الرواية العربية وتحولات القيم
تعتبر الرواية ملحمة بورجوازية حسب هيغل، وهي ذات أصول شعبية حسب باختين، إنها مرآة للشعوب والمجتمعات، تعكس واقعهم وتجاربهم، تعكس نظرة الروائي لذاته ولبيئته، تعيد الرواية إنتاج الحكاية بناء على المزج بين الواقعي والمتخيل، رؤية استشرافية للمستقبل، وقراءة في ثنايا الأحداث، وعودة للماضي من جديد من خلال استنطاق التاريخ والتراث، ليست الرواية أداة لتفسير العالم إنما وسيلة تعبير وتصوير، بمثابة رد فعل ضد القساوة والتنميط، وتنبيه القارئ للمشكلات التي تعرقل مسار التحولات، وبناء صورة حالمة للعالم وفق ما ترمي إليه الحكاية، وما يهدف إليه السارد من وراء السرديات، لأن الكتابة بدقتها لابد أن تحتوي على مضمون هادف ومثير، عندها نكتشف عمق الأزمات ومأزق الوجود الإنساني، نفهم الخلفيات وسياقات الحكاية في عالم متعدد الثقافات والرؤى. فالروائي يصنع من الحكاية عالما للتأمل، ويرسم في قلب الحكاية هواجس وأحلام، ويرغب في تجديد الرؤية لعالمنا رغم ما تنطوي عليه الحكاية من تعدد في الأصوات والرغبات، وما تكشف عنه الحكاية من تحولات في القيم وإيقاع الحياة، تحولات في المحكيات يساير إيقاع السرد، وهموم الذات المثقلة بأوجاع مختلفة ينقلها الكاتب، ويتوارى خلف الشخصيات، يراقب دينامية المشاهد، يطل من شرفة عالية، بحيث يتمكن السارد من تسريع الزمن أو تبطيئه. انعطاف في فنون السرد يعني أن الرواية تساير إيقاع الفكر الجديد، كما تنقلنا الحكاية من مجال السرد الخطي المتصل نحو مجال السرد التصاعدي المنفصل، أي السرد المنفلت من الرتابة والتنميط، يتوارى السارد، يعطي مجموعة من الحقائق التي تثير نوع من الصدمة والدهشة، بحيث تجعل القارئ العادي يتيه في غابة السرد، حينما لا يمتلك الأدوات المناسبة للقراءة ولا يستطيع التفاعل مع إيقاع السرد.
الرواية العربية "ديوان العرب" الجديد بعد الشعر، الرواية جنس أدبي تخيلي، وتعبير عن ظاهرة ثقافية، ورؤية فنية في قلب الوقائع التي يسكب عليها السارد نوع من العقدة والحبكة والإخراج في قالب ينقل القارئ نحو التأمل والتفكير في الماضي والحاضر، لذلك يمكن اعتبار الرواية العربية بأنماطها المختلفة، تعبير عن الوجود الإنساني بمختلف تجلياته، صورة معبرة عن تحولات القيم، رسم لكل ما يتعلق بالمكان والزمان والأحداث، أشكال من السرديات للتفكير في الذات، وأنماط من البناء للمتن الروائي، وللشخصيات الثابتة والدينامية، دفاع الرواية عن القيم الإنسانية النبيلة، روايات عربية مطبوعة بالسرد الخطي المتصل والسرد المنفصل. كل رواية تقدم نفسها على أساس ما ترمي إليه من غايات وأهداف، يمكن إجمالها في الوعظ والإرشاد والتربية وتلقين السلوك، والتذكير بالقيم النبيلة، وكل ما يحمله الأبطال والشخصيات من فضائل ورذائل، وما ترمي إليه السرديات بلغة سلسة، وأسلوب مرن في التعبير والوصف، ونقل المشاعر الفياضة، روايات عربية من زمن الأمس البعيد، من بدايات السرد العربي ظل التماهي مع الأحداث الماضية الخاصة بالاستعمار.
