سوء الحظ في سوريا
الإطلالة على المشهد السوري من النافذة العراقية ليست صحيحة دائما ولكنها قد تختصر علينا عملية البحث في التفاصيل الفائضة. وهي تفاصيل ليست مهمة.
سبق لأبي محمد الجولاني أن قاتل في العراق وقتل عراقيين في بلادهم وهو أجنبي. رفاقه في التنظيمات الجهادية الذين قتل كل واحد منهم عراقيين كانوا مثله أجانب.
ما تربى عليه الجولاني في خضم جهاده لا يمت بصلة إلى الوطنية ولا يحترم المواطنة ولا يقيم وزنا للكيانات السياسية التي تُسمى دولا والتي أنشت على أساسها الأوطان.
كان الخميني يقول "الإسلام هو وطننا". تلك جملة مستلهمة من فلسفة سيد قطب، المفكر المصري الذي أقامت جماعة الإخوان المسلمين على أفكاره قاعدة نظريتها.
وحين احتل الأميركان العراق مهدوا للأحزاب الدينية الموالية لإيران أن تفرض على العراقيين دستورا جديدا ينكر عروبة العراق ويضع مستقبله على لائحة التقسيم.
أشار الإعلان الصادر عن مجلس الأمن وهو يدين ما شهدته مدن الساحل السوري إلى ضرورة طرد المقاتلين الأجانب. ذلك يعني أن عدد أولئك المقاتلين كبير إلى درجة أن هيئة أممية وضعته في اعتبارها.
أجانب قتلوا سوريين. هل هي خلاصة مقنعة؟ لا ينكر الجولاني ولا حكومته ما حدث في الساحل من مجازر وأن السوريين قبل أن يُقتلوا سمعوا لغات غير العربية.
أولئك هم المجاهدون الذين قاسمهم الجولاني معاناتهم اليومية في جهادهم سواء في العراق أو في مدن سورية مختلفة وأخيرا في إدلب، حين أتاحت له تركيا ومن ورائها الولايات المتحدة إقامة دولته المعولمة.
ولكن لا يصح أن تكون دولة إدلب هي المقياس الذي تقوم على أساسه دولة سورية جديدة. إدلب هي جزء من الجمهورية العربية السورية. وإذا ما كانت ظروف الحرب الإستثنائية قد سمحت للجولاني بإقامة دولته بشروطه في إدلب فذلك لا يعني أن في إمكانه أن ينقل تلك التجربة إلى سوريا.
بغض النظر عن الطابع الاستبدادي الذي تميز به حكم البعث في سوريا فإن الدولة السورية كانت تُدار من قبل أبنائها الذين لم تكن انتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية لتعني شيئا أمام سوريتهم.
لقد قيل إن نظام الأسد يحمي الأقليات. للأسف ذلك كلام صحيح وهو ما أثبتته المجازر التي شهدها الساحل السوري. وفي ذهاب مشايخ الدروز إلى إسرائيل تأكيد على ذلك.
لن يجرؤ مجاهدو الجولاني على ذبح الدروز في السويداء مثلما فعلوا بالعلويين في مدن الساحل. ستكون إسرائيل لهم بالمرصاد. ستبيدهم إسرائيل عن بكرة أبيهم.
أهذه سوريا ما بعد الأسد وفق الرؤية الأميركية؟
سوريا بلد سيء الحظ مثل العراق تماما. لقد تفاءل السوريون بسقوط نظام بشار الأسد، ولكنه كما يبدو مثل سقوط نظام صدام حسين في العراق أخذ كل الثوابت الوطنية معه وفي مقدمتها بل وأهمها العيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد. أما رواية الفلول فإنها لن تقنع أحدا حتى لو اصطف الإعلام العالمي كله وراءها وهو لم يفعل ذلك. لقد وثق القتلة جرائمهم وكان الدافع الطائفي واضحا.
ذلك ما حدث بالضبط في العراق. في حقيقة الأمر فإن ما سُمي بالحرب الأهلية هناك لم يكن صحيحا. كانت حرب إبادة، دافع فيها الرجال بما يملكون من سلاح شخصي وهو الأكثر وفرة في العراق عن أهاليهم وأملاكهم. وما تعرضت له الفلوجة من هلاك هو خير دليل على ذلك. فالمدينة التي قاوم أهلها الاحتلال الأميركي تعرضت لحملات إبادة مستمرة قامت بها الميليشيات الموالية لإيران.
الدرس العراقي سيظل شاخصا. وما فعلته فصائل الجولاني في مدن الساحل السوري لن تمحوه وعود الترضية بإنشاء لجنة تحقيق مستقلة. من أين تأتي الثقة بذلك الإستقلال إذا كانت الفصائل المسلحة التي ارتكبت تلك الجرائم هي جزء من منظومة النظام الجديد العسكرية؟
لا تزال الميليشيات الطائفية في العراق ممسكة بالمدن التي تم طرد سكانها منها ومنعهم من العودة إلى بيوتهم. فهل ستصيب لعنة العراق سوريا وأهلها؟
قال المتفائلون يوم سقط نظام الأسد "إن سوريا ليست كالعراق" ولكن مَن وضع يده على قلبه كان محقا. ذلك لأن حملة السلاح العقائديين لديهم هدف واحد هو الجهاد. والجهاد الذي يعرفه العقائديون المتشددون ينحصر في قتل كل إنسان لا ينتمي إلى عقيدتهم. وإذ تمكنوا من سوريا، متعددة الأعراق والأديان والمذاهب فإنهم سيحولوها إلى بحيرة من الدم ما لم يتخذ المجتمع الدولي موقفا حازما يردعهم من خلاله.