'أوديب في الطائرة' وعصرنة الأسطورة
تسير رواية "أوديب في الطائرة" للكاتب الكبير محمد سلماوي في خطين متوازيين نجح الكاتب في المحافظة على إيقاعهما نجاحًا كبيرًا، وفي التنقل بمهارة ورشاقة لغوية وزمنية ما بين الماضي والحاضر، فلا نشعر بأي فجوة زمنية أو مكانية تبعدنا عن الأحداث الماضية والمعاصرة.
وأستطيع أن أقول إن رواية "أوديب في الطائرة" – الصادرة عن دار الكرمة بالقاهرة 2024 - تعد تطورًا أو نموًا لأحداث رواية "جناح الفراشة" التي كتبها سلماوي قبل اندلاع أحداث ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بشهور قليلة.
فقد اعتمد الكاتب على "أسطورة أوديب" اعتمادًا كبيرًا في روايته الجديدة، على الرغم من أنه حذف منها وأضاف إليها بعض العناصر طبقًا لرؤيته الإبداعية التي انطلقت من تلك الأسطورة اليونانية القديمة، ليحلق في أجواء الحاضر وخاصة أحداث ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وما صاحبها من اعتصامات ومظاهرات ومطالبات وصلت إلى حد طلب تنحي رئيس البلاد، وهو ما طلبه أيضا متظاهرو ومعتصمو مدينة طيبة من الملك أوديب.
إن أسطورة أوديب اليونانية ببساطة هي أسطورة الابن الذي قتل أباه وتزوج أمه دون أن يدري، ولما حلَّ الطاعون ببلدته، اكتشف أنه مصدر هذا الطاعون، بسبب فعلته الشنعاء، فقرر أن يفقأ عينيه، ويرحل هائمًا في البرية.
وقد كانت هذه الأسطورة مصدر إلهام لكثير من الأعمال الفنية والمسرحية، بل أننا نرى أن فرويد يأخذ منها مادة لصياغة ما أسماه في علم النفس بعقدة أوديب، وهي عقدة الولد الذي يتعلّق بأمه، ويحبها حبا غير عادي، ويكره أباه.
ومن المؤلفات التي سبق لها معالجة تلك الأسطورة، بالإضافة إلى مسرحية الكاتب اليوناني سوفوكليس، نجد مسرحية الكاتب الروماني سينيكا الذي عمد إلى التغيير في إيقاع الأحداث حينما لجأ إلى العنف والقسوة، كما أنه غيَّر في نهاية المسرحية؛ فقد جعل أوديب يفقأ عينه أولا، ثم تنتحر جوكاستا أمه بعد ذلك، لا تشنق نفسها كما فعلت جوكاستا سوفوكليس، ولكن تطعن نفسها في رحمها، لأنها كانت ترى أنه مصدر ذلك البلاء.
كما عالجها الكاتب الفرنسي كورني الذي أصبغ الأسطورة بلون العصر الذي عاش فيه، إذ عقَّد القصة وأكثر من أحداثها، وجعل للمسرحية أسلوبًا عاطفيًّا يميل للغزل لكي يرضي الجمهور وقت كتابتها.
أما الكاتب الفرنسي فولتير فيبرز لنا قصة أوديب على أنها في أساسها صراعٌ بين أوديب القوي الفاضل وبين الآلهة الشريرة التي هبطت إلى مستوى الإنسان، يساعدها ويحرضها على شر الكاهن المُفسد ترزياس، وهو بذلك يجعل منها دعوة ضد الدين لها هدفها الأخلاقي الذي لا يمكن أن يخطئه الإنسان وهو إشباع حاجات العقل المتحررة. وهناك بعض الأعمال الفرنسية الأخرى مثل مسرحية أندريه جيد وقد ترجمها د. طه حسين، ومسرحية جان كوكتو.
وهناك بعض الأعمال العربية المتمثلة في مسرحيات توفيق الحكيم "الملك أوديب" 1949، وعلي أحمد باكثير "مأساة أوديب" 1949، ود. فوزي فهمي "عودة الغائب" وقد كتبها سنة 1967، ولم تظهر على المسرح إلا في سنة 1977. وعلي سالم "انت اللي قتلت الوحش" 1970 وكانت بالعامية المصرية.
وهناك محاولات عربية أخرى على يد سعدالله ونوس، من خلال مسرحيته "حكايات جوقة التمثيل"، ووليد إخلاصي في معالجته لمسرحيته "أوديب مأساة عصرية".
وشخصية أوديب عند سوفوكليس هي شخصية البطل التراجيدي الأرسطي، أو شخصية البطل التراجيدي الذي حدد أرسطو معالمه في كتابه "فن الشعر" فقال هو الذي لا يتميز بالنبالة ولا بالعدالة، ولكنه لا ينتقل إلى حالة الشقاء لخبثه ولا لشره، بل لذلة أو ضعف ما، ويكون من أولئك الذين يعيشون في عزة ونُعمى.
