التشكيلي عمر حسيب في ذكرى ابتعاده ملوحاً
قلتها مراراً، وتكراراً بأن الفنانين هم كنوزنا على هذه الأرض، بل ورسلنا عليها، وأعمالهم رسائلنا فيها، ولهذا حين ينتقلون من عالم إلى آخر لا يموتون، بل يولدون من جديد، يولدون ولادة أخرى، ويرسمون خريطة أخرى، فيها ينبضون بحياة أخرى تليق بهم، حياة لا توزيع للسلطات فيها ولا للثروات، ولا لأي أوجه الصراع الذي يخاض حول شكل ومحتوى الدولة، ينبضون بحياة لا حروب فيها ولا دماء، لا ظلم فيها ولا عبودية، وحدها الحرية المطلقة هي التي يتنعمون بها، وبالشكل الذي يشاؤون، الحرية التي دونها لا يمكن أن يبدع فنان ما، فمسكه لزمام الأمور الإبداعية يبدأ من هنا، أسوق هذا الكلام ونحن مقبلون على الذكرى السادسة والعشرين للولادة الثانية للفنان عمر حسيب ( 1950-1998 )، تلك الولادة العسيرة التي تمت وهو في طريقه إلى دمشق بقصد العلاج مع زوجته وابنته الصغيرة إيفا التي لم تتجاوز السنتين من عمرها، وكذلك بقصد اللقاء مع أخيه الفنان التشكيلي زهير حسيب الذي كان يقيم هناك منذ زمن بعيد، منذ أيام دراسته الأولى في كلية الفنون الجميلة، نعم كانت ولادة عسيرة جداً، فحين كان يتأمل في المساحات المفتوحة لبادية تدمر، عبر نافذة الحافلة التي كانت تقلهم، كان غارقاً في تأملاته وأحلامه وأوجاعه حين عصفت بحافلتهم مركبة أخرى، فعصفت بهم وبأحلامهم لتلد الفاجعة التي لم يكن يتوقعها أحد، الفاجعة التي ذهب فيها الكثيرون، ليكون من بينهم فناننا عمر حسيب وزوجته وطفلته، الفاجعة التي عاشها أهله وأصدقاؤه، ومحبوه، ومدينته بكل أطيافها وألوانها، وللأمانة شهدت المدينة حزناً كبيراً، ولبست عباءة الحداد، وتلبدت السماء بالدموع، كان ذلك يوم 16-11-1998، ففي الحقيقة هذا الحديث هو جزئية صغيرة جداً لعناوين كثيرة طرحت لحكاية لن تكتمل مهما أبدعنا في سردها، فالمأساة كانت أكبر من كل الكلمات، والقلب كان أصغر من حمل تلك الحسرات والآهات، فبحق كان عمر حسيب صدى لأوجاع الآخرين وآلامهم، قال فيه فاتح المدرس ( 1922-1999)، الفنان الأشهر في سورية:
"عمر حسيب فنان بلون الأرض، روحه من عبق السماوات الزرقاء، في البادية السورية والهلال الخصيب، من الحسكة حيث الأرض والناس في وحدة مُتكاملة من العواطف والمشاعر وعبادة الجمال الإنسانيّ والعمل الشاق، عاش هذا الفنان في بيئة سوريّة ريفيّة ذات وشائج إنسانيّة عميقة الجذور مع التاريخ واللون وحركة الإنسان والأرض، رسمها بحبّ دون السؤال عن نتائج هذه الرؤى الجمالية ! رسم الأرض والناس وهو طفل، وعلّم من حوله محبة الشكل الجمالي لبيئته المُسالمة ذات الدفء والمحبة، وغادرنا هكذا دون أن يخبرنا كيف عاش وكيف مات ! تاركاً خلفه تلك الابتسامة المُفعمة بقبول الحزن والجمال ! لا زلت أذكر لوحة لوجهه الذي يُشيه أرض الحسكة بجانب لوحته الأهل في القرية، وكان وجهه يحمل تلك الابتسامة".