الرواية العربية التقليدية شرارتها الأولى تعني الربط المتين بين القيم والشخصيات الواقعية أو المتخيلة. هناك دائما انتصار للبطل، انتصار للخير على الشر، وانتصار للسرد الخطي والنهايات القطعية على النهايات المفتوحة، محتوى الرواية العربية الكلاسيكية تعني وجود السارد في قلب السرد، وذاتيته لا تتوارى، بل يتدخل في مجريات الأحداث، هذا النوع من السرديات لم يعد نافعا ولا مفيدا للزيادة في الإبداع، لم يعد ممكنا لنقل الرواية العربية نحو العالمية. التجديد مطلب أساسي في العودة للذات من جهة، وإتباع مسار الخيال في محاولة للكشف عن هشاشة الوجود الإنساني، والكشف عن المنسي والهامشي من السرديات.
بوادر جديدة للرواية العربية الحديثة خصوصا بعد نكسة 1967 والحروب المتتالية، نتيجة أخرى للتغير الذي أصاب الفكر الإنساني العلمي والفلسفي، تفكيك خطاب الهزيمة بالعودة للذات للحفر والنبش عن أسباب الإخفاق، وتتالي الهزائم العسكرية والنفسية أمام الآخر، أزمة مركبة للذات العربية بأبعادها الفكرية والسياسية والاجتماعية، لقد قصف الفرد في وعيه، وتعطل الفكر من جراء القيود المفروضة على الكل، تمويه وتشويه للهزيمة من قبل القوى المضادة للتغيير، تبرير غير معقلن للفشل من خلال أسباب واهية. مسار التاريخ الإنساني ليس سوى مسار للتطور الوعي البشري، والوعي بالحرية، والانفتاح على شروط العصر، أولئك الذين خبروا معالم الهزيمة والفشل تيقنوا بالفعل أن الرواية العربية يجب أن تكون تجريبية، يجب أن تلمس هموم الذات، لا يمكن الإحساس بمتعة الكتابة إلا بخلاص الروح، وتطهير الذات من كل ما لحقها من أمراض، اجتراح الحلول، أسئلة جادة عن التنقيب في عوالم منسية، التنقيب في تفاصيل الحياة الجزئية من تاريخ هذه الشعوب، السرد من صميم الحياة الفردية والجماعية، من الدروب والشوارع والأزقة والمقاهي، من البيوت والعلاقات الاجتماعية، من السجون، ومن المخيال الشعبي، والذاكرة الجماعية والأسطورة، وما يحمله السرد من حمولات فكرية، وظواهر تنخر المجتمعات العربية، وتكبل فكرة الحرية والتحرر.
سؤال عن أزمة الذات، وهموم الإنسان وحدوده في الفعل والتعبير بدون كوابح أو موانع، صورة العجز والشلل ظاهرة، يصورها صنع الله إبراهيم في رواية "ذات" عن المجتمع المصري، ويحكيها محمد شكري ومحمد زفزاف عن واقع الحال، والتهميش الذي دمر الذات والمجتمع، يحكيها الطيب صالح في علاقة صراع وتقارب يبن الشرق والغرب، كما يتوغل في أعماقها نجيب محفوظ، يرويها من قلب الحياة الدقيقة للفرد في كل الأمكنة، هذا الشرخ العميق في الثقافة والصراع القيمي من خلال شخصيات ووقائع يمزج فيها الروائي بين متعة الوصف، ودقة تتابع الأحداث، بين الأهداف والغايات التي يرمي إليها. لعل الرواية العربية الحديثة حاولت بالفعل تشخيص الأزمة، تعرية الواقع بكل ما يحمله من معاناة وقساوة، إنه التاريخ المعاق والصراع بين الأصالة والحداثة، وبين التجديد والتقليد، بين الجمود والتقدم، خطوات للأمام، بين النبش والصمت. أمام الشعور بأزمة الذات وأزمة الهوية، تم وصف وضعية الفرد واغترابه، وتكرار الخطاب عن البطولات، والتغني بالماضي، والمبالغة في التغني بالشهامة والشرف، والنهاية السعيدة، انتقلت الرواية العربية المعاصرة نحو كتابة تاريخ جديد، الرؤية من الخارج، والرؤية من الداخل، تكسير الزمن، والبداية من العقدة، وترك الشخصيات تقدم نفسها في عالم دينامي، متعدد الأصوات، روايات بلا ضفاف كما قال محمد برادة، في تناول الناقد المغربي لأبرز الانتاجات الروائية المعاصرة من خلال تشريح الذات في السرد العربي، ومعرفة الخلفيات التي جعلت الرواية العربية تعيد النظر في علاقة السارد بالمسرود، كما تنفتح على مجريات الأحداث التي يمليها السرد وإيقاعه، ليس كما يرغب فيه السارد. قضايا متعددة نالت نصيبا من النقد، الكتابة عن الهامشي ومأزق الإنسان، وما تعانيه المجتمعات من الاستلاب وانهيار للقيم.
