في الذكرى الرابعة لوداع بهدوء الآلهة لشيخ التشكيليين الكرد جمال بختيار

التشكيلي الراحل: عندما أرسم أنسى كل أمراضي، ولا أحس بما حولي، عشق صوفي يجمعني مع حرفة الرسم، وينسيني ما سواها، ولا أحس بالوهن مطلقاً.

ونحن مشغولون بالذكرى الخامسة على رحيل أمير اللون وساحره عمر حمدي / مالفا، كان ذلك في أواسط 2020، وإذ بخبر صادم وحزين يدق قلوبنا، فالفنان الأكثر شهرة بين الفنانين الكرد وشيخهم جمال بختيار هو الآخر يحزم أدواته وفراشيه ويرحل بعيداً عنا، إلى عالم آخر قد يكون أجمل من العالم الذي كان وكنّا فيه، عالم لا حروب فيه ولا دماء، لا حقد فيه ولا مصالح، لا هجرة فيه ولا تهجير، لا جدران فيه ولا حواجز، يتركنا في موتنا، ويلتحق بصديقه مالفا، صديق اللون والجمال والحب، وكأنهما على موعد، فخرج مالفا بدوره وهو في ذكراه الخامسة في عالمه الأجمل ذاك، خرج وهو على أهبة الإستعداد لإحتضانه وإستضافته بكل حب، بألوانه وريشه وأصابعه علهم يبدعون معاً في مشاريع مشتركة لم تسمح لهم الظروف الدنيوية في تنفيذها.

رحل بختيار الذي رسم إسمه في مخيلتي منذ بداية الثمانينات من القرن الفائت وذلك من خلال أعماله التي كانت تلجأ إليها الفرق الفنية الفلوكلورية الكردية في كل نوروز لطبعها كتقاويم / روزنامات كإشارة لبداية عام كردي جديد، الأعمال التي كانت تعبر بواقعية عن آلام الكرد وآمالهم، ربما مازالت بعضها تزين مكتبتي النائمة هناك بعيداً، أو جدران بيوت طينية هجرتها أهلها رغماً عنهم، أتذكر كيف كان إسم بختيار تزين زواياها.

عاش جمال بختيار ما يقارب قرن ( 1925-2020 )، ولد في مدينة السليمانية العاصمة الثقافية لكردستان العراق، وإنخرط منذ البدء بالعمل السياسي فكان يحمل الريشة بيد والبندقية بيد أخرى، شارك في جمهورية كردستان الديمقراطية / مهاباد عام 1946، ومارس التعليم في إحدى مدارسها، ولقب بختيار والذي يعني سعيد باللغة الفارسية كان قد إختار له رئيس الجمهورية قاضي محمد، وبقي ملاصقاً للثورة الكردية وكان فنانها الأقرب والأهم، وهو المصمم لشعاراتها، بقي حتى تم إجهاضها إثر إتفاقية الجزائر السيئة الصيت في آذار 1975 والتي تنازل بموجبها النظام العراقي آنذاك عن نصف المياه الإقليمية لشط العرب لنظام شاه إيران الذي تعهد من جهته محاصرة الثورة الكردية في جنوب كردستان وضربها، إجهاض الثورة دفعت بالكثيرين باللجوء إلى إيران، وكان جمال بختيار مع أسرته من ضمنهم، ومن هناك تم قبوله لاجئاً في الولايات المتحدة الأمريكية وهناك يدرس الرسم أكاديمياً ويمارس تدريسها في مؤسساتها الأكاديمية، وينشىء جمعية الفنون الجميلة الكردية، وبقي فيها إلى مماته قبل أيام ( 15-10-2020 )، وهو يتجاوز الخامسة والتسعين من عمره، هذا التوازن الذي يخلقه في حياته بين عمله السياسي وعمله الفني، أقول هذا التوازن ربما هو الذي جعله يبقى محافظاً على واقعيته النقية كروحه، لم يبتعد عن كرديته قيد أنملة، ولم يبحث عما يأخذه في بحار الفن وأمواجه خشية الغرق، لم يكن همه الرسم وتطوره وحداثته وتياراته بقدر ما كان همه تجسيد جماليات الطبيعة والحياة في كردستان.

ولهذا نرى معظم لوحاته تحوم في جبالها وسهولها وبيئتها وحياتها وحياة إنسانها، بل هي قطع كردستانية بإمتياز، بشهقة روحها، بشهيقها وزفيرها، بخفقان قلبها، بجمال ملامحها، بأنين ووجع أهلها، لوحات قريبة إلى الحقيقة جداً، بل هي الحقيقة ذاتها، فمن شأن التعبير عنها بصدق وقوة والتركيز على سماتها الجوهرية أن تخضع أعماله لقوانين الحياة الموضوعية منها والطبيعية، فلا صعوبات لديه وهو في طريقه في معالجة موضوع ما، فواقعيته تدهشنا على نحو دائم، تدهشنا على نحو ما تقتضيه تلك الحلول المنطقية الفنية السليمة، وما تقتضيه الضرورة الداخلية للموضوع المعالج في عمله، وهذا ما يجعله حرّاً في مجال بنائه الفني، وإن كانت هناك قيود تجره إلى الموضوع رغماً عنه، تلك القيود التي بقيت عالقة في ذاكرته البعيدة والتي لم تهرم فيها، وهذا ما جعل واقعيته في تصوير شخصية الكردي ومصيره يسير وفق المضمون الموضوعي للحياة التي عاشها لا التي كان يحلم بها، فمخزونه لا ينضب، ومن أجل القضايا التي تراكمت فيها بقي محافظاً على تاريخه وتقاليده العريقة في إنتاج عمله وغناه، فهو لم يعمد إلى الإختلاق، فكل تفاصيله مصورة بأمانة في حد ذاتها وإن كنت على يقين بأن تصوير الشكل الخارجي لوحده لا يقرر مسألة واقعية العمل الفني وبأن تسجيل أو نقل جزيئات وتفاصيل من الحياة لا تجعل الفنان واقعياً، وإن كان الأمر مختلف عند بختيار الذي ينفذ إلى عمق الأشياء ليجسد حقيقتها الظاهرة لنا، فتظهر حركة المشاعر والشكل الخارجي على نحو وفاق، وهو مولع بنقل تفاصيل الأشياء ساعياً إلى المطابقة بين الوجه الخارجي للظاهرة وبين الواقع، وفي كل مرة وكل محاولة منه تصبح الواقعية أقرب إليه وأكثر قدرة على كشف حقيقة الحياة.

عانى في سنواته الأخيرة من أمراض جمة أفقدته الكثير من قدراته السمعية والبصرية والنطقية والحركية إلا أن كل ذلك لم تبعده عن الرسم فكان يقول: "عندما أرسم أنسى كل أمراضي، ولا أحس بما حولي، عشق صوفي يجمعني مع حرفة الرسم، وينسيني ما سواها، ولا أحس بالوهن مطلقاً"، بهذا الحب والأمل عاش بختيار، وقدم كل ما لديه لشعبه ووطنه، فهل حان الوقت لرد مستحقاته، فنطلق اسمه على مراكز فنية، وعلى مرافق عامة، ونجمع كل أعماله ومقتنياته في متحف تخصه، ونصمم له تمثالاً في مدينته على الأقل، هي دعوات وأمان أتمنى أن نراها على الأرض، فإذا كان جسده قد إنطفأ فأعماله لا تنطفىء، ولا يجب أن ينطفىء هو من ذاكرتنا، قلتها مراراً، وسأقولها الآن الفنانون الحقيقيون رسلنا في هذه الأرض، وأعمالهم رسائلنا فيها.