أحمد الحوتي يحذر الأطفال من 'الفارس المغرور'
الشاعر أحمد الحوتي (1945 – 1997) واحد من الشعراء المعاصرين الذين اهتموا بكتابة الشعر للأطفال، قبل رحيله المبكر، وكان يعمل بالهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة. كان يكتب الشعر الفصيح والعامي، إلى جانب المسرح, وقبل رحيله أصدر ديوانًا للأطفال بعنوان "الفارس المغرور"، احتوى على عشر قصائد قصيرة للأطفال (من سن 8 ــ 12 سنة) وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، واعتمد على الشكل التفعيلي في موسيقاها، واعتمد هذا الشكل بدوره على تكرار تفعيلة واحدة خلال القصائد العشر، وهي تفعيلة بحر الوافر (مفاعلَتُن) ــ بفتح اللام ــ و(مفاعلْتن) بتسكينها، وتنقل إلى (مفاعيلن).
وقد أهدى الشاعر ديوانه للأطفال إلى نبيلة عمر نبع الطفولة والشعر، وإلى هيثم ورامي ونهى دراما الحب البريء، وأعقب الإهداء أبيات شهيرة للشاعر التركي ناظم حكمت يقول فيها:
أجمل أنهار العالم
لم نرها .. بعد
أجمل أطفال العالم
لم تكبر بعد
وأنا أهمس في أذنك
أجمل ما أتمنى أن أهمس لك به
ثم تبدأ رحلة القصائد التي واكبتها لوحات فنية ملوَّنة ومعبرة عن المضمون الشعري الذي يريد الشاعر إيصاله للصغار، وهي من رسوم الفنانة سميرة مرصفي.
ولعل أول مايلفت الانتباه في ديوان "الفارس المغرور" توجه الشاعر بقصائده التي تجيء على لسان الطفل الشاعر إلى الأصدقاء والأحباب والأعزاء والجيران والأصحاب، فلم تخلُ قصيدة من القصائد العشر من هـذا التـوجه الذي يجيء عادة في صورة نداء للصغار إما لإخبارهم بشيء ما، أو لتحذيرهم من شيء ما، أو لأمرهم بشيء ما، وسنجد عادة هذا النداء يجيء في صور لغوية متعددة منها "تجيء الشمس ياأصحاب، أقول لكل جيراني، أقول لكل أصحابي، تعالوا يأحبائي، أحبائي وأصحابي سمعت اليوم من جدي، أحبائي أقول لكم، أحبائي أنا منكم، أعزائي لنا صاحب، فنفرح ياأحبائي، وأنتم ياأحبائي، تعالوا ياأحبائي ... الخ".
ويحاول الشاعر من خلال تلك الصيغ اللغوية ترسيخ مفهوم الصداقة والصحبة والزمالة والأخوة والمحبة بين الأطفال في هذه السن التي يكتب إليها، بل يخلع صفة الصداقة والصحبة على الأشياء والبشر والحيوانات التي يرد ذكرها في القصائد مثل قوله عن الفلاح "وكان صديقنا الفلاح. لأن صديقنا الفلاح". وقوله عن الفارس المغرور "وقال لكل أصحابه .. ولما صاح .. أتاه صحابه جريا".
وفي قصيدة المصباح المكسور يكون المصباح هو الصاحب: "أعزائي لنا صاحب .. ينير الليل في الشارع".
وفي "عيد الأم" نجد "وصاحبتي لها وجه صغير مثل عصفورة". و"صاحبنا سيرسمنا فيملأ وجهنا الصورة". وفي قصيدة "رحلات" "يقول أبي لأصحابي". وفي قصيدة "الورد والشجرة": "دخلت حديقة الحيوان أنا وجميع أصحابي".
