العود على بدء بالمؤثرات الخاصة وتداعياتها وبفعل عوامل خاصة أيضاً لها إرتباطاتها بالخيال والمشاعر يقتحم حسين بألوانه عالماً نصياً مقروءاً بصفته التكوُّنية، مشكلاً موجة من المحاكاة تصل ذروتها في تحويل مسافاته إلى أشكال بصرية تندرج تحت مسميات تجريدية تعبيرية منفتحة على تجارب الفنانيين الغربيين بتفاعلاتها وإنزياحاتها، بنغماتها الحزينة التي تنمو وترتقي على نحو مناسب في ضوء ذاكرة خاصة لها أهميتها في تنشيط الدورة الدموية لإبداعاته لتلتقي روحها مع ألوانه راسماً مشهداً من الإلتحام فيه، ما يبقي تلك الإبداعات تتحرك ضمن قيم جمالية وبإمتداداتها في زمن الخلق المتداخل بشكل أو بآخر.
فهو في رحلة البحث عما يمكن أن توصله إلى سيمفونيته الخاصة الموظفة بجوانب منه ومن أحاسيسه لتشكل ملامح تجربة غنية ومنسجمة وكأنها سجادتها التي عليها يرتل حسين كل صلواته، مستمدة من بيئة تحمل في المقام الأول كل إشتقاقاته اللونية وكأنها إسقاطاته التي تخزن تأملاته الحزينة، الجريئة، وتحمل أيضاً زحاماً وزخماً من التوالدات اللونية التي تتبدل من عمل إلى آخر تبعاً لينابيعها الخاصة، وهذه ميزة تسجل له وتغرقه في جانب منها في تحدّ مع المساحات البيضاء وهو يعطيها مدلولها الجمالي إلى جانب لمساته المتدفقة بطاقة توحي بأحاسيسه العالية، فيوظفها بثقة لا حدود لها في أشكاله غير المألوفة، المشبعة به.
وهنا تظهر مقدرته الحرفية، إن كان في توزيع حقوله اللونية، أو في تلك الحيوية التي تبقى مرافقة لتلك الحقول، الحيوية التي تنبض بهواجسه وأحلامه، وتنعكس في لغته ونظامها، وبالتالي في ملامح تجربته على نحو عام، فهو يمتلك سر الإستمرارية وعناصرها، مع إمتلاكه لمصداقيته بوفرتها الهائلة وهذا ما يجعل العمل الفني لديه ليست مجرد الإشتغال بألوان معينة على مساحة معينة، بل مسؤولية حضارية لها مقولاتها الإنسانية وتحولاتها التي تتم في إتجاهات وبمضامين عدة تمارس وفق إشارات لها إنتماءاتها الوجودية/الحياتية المرتبطة بمؤثرات تقنية لونية تعبيرية تحظى بعاطفة شرقية وبرؤى منسوجة بنسيج شرقي يبرر موجبات ظهوره وحضوره بكثافة لونية وحرارتها آخذاً بالإعتبار تلك اللحظات المناخية بتغييراته وتأثيراتها حتى يتمكن من إلتقاطها كقطعة موسيقية من معزوفة طويلة، وفي ضوء ذلك تبدأ مسألة الإنشغال بمشهده البصري أمراً إستثارياً يؤكد أهمية التجديد كعنصر أساسي في التذوق أولاً، كما يؤكد أن ألحانها هو أمر ملائم للتحليل ولتوليد العلاقة بينها كمسألة إحتمالية وبين الأذواق الثقافية من جهة ثانية.