فهذه الشهادة لم تأت مجاملة من فنان طارئ وإنما من قيصر الفنانين التشكيليين في سورية وهي وحدها تكفي حتى ندير البوصلة باتجاه عمر حسيب ونقف عند كنوزه ولو بعجالة على هامش ذكرى رحيله السادسة والعشرين عشر، فعمر يأخذ حيزاً لا بأس به من دائرة الرواد للتشكيل الجزراوي، فهو الى جانب عمر حمدي وبشار عيسى ويوسف عبدلكي وحسن حمدان وبرصوم برصوما وصيري رفائيل وآخرين يشكلون اللبنات الأولى للتشكيل الجزراوي بعد جيل الرواد (عبدالرحمن دريعي، خلف الحسيني، هذا التشكيل الذي كان له الدور الأبرز في رفع سوية التشكيل السوري ..غادر بعض هؤلاء الى خارج أسوار الوطن، إلى دول الاغتراب ليتركوا للتشكيل السوري بصمة هناك كعمر حمدي وبشار العيسى وبهرام حاجو ويوسف عبدلكي وزورو متيني و...على حين بقي عمر حسيب وحسن حمدان وبرصوم ورفائيل يجبلون بالطين والغبار وسنابل القمح ....فعمر حسيب قادم من عبق الريف ومن نكهة البسطاء فكان لا بد أن يكون لهذا العبق ولهذه النكهة النصيب الأوفر في أعماله، فكل آليات العمل لديه تسوقه إلى البيوت الطينية والتنانير والأزقة الضيقة والمواشي، والى حقول التراث الغني بمفرداتها وهنا كانت نقطة البدء، ولهذا لم يغفل الحضور الانساني الطاغي بكثافة في جل أعماله، فرؤيته للعالم ينطلق من فوهة تنور على أطراف قرية نائية تفوح منها رائحة الخبز الممتدة الى تعالقات الذاكرة البعيدة الحية التي تكسر بل تزيل كل الآفاق باستقلالية تدور في حلقة تفوح منها حركة الحصاد، وملحقاتها، ولهذا يطغى الأصفر بكل تدرجاته حتى يقترب من الأخضر المائل إلى نباتات على ضفة نهر كان الفنان يقضي الكثير من أوقاته فيها .
فهو يزحف بألوانه من المنجز في مختبره وبأنامله ألى الاختباء وراء فلسفة ذكية في فهم الحياة، ولهذا فهو يصرخ ويصرح تكوينياً في أكثر الأحيان وقولاً في بعض الأحيان: (ينبغي على الفنان أن يغمس ريشته في تراب وطنه وجراح أمته، ثم ليرسم ما يريد). وهذا التزام بالأرض وبالفقراء، ومن هنا مد جسوراً وطيدة مع كل الأبعاد الاجتماعية منها والوطنية والقومية وبالتالي الانسانية، فكان الانسان همه الأوحد يترابط مع أفقه الفني حيث يصوغ كل تلك المتاعب والأوجاع بواقعية تعبيرية لا يتاجر بها بل يأتي كشفاً للرغائب وللأصوات الكامنة بين التراب، ولهذا كان لنتاجه الانطباعي نفساً يملأ بياض اللوحة بمسائل محسوسة وموصوفة وبألوان هي لغته الملائمة في التجربة الفنية، فلا بأس أن نذكر اندفاعاته الجسورة نحو القاع وهذا يذكرنا بلؤي كيالي رغم أن الأخير كان يلجأ الى قاع المدينة على حين عمر كان يقترب من البسطاء والمتعبين في الريف، فالاقتراب من البسطاء قد يجمعهما بتعبيرية كاشفة صارخة لتجارب حياتية جريئة في حينها... فهو يمنح ألوانه وبزوغها ذاكرة عابرة للنفس الانساني وراسخة في وجدانه .