يُعد توفيق الحكيم من أوائل من عالج أسطورة أوديب في المسرح العربي، ومسرحيته تتكون من ثلاثة فصول بدأها مثلما بدأها سوفوكليس، أي بعد أن ألمَّ الوباء والطاعون بالمدينة، ومن خلال ذلك يقدم الحكيم ملامح جديدة لجوكاستا، فهي في نظره الأنثى التي أحبت أوديب بمجرد أن رأته، إلا أن أهم ما يقدمه الحكيم في مسرحيته تأكيده على مشكلة الواقع والحقيقة من خلال تصرفات أوديب نفسه، ومن خلال الصراع القائم على مستويين: صراع في داخل أوديب من أجل معرفة الحقيقة، وصراع الحقيقة في مقابل الواقع.
ويرى الكاتب والناقد مصطفى عبدالله في كتابه "أسطورة أوديب في المسرح المعاصر" أن نهاية مسرحية الحكيم جاءت تقليدية، لأنه وقع أسيرًا لسطوة الأسطورة نفسها، لذا فإن هذه النهاية كانت من نقاط ضعف المسرحية أو سلبياتها.
أما عند علي أحمد باكثير، فإنه يفتتح مسرحيته "مأساة أوديب" بآية قرآنية تقول "لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".
لذا فإننا نرى أن باكثير سيحاول الالتزام بوجهة نظر إسلامية خلال عرضه للمسرحية، مما قد يخالف الأسطورة الأصلية في كثير من الأحيان، فيغير من ملامحها ومعالمها التي اكتسبت بها شخصيتها وأهميتها والتي بدونها تصبح شيئا آخر. وعلى الرغم من ذلك فأوديب عند باكثير شخصية تراجيدية تُسبب غلطة أو خطأ مأساويًّا بداخلها، لذا لم ينجح باكثير في جعلها شخصية تراجيدية بالمنطق أو المفهوم الأرسطي.
وفي مسرحية "انت اللي قتلت الوحش"، التي كتبها علي سالم عام 1969 وأُخرجت لمسرح الحكيم عام 1970 أي بعد نكسة 1967 نرى أنها ليست محاكاة أو معالجة لأسطورة يونانية أو مصرية، ولكنها كانت وعاءً أو قالبًا أو إطارًا يحتوي على معاناة المؤلف جراء الهزيمة، والوحش الذي يقصده المؤلف في مسرحيته هو العدو الإسرائيلي الذي خرج أوديب لملاقاته وانتصر عليه، فخرج الشعب يستقبله بالتهليل والغناء وترديد عبارة "انت اللي قتلت الوحش"، ويحاول أوديب الكلام إلا أن صوته يضيع وسط الصياح والغناء فيسكت، ولهذا مغزاه الكبير في المسرحية. ويتزوج أوديب من الملكة جوكاستا ـ كشرط كان قد أملاه قبل الخروج ـ ولكن نرى محاولات التشكيك في أوديب وتأليب الشعب عليه. ويحاول أوديب أن ينقل الشعب نقلة حضارية عن طريق المخترعات الحديثة، لكننا نفاجأ بعودة الوحش مرة أخرى، وهنا يتوجه أوديب بحديثه للشعب قائلا: إن الإنسان بمفرده من الصعب أن يقتل وحشًا يهاجم المدينة.
ويبدو أن تلوّن الأسطورة بلون كل عصر جعلها تحيا في ذاكرة الكتَّاب والشعوب، وهذا الذي ضمن لها الاستمرارية، والبقاء ضمن الأعمال الخالدة إلى يومنا.
أما عند محمد سلماوي، فالمعالجة تختلف تماما ابتداء من العنوان الذي جمع بين الإشارات التراثية متمثلة في اسم "أوديب" التراثي صاحب القدمين المتورمتين، والمعاصرة المتمثلة في كلمة "الطائرة"، وغيرها من المفردات العصرية التي ذكرت في الرواية مثل كاميرا التصوير، واستديو الفنان ليون، وسيارات أوبر، وغيرها.
وقد نفاجأ للوهلة الأولى ونتساءل: ما علاقة أوديب الذي يطل علينا من قرون غابرة، ومن أعمال مسرحية كثيرة، بالطائرة؟ وكيف سيركب أوديب الطائرة، وعهدنا به أنه فقأ عينيه وهام في البرية مع ابنته انتيجونا؟
إن أوديب يعيش قلق البحث عن أسباب الطاعون في المدينة، ولم يتوقع على الإطلاق أنه هو السبب. وهذا القلق هو وجه من وجوه الحداثة الَّتي تُعلي من ثالوث الحضور المتغيّر، والمتمثّل في المعيّنات الإشاريّة الثّلاثة: (أنا – هنا - الآن) وهو ما لعب عليه بذكاء كاتبنا محمد سلماوي بعصرنة الأسطورة الإغريقية، فجعلها تواكب أحداث ثورة يناير/كانون الثاني 2011، مع المحافظة على الأسماء اليونانية القديمة مثل: هيباتيا وبترو وليون ولوكاس وتيا.