ولعل لجوء الشاعر إلى محاولة ترسيخ مفهوم الصداقة والصحبة بين الأطفال في هـذه السن، يرجع إلـى أن طـفـل هذه المرحلة يكون "أكثر خروجًا عن خط الأسرة، والإحساس بخيال الاستقلال عنها، كما يوسع من علاقاته وانتماءاته، حيث إنه يتهيأ لأخذ دوره في الحياة" على حد تعبير د. سعد أبو الرضا في كتابه "النص الأدبي للأطفال ــ رؤية إسلامية" (ص 38). لذا سنجد أن علاقة الشاعر الصغير (اسمي أحمد الشاعر) بالأطفال في هذا الديوان متعددة ومتنوعة، وسنجد أيضا العديد من الشخصيات إلى جانب الأب والأم والأخوات والجد والجدة (أي أفراد الأسرة) سنجد الفلاح والجيران والفارس المغرور والصديق ممدوح والصاحبة وشيخ الحارة وأستاذ المدرسة والأخوة في العالم الثالث، فضلا عن ظهور الحيوانات والأشياء ذات العلاقة بحياة الأطفال مثل الحقيبة والأوراق والكتب والفيل والسبع والقرد والحمام والمصباح والأزهار والعصافير والسينما والمسرح والسيرك والألعاب والرحلات.
إن قصائد الديوان تمور بالحركة والحيوية والنشاط، وكأنها أطفال تجري وتلعب وتقفز وتروح وتجيء أمامنا، وقد انعكس هذا على الصورة الشعرية التي يرسمها الشاعر فنرى الشمس تمشي فوق الشباك، ونرى الصغير يقوم من نومه ويرتب أشياءه ويعد حقيبته في نشاط وحيوية، حتى الفارس المغرور في دورانه يعبر عن الحركة والنشاط على الرغم من خوفه من السبع والقرد والليل، وفي "عيد الأم" يجري الطفل ليقبل أمه "فنفرح ياأحبائي ونجري كي نقبِّلُها" وفي حديقة الحيوان يكون اللعب والمرح والقفز والغناء.
ولعل من أهم الأساليب التي اعتمد عليها الشاعر والمناسبة لسن الأطفال هو أسلوب التكرار، سواء تكرار المعنى أو تكرار اللفظ، ومثال على ذلك تكرار الشكر في قصيدة الشمس والفلاح. لقد تكرر هذا الشكر خمس مرات في هذه القصيدة، وتكررت "لا أنسى" ثلاث مرات في قصيدة "الوقت" ، كما تكررت "أفرح" ثلاث مرات في القصيدة نفسها حيث يقول الشاعر عن الدروس التي يستذكرها التلميذ:
وأفرح حين أفهمها
وأفرح حين أحفظها
وأفرح حين أنهيها
أيضا تكررت ألفاظ الفارس المغرور والخوف في قصيدة "الفارس المغرور" حيث يقول الشاعر:
وجاء الفيل يسأله ..
فخاف الفارس المغرور
وجاء السبع يسأله ..
فخاف الفارس المغرور
وجاء القرد يسأله ..
فخاف الفارس المغرور
وجاء الليل في الغابة ..
فصاح الفارس المغرور:
أغيثوني
أغيثوني
وكان الفارس المغرور خوَّافا
أيضا في قصيدة "غصن سلام" تكررت كلمات وعبارات مثل:
وجدي .. قال أمثالا
وعلمني
ووصَّاني بسابع جار
ووصَّاني بأصحابي
وقال أبي:
لأن الناس
جميع الناس
سواسيةٌ
فكل الناس .. كل الناسِ
أحبابي
وأصحابي
ونضع بين يدي القاريء قصيدة "الشمس والفلاح" بكاملها ليرى كيف تكرر الشكر في هذه القصيدة على نحو لافت، وكان من ضمن البنية الأساسية لهذا النص:
تجيء الشمس .. ياأصحاب
كل صباح
وتمشي فوق شباكي
وتضحك لي
وتوقظني
فأشكرها ..
وتحكي الشمسُ ..
تحكي
إنها ذهبت إلى القرية
وكان الناس في القرية
جميعا ..
يزرعون الحقل،
وكان صديقنا الفلاحُ
فرحانا ..