وليتكتمل المشهد عن هذا الفنان، عن عمر حسيب الذي قدم لنا حقولاً من الجمال وما يرتبط بها من جوانب تفصيلية تجعلنا ندقق بتجربته على نحو أكثر، ووجدنا من المناسب أن نلحق بهذه المادة، هذا الحوار الذي لم لم يكتمل مع أخيه الفنان التشكيلي المعروف زهير حسيب ملخصاً لنا بعضاً من شذرات حياته، وتلك اللحظات التي عاشها حين وقعت تلك الفجيعة التي ذهبت ضحيتها فناننا عمر حسيب وزوجته وطفلته.
غريب:
دعنا نعود إلى الطفولة أولاً، الطفولة التي عاشها عمر، والتي شاركته فيها، حاول أن تثقب ذاكرتك قليلاً لتهطل علينا ما تشاء قطرة قطرة من ذلك الزمن الجميل، أو دعني أهزك كشجرة مثمرة جداً ليتساقط علينا من ثمارك الطيبة كروحك، سأدخلك إلى ذلك البيت الذي ولد فيه عمر وبالتالي أنت، سأجعلك ضيفاً صغيراً وطفلاً في محراب والديك، لتسرد لنا ما يلتقط عدسة لا وعيك من ذلك المكان الذي تحن إليه جداً، حيث البراري التي كان يقطعها عمر حافياً لكن بعيون قادرة أن تلتقط حتى تلك الريح التي تعبث بالنعناع البري، وبحقول الحنطة.
زهير حسيب:
عزيزي غريب سأرجع بذاكرتي إلى المربع الأول، إلى ذاكرة الطفولة، بل إلى ذكرى البدايات …فتحت عيني على اللون حيت غرفة عمر ومرسمه الذي كان يفوح بعطر التربنتين والألوان واللوحات والخطوط والألم والحزن …وخيوط الدلف في الشتاء القاسي، كنت أرى عمر منزوياً، وهو يسبح في جسد لوحته، غارقاً في اللون، وأغاني شيفان، ومحمد شيخو، كنت أجلب له الشاي والقهوة، أتأمله وهو يرسم وكأنه يحرث في ارض مقدسة، كان طويل القامة شامخاً كسنديانة في تلال القرى التي تنام على سهول فسيحة كسبيكة ذهب، كان أصدقاء عمر يرتادون مرسمه مثل عمر حمدي، صبري رفائيل، حسن حمدان، عزو الحاج، كان الكل يبحث عن الحب من خلال اللون، ويمارسون الحب من خلال اللون، .
انت معي غريب ؟
انت معي
غريب:
معك بكل حواسي .
زهير:
في الصيف الحارقة كان عمر يعيش على ضفاف الأنهار، على ضفاف الجغجغ، والخابور، يرسم على ضفافها ورمالها بعود من زهرة القطن، أجمل عالمه الطفولي وهو ينشد للأفق الأزرق أغان عن الحب، أغان عن مم وزين، وخجي وسيامند، وووووووووووووووووووووو ..
ومن ثم حضر فؤاد كمو من القرى النائية ليدرس في مدينة الحسكة، أصبح هو وعمر صديقين جميلين، وقويت هذه الصداقة بينهما، إنشغلا معاً باللون أكتر فأكتر، وشكلا معاً ثنائياً جميلاً، والإثنان كانا ينتميان إلى الحزب الشوعي السوري، الإثنان إنشغلا بهموم الفلاحين والعمال، ورسما أجمل القصائد اللونية، كانا ينتميان إلى الناس البسطاء، أقاما عدة معارض في المركز الثقافي في الحسكة، وآخر معرض مشترك لهما كان في دمشق عام 1973، في المركز الثقافي السوفيتي، أتذكر في وقتها كتب عنهما النحات والناقد التشكيلي محمود شاهين مقالة تحت عنوان حتى حدائقك يادمشق الغالية قالت لنا لا، في هذا المعرض حملا همومهما ونايهما وأغانيهما، وآهاتهما لدمشق، على الرغم من الفقر الذي كانا يعيشان فيه إستطاعا أن يحملا لوحاتهم لدمشق على أكتافهما، المهم أخي غريب من الممكن أن تدخل على الخط بسؤال منك ليعيدني إلى عالم عمر في الجزيرة فالذاكرة قد تخونني أحياناً .
