مشاهد متغيرة: طهران وحزبها وانقلاب الصورة إسرائيلياً
لم تكن حادثة مجدل شمس والصاروخ مجهول المصدر، بحاجة إلى التعمق في قراءة ماهيتها السياسية والعسكرية، وما يُمكن البناء عليها من مسارات تصعيد ومشاهد متغيرة في المنطقة، يرافق ذلك إنقلاب صورة التصعيد بإطارها المضبوط؛ فمنذ اندلاع حرب غزة، والتوترات بين إسرائيل وحزب الله تسير في سياق مضبوط إيرانياً وأميركياً، لكن حرارة صاروخ مجدل شمس كان كافياً لحالة من التصعيد نتائجها تُرجمت سريعاً بعملية أمنية استخباراتية دقيقة في ضاحية بيروت الجنوبية، لتطال الرجل الثاني في الحزب، تلتها عملية أشد تعقيداً ودقة في عُقر دار قائدة المحور المقاوم، لتُحييد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس عن المشهد.
بين ضاحية بيروت الجنوبية وطهران ثمة أهداف يُراد إصطيادها، وحينما وقعت حادثة مجدل شمس، سارعت إسرائيل إلى إتهام حزب الله مباشرة، ليعقب ذلك صلاحيات واسعة منحها مجلس الحرب الإسرائيلي لوزير الحرب ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي، للقيام بعمليات انتقامية. الحدث اللافت أن هندسة هذا المشهد يُراد منه إسرائيلياً إغراق طهران وحزبها أكثر فأكثر في الحرب، فإسرائيل تُدرك بأن استهداف فؤاد شكر، سيضع الحزب أمام حتمية الرد، وكذا طهران التي فقدت ضيفها العزيز، وربما ستفقد بفقدانه هيبتها إن بقيت تُمارس صبرها الإستراتيجي، وبين هذا وذاك فإن إسرائيل تنتظر ردود أفعال "جبهة المقاومة"، لتفعيل ما تريده في الوصول إلى حرب إقليمية شاملة.
ما سبق من مشاهد تحكمه دلالات ورسائل، لكن ثمة تساؤل رئيس في عمق المشهد يتمحور حول إختيار تل أبيب للضاحية الجنوبية ولطهران وفي اليوم التالي لتنصيب الرئيس الإيراني الجديد، بغية تنفيذ عمليتي إغتيال، لاسيما أنه كان بإمكانها تنفيذ هاتين العمليتين في مكان آخر، لكن يبدو واضحاً أن إسرائيل تريد أن تقول صراحة بأنها تستطيع الوصول إلى قادة المحور أينما وجدوا، والأمر الآخر فإن نتنياهو لا يريد إيقاف الحرب حتى الوصول إلى رأس حماس، وإصطياد قادة المقاومة، وهذا ما وصلنا اليه في مقالات عديدة بذات الشأن.
الأمر الأخر والذي لا يقل أهمية عن ما سبق، أن نتنياهو وإن كانت خططه بعناوين خارجية، إلا أن عناوينه الداخلية تصب في إطار التسويق بأنه انتقم من قادة حماس الذين نفذوا هجوم السابع من تشرين الأول 2023، لكن رسائل نتنياهو ليست فلسطينية فحسب، أو إلى الداخل الإسرائيلي فقط، إذ إن الدلالات الأكبر والأكثر عُمقاً موجهة إلى إيران، خاصة أن المعلومات الدقيقة التي كانت بحوزة إسرائيل حيال مكان استضافة إسماعيل هنية، الذي يقع تحت حراسة وتأمين الحرس الثوري، يعكس إختراقاً إسرائيلياً للمنظومة الأمنية التي يمتلكها الحرس الثوري، وفشلاً استخباراتياً للأخير وأجهزة أمنه، بما يعني وجود متعاونين مع إسرائيل في الداخل الإيراني وفي مواقع تمكنهم من الوصول إلى المعلومات الدقيقة.
ولأكثر من مرة فقد نجحت إسرائيل في زعزعة صورة طهران أمام حلفاؤها الإقليميين، فقد سبق لإسرائيل إغتيال العالم النووي محسن فخري زادة، والكثير من عمليات الإغتيال والتفجيرات، الأمر الذي قالت بموجبه إسرائيل أنها تمكنت من الفوز استخباراتياً على إيران، لتكون بذلك الرسالة واضحة، أن لا أحد بمأمن من قادة المقاومة حتى وإن كان في قلب طهران، ومن ثم يمكن لأي من المحسوبين على "محور المقاومة" أن يكون هدفاً سهل الوصول إليه.
بهذا المعنى وربطاً بصورة إيران الإقليمية، فإن ما حدث في عُقر دارها، وضعها أمام حتمية الرد حفاظاً على ماء وجهها، فمن جهة تم إغتيال أحد كوادرها الذي كان برفقة فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، ومن جهة أخرى تم إغتيال إسماعيل هنية ضمن بناء يقع تحت حماية الحرس الثوري، لذا على إيران أن ترد، لكن ضمن ذلك، فإن إيران بارعة في توظيف الحدث وإستثماره، وسرعان ما تطفو إلى السطح حساباتها البراغماتية، فوفقاً لتلك الحسابات، فإن إيران لن تغامر في الإنجرار إلى حرب هي الخاسر الأكبر فيها، في وقت تجري محادثات غير مباشرة بين واشنطن وطهران حيال برنامجها النووي، بالتالي لا تريد استفزاز المجتمع الدولي.
إذاً، ثمة خيارات محدودة أمام طهران حيال الرد على المساس بـ "شرفها"، لكن وعلى إعتبار أن إيران ترفع شعار تحرير القدس، فلا ضير من إشراك محور المقاومة في عمل إنتقامي مدروس، ليتم بعد ذلك حصد نتائجه على صعيد ملفاتها في المنطقة، لكن في مقابل ذلك، هل سيرد حزب الله على إغتيال رئيس أركانه؟ بالتأكيد سيرد، لكن هذا الرد سيظل عند مستويات المواجهة نفسها، بمعنى عدم الإنجرار إلى الحرب.
نتيجة لذلك، فإن التكتيك الإيراني والإسرائيلي وبينهما حزب الله، يتم استثماره في توترات الإقليم، فالكل يتجنب التصعيد، والكل يدرك بأن الحرب الشاملة لها أثمان باهظة وستجر خسارات كبيرة، وضمن ذلك يستمر العبث الإسرائيلي بدماء الفلسطينيين دون تمكن أحد من إيقاف الحرب، لتبقى المنطقة على حافة الحرب، ولتبقى شعوبها تدفع ثمن التكتيكات الإسرائيلية والأميركية والإيرانية.