تحولات في مجال العلاقات الاجتماعية، وظهور ظواهر جديدة، وإعادة ربط الرواية بالتاريخ والأسطورة والتراث الشفهي، والذاكرة الشعبية، محاولة المزج بين الخيال والواقع، مواضيع تتجاوز المسكوت عنه، بحيث يتحدد السرد بالتسلسل والانفصال، تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، وتصير الشخصيات نامية، تتحدد بناء على الحكاية. فغالبا ما تنتهي الحكاية بدون نهاية قطعية. رحلة البحث عن الذات تعني أن الذات تعاني من التصدع والتشرذم، أما التحولات الآنية فمردها للتغير الذي طرأ على العالم من جراء القيم المادية الاستهلاكية، تحولات سريعة تنذر بذوبان مدن الملح أو المدن الحصينة والقائمة على الاحتراز من الآخر، ويمكن أن تهدد وحدة النسيج الاجتماعي، تعمل على تفكيك الصور والرموز، لأن استنبات القيم الجديدة يستلزم الاستجابة، والرغبة بإرادة وحرية. هناك توجه عام للرواية العالمية في قدرة الخيال على الإبداع والابتكار بعيدا عن السرديات الخطية، روايات بإيقاع جديد، صورة الفرد العربي ظل غائبا لأمد طويل، وشهرزاد التي كانت تهمس في أذن شهريار عادت من جديد للحكاية، للتعبير عن همومها اليومية، تحكي عن نوازعها النفسية، تحكي عن الغرابة والبشاعة، تحكي عن العوالم السائلة، تحكي في متن السرد عن الأحلام والرغبات، والطموح عن رغبتها في خلخلة الهيمنة الذكورية، رغبتها في ولوج عالم الكتابة لكنها وكما تقول أغلب الروائيات العربيات، أن المرأة العربية لا تكتب ضد الرجل أو تنتقص من قيمته، إنما تكتب ضد اختلال العلاقة بينهما، تكتب ضد السلطوية، وترغب في علاقة عادلة، ومنصفة على أساس الاحترام والتقدير. همسات ورنة هادئة من التعبير المكشوف والمعلن في السرديات، لغة شعرية، وأسلوب يفيض رقة في البوح لما يعتصر الوجدان من ألم ورغبة.