غريب:
أريدك أن تعود إلى مربع الأسرة، حيث الوالد والوالدة وأنت وعمر وباقي أفراد الأسرة، أريدك أن تعود بِنَا إلى البيت الذي بكى وضحك فيه عمر، إلى علاقته مع الأهل، وعلى نحو أخص مع الوالد والوالدة وعلاقاتهما به، وكيف تعرف على اللون، هل كان هناك من أيقظ هذا القوس وقزح فيه، سأدعك لذاكرتك وما ستجود بها لنا، قلت لا أقاطعك لأنني أعرف بأنني سأعيد بك نصف قرن الى الوراء، ولهذا تركتك تسترسل بعفويتك الجميلة جداً..
زهير:
ننتمي إلى عائلة تعمل في الأرض، كان أبي صانعاً للمحاريث الزراعية، ساهم في إخصاب كل سهولنا الفسيحة في قرانا بمحراثه وسكته.، كان عمر يبحث في تضاريس وخطوط وجه أمه حين كان أبي يرسم بمحراثه خطوط الأرض، ويشقها حباً، إذ كان والدي نحاتا ًيصنع المحراث، الجرجر، الجرك وووووو وكل أدوات الأرض، كان والدي يملك قكراً جمالياً يسارياً نظيفاً، تربى عمر وشرب من هذا الحليب الإنساني الذي لايؤذي أحداً، إنتسب للحزب الشيوعي من خلال أفكار والده، كانت أمي وأخوتي يحصدون سنابل القمح مع الفلاحين والفلاحات بلباسهم المشبعة بضوء الشمس وهم يرتلون أعانيهم التراثية الفولكلورية، كان عمر طفلاً يركض حافياً تحت أشعة الشمس الشاقولية على أن يضم لصدره قطة أو عصفوراً، ويختفي تحت سنابل القمح، ومن ثم يستيقظ مع زهرة القطن، وأنت تعرف الفصول الأربعة في الجزيرة السورية، هي ثورة هائجة حيث الشتاء قارس جداً، والصيف حارق جداً، فالألم برد وحر، عمر فتح عينيه على هذا التباين الجميل في الألوان على الرغم من قساوته، أتذكر كان عمر يتكلم عن أستاذه علي عبود الذي كان مدرساً لمادة الفنون والقادم من دمشق، وعن صديقه عبد الرجمن دريعي الفنان والموسيقى، وعن الفنان فؤاد أبو كلام، أقصد هنا الذي زرع بذرة الفن في روح أخي عمر هو الطبيعة الساحرة على الرغم من قساوتها، والأسرة وعلى نحو خاص أبي الذي كان ينحت في جذوع الاشجار لكي يحولها إلى محراث ويخصب الطبيعة، فهو ينتمي لهذا الكون الجميل على الرغم من صغر جغرافيته،
إي غريب
غريب: معك
زهير:
تعلم عمر السباحة واللون على ضفاف الأنهار، أتذكر حاله، وأنا طفل كنت آخذ بعض الألوان والبراويز من مرسم عمر لصديقه الفنان حسن حمدان في الشتاء القارس، كان بينهما علاقة صداقة قوية في المحبة واللون، كانا ينشدان أغنية السلام لوناً وحباً
غريب:
لنبقى صغاراً، ولنراقب عمر وهو يلهو تحت الشمس الحارقة، يركض حافياً، يلتقط أشعة الشمس ليزرعها في أعماله فيما بعد، تحدث لنا عن عمر الطفل الذي تفوح منه رائحة التراب الذي يحضر أيضاً في أعماله وبقوة، كيف استطاع عمر أن يحمل الشمس والتراب معاً .. كم كان خالقاً حين جبل التراب بضوء الشمس، بل بحريقه .تحدث لنا عن التراب المجبول بأشعة الشمس والتي تفوح من عمر ومن أعماله .