يراعي الزرعَ
والأشجارَ
والبقرة
وأن الشمس تشكره
وأني سوف أشكره
لأن صديقنا الفلاح
يحب الشمسَ والأطفالَ
والخضرة
ويزرع كي يغذينا
ويتعب كي يجيء لنا
فنشكره
ويشكرنا
إن التكرار من شأنه المشاركة في تأكيد المعنى الذي يتحدث به الطفل، كما يسهم في إثراء الموسيقى بتكرار الأصوات كما هي.
وتبقى هناك بعض المآخذ على هذه المجموعة الشعرية نذكر منها بُعد بعض القصائد عن الجو العام للمجموعة، واقترابها من موضوعات دينية قد لا تناسب هذه السن التي يكتب لها الشاعر، مثال على ذلك قصيدة "الدين للديَّان" (ص 17) والتي يقول فيها الشاعر:
أحبائي وأصحابي
سمعت اليوم من جدي
كلامًا
كان يقرأه من القرآن
وقالت جدتي يوما لجارتنا:
بأن الدينَ للديَّان
وقالت جدتي أيضا:
بأن الناس في وطني
لهم تاريخ
وأن المجد للخالقْ
وللأوطان
فالمعنى الذي يريد الشاعر إيصاله إلى الأطفال من خلال هذه القصيدة غير واضح، كما أن الموضوع نفسه في حاجة إلى إعمال الفكر بطريقة قد لا تتناسب مع هذه السن، فالقصيدة بها نوع من التجريد، مثال على ذلك قوله:
إن المجد للخالقْ
وللأوطان
قد يكون من السهل على الطفل حفظ هذه الجملة، ولكن سيكون من الصعب عليه فهم معناها ومغزاها، أو ما تهدف إليه، ولعلَّ الشاعر يريد من هذه القصيدة إيصال فكرة (أن الدين لله والوطن للجميع)، وهي فكرة قد يصعب على أطفال هذه السن فهمها وإدراك معانيها، وأعتقد أن قصيدة "الألوان" تأتي تنويعًا آخر على الفكرة نفسها، يقول الشاعر:
وخلْق الله ألوان وأشكال موزعة
أنا أسود
أخي أبيض
وإخوتنا بكل مكان
جميعا
أصلنا واحد
وليس الأصل في الألوان
ومن المآخذ الأخرى على قصائد ديوان "الفارس المغرور" وجود بعض الزوائد الشعرية على فكرة القصيدة، ومثال على ذلك قصيدة "رحلات"، فالفكرة هنا تعبر عن محاولة زرع حب قراءة الشعر والذهاب إلى المسرح والسينما والسيرك، والاستفادة من هذه الرحلات الثقافية، ولكن يصبح المعنى زائدًا عندما يحاول الشاعر صياغة المثل القائل "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" وإلحاقه بنهاية القصيدة، فيقول:
أقول لكم:
بأن الوقت مثل السيف
علينا أن نوزعه
فنعمل ..
حين يأتي الجد
ونلعب
في أوان اللعب
ومع أن هذه الصياغة قد تتناسب مع قصيدة "الوقت" أكثر من مناسبتها لقصيدة "رحلات" غير أن الشاعر جسَّدَ هذا المثل أو هذه الحكمة المصاغة شعريًّا بطريقة فنية أو غير مباشرة في قصيدة "الوقت"، وعلى ذلك فستكون مثل هذه الصياغة عبئا شعريا على قـصيدة "الـوقـت"، لـذا أرى حـذفـهـا مـن "رحلات" وعدم إضافتها إلى "الوقت".
أيضا لاحظنا غياب المعنى أو الحس الإسلامي المباشر في قصائد الديوان، وابتعاد الشاعر عن استلهام قصص القرآن وألفاظه ومعانيه الغنية بالدلالات والرموز، ولكن الشاعر باحتفائه بعالم الطفولة، وحضه على الصداقة والمحبة والزمالة والصحبة يكون قد اقترب اقترابًا غير مباشر من عالم الأدب الإسلامي ونظرته الإسلامية إلى الكون والحياة والإنسان من خلال تلك القصائد التي لا تتعارض مع المفهوم الإسلامي بمعناه الشامل.