من المهم أن نعرف أن التصورات الجمالية التي يمنحها لنا لقمان حسين هي نواتج مساره التشكيلي الممتد لفترة زمنية ليست قصيرة، مصطحبة بمقدرة فنية ليست عادية، متعلقة بذاكرة لها أهميتها في تجربته، أقول هي نواتج تمرغ سهوبه بتفاصيلها وتداخلاتها بالعالم الخاص للعمل الفني بدءاً من ملاحقاته السريعة والمتواصلة بالزمن المعاش ووصولاً إلى لحظات الخلق للوحته الجديدة، فهو لا يغادر أمكنة الحدث، ومن العبث إن حاول فعلها، فالحيز المتاح له يسمح له بفهم الظاهرة وتمثلها فنياً في أعمق دلالاتها، والإرتقاء بمستوياتها في أعلى تأثيراتها التي تعبر عن إرادته ذاتها، فالحال عنده تأكيدات على أن جوانب الشكل الخاصة بمنتجه مع المزيد من حركيتها يمكن أن تجر كل خبراته الحسية والإدراكية والرمزية إليها عبر جهوده المتراكمة، ولهذا وبإخلاص يخلق حالة من التوازن بين الإنفعالات التي تهيمن على العمل وبين الدوافع التي تدفعه إلى إنتاجها بوسائل إتصالية معينة تشتمل على أنظمة تتعلق بتلك العلاقات المعرفية التي تحدث بين المثيرات الفنية والمتعة الجمالية، وخلال ذهابنا معه لإستكشاف عالمه البصري، فلا شك أننا سنتلمس عناصرها من إيقاع خطوطه وتكثيف شكله وتسميك لونه وبأن هناك تياراً مشتركاً يربط بينها جميعاً، ويشد أحدهم إلى الآخر، حتى كاد أن يكون المحور الناظم لعمل كل منهم واحداً.
فمهما حاول حسين أن يجتاح المشاهد البصرية بمشهده هو، بمشهد يتقصى مادته إن كان في الحياة أو في العالم المتخيل، فسرده يبقى مفتوحاً على كل التجارب وكل الخبرات، وهو مخلص لجوهر فنه، ويسبر أعماقه بنظرة ثاقبة ومتأملة، ولا يستجيب إلا للغته وحاجاتها دون أن يتباهى بذلك، باحثاً عن أحدث التقنيات والتي تحوز على إهتماماته بمداها الواسع مهما كانت فحوى تلك الإحساسات الملتقطة بأمانة وعمق، ولعله في مشروعه المحكوم بالجمال والمواجهة يهرب إلى الأمام، يشق طريقه تصاعدياً بدافع التوصل إلى تلك الحقيقة التي تنام داخل وجدان كل فنان ليوقظها ويطلق سراحها على شكل إشارات تعبر عن نفسها دون أن تهدم ذاتها، تتجاوز أسلوب التطويع ولا تسعى إلى التذويب الفني بل تقوم على التحديد الزمكاني بآلية قياسية مع بعض التحوير في حالاتها التوضيحية التي قد تشكل إحدى التحديات للمخيلة وفعاليتها، وربما كان من المتيسر ملاحظة إخصاب رؤيته الإبداعية وتعدد طعومات ثمارها، ووضوح أثرها على صعيد إفتراضية التذوق، وإلزامية قراءتها بوصفها إشارات نصية / لونية غير ناجزة على المستوى البصري، وبغض النظر عما يقال أو ما يمكن أن يقال عن جملة الجماليات التي حققها وما يزال يحققها فهي تقارب مسارات خاضعة لنطاق ما من القيود ومن الإشكالات المحتملة الوقوع.