زهير:
يصف عمر إحدى لوحاته…تراب أخذ من لون القمح لونه .. وجبال تأخذ لون البنفسج المشوب بأزرق خفيف كلما إقتربت من معالمها الشامخة .كأنها جدران من خزف وكريستال حين يتراقص عليها أشعة الشمس، وهي غارقة في ضباب خفيف، ويقول عن لوحته حلبجة ..أبعثر التكوين والخطوط، ألملمه بالأحمر المشع المجاور للأسود، وتارة أغرقه بالأزرق المضيء، محتفظاً بتشكيل طفلة هادئة تستطيع أن تناقشك عن الألم والقهر مدى الحياة، تناقشك للأبد .مثيراً فيك الكثير من الأسئلة غير منتهية، كان يرسم بقلبه الصغير مع طيور الهدهد، والقطة التي تحط في الصباح الباكر على ضفاف نهر الجغجغ آلاف الخطوط المنحنية اللولبية على أرضية مخضرة برائحة النعنع البري ومشعة بذرات الزجاج، هكذا عاش عمر يقرأ الماركسية اللينينة .. ويقرأ أشعار لوركا .. وبابلو نيرودا .. ويقرأ المهاتما غاندي ..وجكر خوين .. وازداد شعور عمر بالهم الإنساني، يقاتل الظلم ويعريه، ويدافع عن المعذبين والمقهورين .. عمر كان إنساناً مشبعاً بالحب واللون والمعرفة .
غريب:
قبل سنوات طويلة .. وتحديداً في 16 / 11 / 1998 كان قادماً إليك، مع زوجته وإبنته الصغيرة، قادماً عله يضع حداً لعلاج مرضه /سكر /، لكن لم يصل، بل أنت سرت إليه، كان الطريق إبن حرام ينتظره ليبدأ بالقنص، هناك أيضاً لون عمر تراب الطريق بدمه، رسم لوحة مأساوية لا تنسى، كيف وصلتك تلك اللوحة، وكيف تم شرحها، دعنا نذرف قليلاً من الدمع لنتذكر تلك اللحظات القاسية جداً .
زهير:
إستقبلتنا أمي وقالت: زهيرو عمر…جو..جو جو
أنا عمر بلا شباب…..وحياة بلا ربيع
أعرف جيداً سؤال الجحيم والألم
كنت أنتظر أخي عمر، والشمس تغيب على سفوح زورآفا، كان من المفروض أن يصل الساعة الخامسة والنصف مساء، وهو في طريق رحلته من الحسكة إلى دمشق، كنت قد أعددت له العشاء واشتريت لإبنته إيفا بعض الحلوى…أصبحت الساعة السابعة، ولكن عمر لم يأت .
