الوطن والمبدع الآن
الوطن، ذاكرتنا وتاريخنا، أهلنا وأحبتنا، دموعنا وضحكاتنا، آمالنا وأحلامنا، خيباتنا وانكساراتنا وانتصاراتنا أيضا.. قد نثور عليه، قد نعلن الغضب والسخط والقطيعة أحيانا، لما آل إليه- أو لماحوله اللصوص الكبار إليه، من وطن مفقر تسكنه الظلمات ويهرب منه الأبناء.
ولكن الوطن يسكننا حتى وإن هجرناه. الكاتب الليبي إبراهيم الكوني حمل الصحراء معه، لتظل في برد مهجره، ملجأه وجوهر كتاباته.. والحبيب السالمي، ظل في جل كتاباته، في قلب باريس، لا يكتب عن غير وطنه التونسي.
قد تلتبس علاقتنا أحيانا بالوطن .
فيما مضى، أخذتني النقمة على مدينتي الخانقة- مثال مدننا المسورة القامعة و أوطاننا العربية المحاصرة والمستهدفة دوما، رغم جغرافيتها المميزة المنفتحة على البحر، في أقصى الشمال التونسي، فكانت الكتابة الملجأ المحرر من أسوار المدينة وهموم الوطن.
ولكن ثورتي، لم تقطع علاقتي بالأرض، بل كشفت لي مدى ارتباطي ومحبتي لسمائي وأرضي وبحري.. هي علاقة ملتبسة، متوترة، متناقضة المشاعر أحيانا، تتخذ شتى الأشكال في كتابتي القصصية والروائية التي تعري الواقع المتردي للإنسان في هذا الوطن. ولكنها تقدم الشهادة الصادقة والرؤية العميقة.
أليس هذا هو دور المبدع؟ أن يقدم الشهادة ويكتب التاريخ الحقيقي للوطن، تاريخ الإنسان الذي لا يكتبه المؤرخون، مستنهضا القيم الأصيلة، زمن انهيار القيم الذي أدى إلى انهيار الأوطان. فيقدم بذلك متعة الإبداع ورؤيته العميقة التي تنير بعض ظلمات الذات الإنسانية.
ولكن، في وطن مزقته السياسة العمياء، ومازالت الثقافة فيه في آخر الاهتمامات، ويهمش فيه أكثر فأكثر الكتاب، تصبح الدعوة أكبر لمقاومة الواقع المزري بالكتابة الكاشفة الجادة الواعية، وبالنشاط الثقافي المناضل والمبتكر. وهذا ما أسعى إليه، سواء من خلال الكتابة أو من خلال نشاطي ومسؤوليتي في رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت وفي جمعية أحباء المكتبة والكتاب.
قد يكون في كتابتي الإبداعية الكثير من أوجاع الوطن. قد يكون تجلى الكثير من ذلك في ثلاثية "هيبو"، ثلاثيتي الروائية "دروب الفرار والعراء" وخاصة في "نساء هيبو وليال عشر"، روايتي الأخيرة، عن عملية اغتيال صادمة لعالم تونسي، ومآلاتها على نماذج من شباب تونس. ولكن رغم ما أكتب عن الانهيار الذي تسببت فيه السياسة والظلامية في السنوات الأخيرة، ورغم الواقع السريالي الذي نشهد الآن مع جنون الكبار الممزقين والمخربين للأوطان، فإن قدرنا أن نظل نقاوم، وأن نضيء بالثقافة والمحبة والشهادة دربنا. فلنا على هذه الأرض ما يستحق الحياة. رغم كل الدمار الأرضي، نتشبث بالأمل، لأن المستقبل-أكيد- لنا.