وهذا بعد جديد وإضافة جيدة لتراكمات الأسطورة عبر الزمان. وهو ما يؤكد قول نيتشه في "ولادة المأساة": "إن أفقًا تكتنفُه الأساطير من كـل جانـب هـو الذي يمكنه وحده أن يـؤمِّن وحـدة الحضارة الحية التي يحتويها". وأن مثل تلك الأساطير الإنسانية لا تبلى بمرور الزمن، وأن أوديب لا يزال حيًّا بيننا، مثله في ذلك مثل أسماء كثيرة وردت في الكتب السماوية والكتب الوضعية القديمة.
وهناك بعض الشعوب صنعت أوديب الخاص بها، أو أوديبها، مثل أوديب الأفريقي لماري- سيسيل وإدمون أورتيغ (1966). وأعتقد أن الأمر كله يعود لسياقات ثقافية مختلفة ومتنوعة.
تقول كوليت استير في كتابها "أسطورة أوديب" ترجمة زياد العودة (إصدار الهيئة العامة السورية للكتاب- ط 2- 2012): "ما يزال المصير المتفّرد لملك طيبة يشكّل مرجعا حيًّا على نحو مدهش. إن ما يذهلنا خصوصًا، بدءًا من علمِ الآثار إلى العلومِ الإنسانية، مرورا بمجالِ الأدب، إن ما يذهلنا هو إذن كليةُ حضورِ الأسطورة".
وهكذا كانت الأسطورة حاضرة بقوة في رواية سلماوي. إنه يتكئُ عليها ويجعل منها فضاءً زمكانيًّا لجملة من الأفكار والتصورات التي يريد أن ينقلها لنا، بعد أن نقل لنا أفكارًا وتصورات قبْلية في روايته "أجنحة الفراشة".
في "أجنحة الفراشة" نجد المظاهرات عمّت جميع أنحاء القاهرة، وانتقلت خلال ساعات إلى الإسكندرية، ثم إلى صعيد مصر، وعدد من المحافظات، وانفجر الوضع وبات من الصعوبة إمكانية السيطرة عليه، ولكن حركة الجماهير كانت أقوى من أي قرار. ونجد أيضا في الرواية أن وزير الدفاع يرفض إنزال الجيش، ويلقي كلمة تاريخية يذكر فيها الحكومة بأن الجيش وجُد للدفاع عن أرض الوطن ضد الغزاة والمحتلين، وليس لضرب المصريين أيًّا كانت انتماءاتهم أو أفعالهم. وكانت كل هذه الأحداث الروائية قد حدثت زمنيا في عام 2010، أي قبل اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
فعبر اثنين وثلاثين فصلا خاضت تلك الرواية تجربة ثورية رائعة تعادل فنيا تجربة ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وعلى الرغم من أن الرواية كتبت قبل أحداث الثورة المصرية، فإننا نجد فصولا كاملة تجسد ما حدث في ميدان التحرير على أرض الواقع.
إن قارئ سلماوي في روايته "أوديب في الطائرة" سينظر بعين أوديب التي لم تُفقأ في الرواية، وبعين الثوَّار، وبعين كريون ومن معه، وبعين العجوز ترزياس. ولا أريد فضح الرموز المعاصرة التي جعلها سلماوي تتوارى خلف بعض الأسماء القديمة، ولا أريد أن أكشف المعادل الموضوعي أو المرايا والأقنعة، التي من السهولة على القارئ المعاصر تحديبها وتقعيرها أو تفكيكها وإرجاعها إلى عناصرها الأولى، خاصة أن الكاتب الكبير محمد السيد عيد قد تحدث عن ذلك في مقاله المنشور بجريدة أخبار الأدب (10 مارس/آذار 2024 – العدد 1598) تحت عنوان "أوديب في الطائرة ولعبة الزمن".
ولعلنا نستطيع أن نعقد مقارنة بين شخصية ضحى الكناني مصممة الأزياء المعروفة وأشرف الزيني في "أجنحة الفراشة" وبين هيباتيا وبترو في "أوديب في الطائرة"، فكلهم نتاج الثورة، أو من صنَّاعها في الروايتين.
تتجسد فكرة الموت البطولي في هذه الرواية، في سبيل حرية الوطن، وليس قلق الموت الفردي، حيث يختزن الموت موقفا بطوليا واختيارا حرا في رفض القهر الذي رأيناه متمثلا في وجود الوحش الذي يهدد المدينة، أو محاولات احتلال الدولة المجاورة وهي أسبرطة، لطيبة. وإن كان أوديب في مسرحية سلماوي يحاول أن ينقض الأسطورة الأصلية.
ومع ذلك فهناك مفاتيح تلك الأسطورة داخل عمل سلماوي، ومن لم يقرأ أسطورة أوديب، أو مسرحية سوفوكليس فإنه يستطيع أن يتتبع خيوطها بسهولة ويسر في رواية "أوديب في الطائرة" للكاتب الكبير محمد سلماوي.