في السنوات الأخيرة وبعد إغترابه القسري إلى أوروبا أصبحت المشاهد البصرية للقمان حسين أكثر وضوحاً، وأكثر قدرة على فهم دلالاتها الخاصة، وأصبح بإمكان المتلقي بغض النظر عن درجة ثقافته أن يقرأها على نحو مناسب دون أن يكتفي بالنظر إليها فقط، فوجبته البصرية هذه المرة لا تشتمل على ألوان وخطوط وما بينهما من متعة وتعب، بل مشاهد طبيعية تعكس تصوره الجديد للمكان الذي بات يتنفس فيه، وتسجيب إلى حد ما لتصوراته وإنفعالاته الجديدة والتي تنسجم كثيراً مع رؤية متلقيه الجديد أيضاً، فهذه الإنطباعية التي بات يقاربها بإنتباه أكثر سعة وبمهارة حركيّة أكثر دقة، وبتوافر شروط بيئية محيطة به قد تكسب تجربته مقولات جديدة دون إحداث أية إضطرابات فيها، فالجدة والإبداع هما جناحاه في هذا التحليق الجديد، ونعتقد أن العديد من خصائصها تتفق مع سلوكه الإستكشافي، الخارجي منها على الأقل حيث المثيرات الجديدة متاحة على نحو آمن، ومع زيادة الإرتقاء بها تصبح تفضيلاته الجمالية أكثر تركيباً، وأكثر إثارة للتأمل والإستمتاع بها، ويصبح الحكم الجمالي ذاته موضوعاً للإهتمام والتقييم، ويظهر علامات السرور والدهشة نحوه، ويصبح الإتجاه الأساسي في تحديد ووصف العمل الفني لا تلك التفاصيل الخاصة بالألوان والخطوط والملامس فحسب بل ما تحمله سياقاتها الدالة من إستبصارات جديدة.
يلح حسين في تقصي الحراك الدائر على بناء الأحداث بمفرداتها المقتبسة من منظور فني مغاير للمنظور المتعارف عليه، ويُحْيي فيها الأدائية الفنية والتي تعتمد على المشهد المقدم بسروده وتلميحاتها المهمة للغاية والتي ستعزز منتجه مهما كانت الإشكالات التي قد تعترضها، وبمستوياتها المختلفة، فحسين يتسم بالمرونة إلى حد ما، ويملك من الخبرة الفنية ما يجعله قادراً أن يرمم روابطه الإبداعية بين عالميه الداخلي والخارجي، ويهتم في الوقت ذاته بالألفة والحميمية بينهما، وهنا تبدأ الطاقة النفسية بالتسرب إلى المنتج كإلماعات ضمنية متبادلة ومتكافلة ترتقي بحركاتها المألوفة وتكسبها إثارة خلاقة تكون بمثابة رد الروح للنشاط الإبداعي ذاته، وكتمهيد لتوظيف تحولاته المختلفة تلك في أنماط سلوكية تنشط دورتها الدموية في ضوء إهتماماته بتحرير التوترات الخاصة بها والتي قد تؤدي إلى تحطيم تلك الحواجز التي قد تلد وهو يمضي في الإتجاه المضاد للنكوص، والعودة إلى المصادر اللاشعورية الخاصة بالإبداع وبالإحتفالات السحرية، أقول كتمهيد لتوظيف تحولاته المختلفة في إجتياحاته الضاربة بالجذور لا بد له من حاضن سردي لإمكاناته وهي تتطور في النمو والنضج وصولاً إلى مرحلة فيها تتبلور نصوصه الإبداعية.
ولقمان حسين من مواليد عامودا – سوريا وهو خريج المعهد المتوسط الصناعي بحلب قسم التصميم الداخلي 1991، وهو مقيم في ألمانيا منذ عام 2015.
وشارك في أغلب المعارض للوحة الصغيرة في صالة الخانجي بحلب، وفي معرض حلب عاصمة للثقافة الأسلامية 2006، ومعرض مجموعة الفنانين من حلب والحسكة في المركز الثقافي الروسي بدمشق 1997.
كما شارك في معرض في المركز الثقافي في عفرين بإسم معرض الجبل الفني 2005 ، ومعرض في المركز الثقافي في الرقة بعنوان صقيع الشرق 2007، ومعرض في تركيا مدينة آمد (ديار بكر) 2014 وفي الملتقى الفني الدولي في تركيا مدينة آمد (ديار بكر) 2015.