كنت أحاور نفسي، كمت أقول الآن سيصل، وسنتناقش حول أعمالي الفنية كما نفعل دائماً عندما كان يحضر إلى دمشق….وأنا أنظر إلى الساعة بإستمرار، أصبحت تاسعة ولم يأت بعد، إتصلت بأخي في الحسكة، سألته عن الرحلة وقلت له لم يأت عمر….قال لي: الباص قد تعطل في تدمر وسيصل قريباً…مرت ساعتان وكنت قد فقدت صبري، إتصلت بمكتب الباص، وسألتهم عن الرحلة كان جوابهم بأن هناك حادث في تدمر ولا يعرفون التفاصيل، وعندها بحثت عنه في جميع مستشفيات دمشق لم يكن موجوداً، إتصلت بمشفى تدمر سألت عن الحادث كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة، قالوا نعم هناك جرحى وقتلى، هل لديك أقرباء، قلت نعم، أخي وزوجته وإبنته، سألني هل يرتدي طقم أسود ويدخن الغليون…لم أستطع أن أكمل الحديث جلست على الأرض بضع دقائق استجمعت قواي…استاجرت سيارة وانطلقت إلى تدمر، كان الطريق طويلاً وأنا أقول لنفسي بأنه لن يكون هناك إلا بعض الرضوض والكسور، فكل شيء سيكون بخير، وصلت حوالي الساعة الثالثة صباحاً …وفي تلك الأثناء وصل أخي برفقة صديقه إلى المشفى أيضاً….سألنا الممرض أين هم؟ قال في براد المشفى، في السابعة سنفتح الباب…إنتظرنا كان الوقت ثقيلاً، والريح قوية تضرب تلك الاعمدة الأثرية وهي تصدر أصواتاً وألحانا ًجنائزية….جلست منتظراً، وضعت يدي على خدي وأنا أحدق في الفراغ.
بدأت الشمس ترسل خيوطها البراقة على هضاب البادية…ناداني أخي وقال سوف تفتح أبواب البراد، نهضت مسرعاً…دخل أخي وصديقه، خرجا مذهولين، لم أعد أتحمل، دخلت مسرعاً، نظرت ورأيت جثة غارقة بالدماء، ووجهاً مبتسماً، يحضن إبنته وزوجته…إنه عمر.
خرجت مسرعاً إبتعدت وعيناي غارقتان في الدموع نظرت حولي، تراءى لي وجهه مبتسما ًحاضناً إبنته وزوجته…حاولت أن أقترب منه، أشم رائحته… ابتعد ملوحاً، إبتعدت معه إبتسامته المجبولة برائحة التراب ورغيف خبز أمه… بدأ المسير إلى الحسكة اتجهنا حيث السهول والقمح وأزهار القطن، كان طريقاً طويلاً..
إقتربنا من تخوم مدينتنا حيث الأحبة والأصدقاء وجوهاً شاحبة مشبعة بالحزن واليأس وهم يستقبلون فنانهم الذي إنتمى إلى وجدانهم إلى هذه الارض.
وصلنا إلى المنزل إستقبلتنا أمي وقالت: زهيرو عمر…جو..جو
حضنتها بقلبي وأنا أمسح دموعها وأشم رائحتها…قفز إيفان إلى حضني كعصفور يتلوى ألماً، ويسأل أين هم لماذا لم يأتوا معك؟؟
لورين…نيرمين يتلمسون ملامحي..أين أبي .. أين أمي؟؟ أين أيفا؟؟
قلت لهم: لقد أصبحوا نجوماً ساطعة في السماء ولترقد روحهم بسلام .
غريب:
كنت أحب أن تتحدث عن علاقتك به كيف بدأت، كيف نمت، قلت أكثر من مرة وفي أكثر من مكان بأنه لولا عمر لما كان زهير، واعتبرته معلمك الأول، أريد أن تخوض في هذا الجانب من الشهقة الأولى وإلى الآن، هل مازلت تحرث بمحراثه ام انك وكما هو واضح اصبح لك محراث خاص بك تحرث به طريقك الجميل
طريق بات يميزك عن مجايليك
حديث لم يكتمل..
زوم صغير
عمر حسيب
من مواليد الحسكة 1950
وتوفي في عام 1998 أثر حادث أليم.
درس الفن دراسة خاصة
عضو نقابة الفنانين التشكيليين السوريين.
أقام عدداً من المعارض الفردية في مدينته الحسكة، كان أولها في عام 1968.
و قدم معرضاً فردياً في عام 1973 في المركز الثقافي السوفيتي بدمشق.
أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية، المركز الثقافي بالحسكة ضمن مجموعات خاصة.