وفي كتابه "أطفالنا في عيون الشعراء" يقول أحمد سويلم عن تجربة الحوتي في الكتابة للأطفال: "إنه يتحدث كصديق صغير مع أصدقائه الصغار، ويبدأ معهم من لحظة التفتح على الكون ــ لحظة الحب ــ حب الناس ــ ثم يأخذ بيدهم عبر الشوارع والطرقات، ويلتقط لهم مواقف وحكاياتِ ما كان يجب أن تحدث لو أن كلَّ إنسان أخلص في عمله وحبه للناس ولبلده ... ولكي تكتمل الصورة ساق لهم كذلك مواقف وحكاياتِ من يخلصون في عملهم، ومن يحبون بلدهم، ثم نجده مثلا يدعو الصغير ليس فقط للحب، ولكن لتقدير كل فعل، ولو كان صغيرًا، واحترام كل إنسان، ولو كان ملونًا أو ينتمي إلى طبقات فقيرة، فالناس سواسية خلقوا من بطن واحدة".
يذكر أن الشاعر أحمد الحوتي – حسب ترجمته في "معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين" - ولد بقرية منية عياش - (المحلة الكبرى)، وتوفي بالقاهرة، وقضى حياته في مصر. درس بمدينة المحلة الكبرى، وتخرج في كلية الزراعة بجامعة عين شمس 1968. أدى واجبه في القوات المسلحة إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973، ثم عمل بالثقافة الجماهيرية (وزارة الثقافة) في عدة مناصب، كان آخرها: مدير عام ثقافة الطفل. كان عضو اتحاد الكتاب بمصر، وجمعية حقوق الإنسان، والمجلس العالمي لكتب الأطفال. كانت له مشاركة في المؤتمرات الشعرية والمهرجانات بمصر وبالأقطار العربية، ونشاط صحفي وإذاعي ملحوظ.
فاز بالجائزة الأولى في شعر حرب أكتوبر (1973).
من إنتاج الشعري: ثمانية دواوين منشورة: "نقش على بردية العبور" - دار آتون. القاهرة 1980 (طبع ثلاث طبعات)، و"مثلك شجرة تين برية" - وزارة الثقافة. بغداد ط٢ - 1981، و"الانتظار على مائدة الشمس": الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1981، و"حكاية الساحر والفيضان" (ديوان للأطفال) - الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1984، و"الفارس المغرور" (ديوان للأطفال) - الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1988، و"اليمامة والنهر" - الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة 1994، و"الزهرة التي حاولت تبديل لونها" - (ديوان للأطفال) الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995، و"أحوال تلك السيدة" - الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة ١٩٩٧.
ولن أيضا: مسرحية: "الزائر" - شعرية - مختارات فصول - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1995، وثلاث مسرحيات (مخطوطة) : "لعبة السامر" (للأطفال) - والهباشين (بالعامية) – و"أحزان رجل طيب" (من فصل واحد)، وله عملان دراميان: "حدث في المولد" (أوبريت بالعامية المصرية) – و"سيناء وطني" (ثلاث حالات درامية)، بالإضافة إلى مقالات ودراسات في المسرح والقصة والشعر - (مخطوطة).
عني الشاعر بالقضايا القومية، مع ميل لإسقاط الخاص على العام، وتتراوح أشعاره بين الخاطرة الشعرية والقصيدة المركبة، وتتنوع تقنيات الأداء ما بين السرد والحوار ورسم المشاهد الدرامية، مع الاعتماد على الرمز أحيانا، وقد ظلت البنية الإيقاعية عنده محافظة على نمطها السائد عند كبار شعراء الستينيات، كما نظم على نسق قصيدة التفعيلة.