هناك قضايا تتعلق بالحرية والفساد وانسداد الآفاق، قضية الهجرة ومجموعة من الظواهر الاجتماعية والنفسية، لعل الروائي العربي اكتوى بهذه الأحداث لأنه يعيشها لكنه لا ينقلها حرفيا أو يقوم بنسخها، بل يعمل على ترميزها ووضعها في قالب سردي، وبذلك جنحت الرواية نحو مسارات جديدة ممزوجة بالإمتاع والإفادة، تترك الشخصيات النامية تعلو بأفعالها وأصواتها على صوت السارد من خلال استقلالية المواقف والتعبير عن ما يخالجها من مشاعر وأفكار تنم عن واقع معين، تترك للقارئ فسحة للتأمل والتأويل، القارئ الذكي والملم بأدوات القراءة المعاصرة حتى لا يتيه في متاهات الحكاية، يقتنص القارئ لنفسه الفرصة للتأويل، وقراءة المشاهد والسفر في دروب الحكايات، يعود القارئ الجيد والمتمرس في القراءة والنقد للتاريخ، يفكك رموز الرواية بما يليق من أهداف نبيلة تعيد ترميم هذا التاريخ وتنعش الذاكرة، ويلتف الإنسان على ماضية لأجل استيعاب الحاضر واستشراف المستقبل. إبراهيم نصر الله والكتابة عن الملهاة الفلسطينية، يطل الروائي من شرفة عالية حتى يحكي ما يراه سببا في الأوضاع القاتمة التي يعيشها الإنسان العربي من ضياع وتشتت، عالم الشتات الفلسطيني، وعوامل مركبة كانت سببا في الهزيمة النفسية والفكرية، روايات ربيع جابر عن مدينة بيروت، وعن التاريخ اللبناني من زمن الأمس القريب والبعيد، حكايات ممزوجة بالوصف ودقة السرد للتفاصيل، في زمن سردي قصير وطويل وحوار لا ينتهي بين الشخصيات المتعددة، داخل الحكايات تتجلى المعاناة الخاصة بالمغتربين ونتائج الحروب، والهروب نحو الأمكنة البعيدة، ذاكرة مثقلة بالحنين للوطن، وتاريخ جماعي من القهر والصراع مع الآخر.
يتحرك السرد من النهايات للعودة نحو البدايات، يعود للوراء إلى زمن الأندلس، إلى زمن الدولة العثمانية، حكايات العابرين والفارين والناقمين، يحكي عن وقائع جزئية نسيها المؤرخون أو تلك التي تعتبر من المسكوت عنه، يلتقطها ويعيد ترميمها من جديد، ويسكب عليها من الأدوات الجمالية ما يجعلك تعيش في أزمنة متعددة، تترك في ذهنك الرواية الجديدة أسئلة وحيرة عن النهايات المحتملة من السرد، تفكر مليا في القضايا المطروحة التي تتناول مشكلات الإنسان المعاصر من تيه واغتراب، من هيمنة وطغيان الثقافة المادية، والرفض لكل ما يمكن أن يساهم في تشييء الإنسان وتنميطه، تحولات القيم تعني تنصل الإنسان العربي كذلك من قيم الصحراء في مضمون الروايات الخاصة بإبراهيم الكوني وعبد الرحمان منيف، البيئة العربية وما عرفته من تغيرات مجالية وسكانية، ثروة نفطية وعمرانية جعلت هذه البيئة مجالا للتعايش، واستقطاب الآخر للعمل والبناء، ظواهر جديدة تحولت لمادة روائية، لذلك لا تخلو الرواية الجديدة من التعدد والتنوع في الشخصيات والأدوار، لا تعني نهاية الحكاية بكل ما هو قطعي لأن الزمن متصل ومتدفق، تترك فينا الرواية انطباعا أن النهاية بمثابة بداية جديدة. أضحى الاتجاه الجمالي في الرواية أكثر انفتاحا على التجدد والتطور، والقابلية للاقتباس المفيد عندما تستلهم الرواية الجديدة الأدوات الفنية وأسلوب الكتابة، وما يتعلق بالتناص، والخيال والتهجين والتبئير، وأدوات أخرى مهمة يمكن أن تحمل الرواية العربية للعالمية حتى تتبوأ الصدارة والمكانة، ولن يكون ذلك إلا بالأعمال الجادة والرصينة، وبالترجمة الواسعة للروايات العربية إلى اللغات الأجنبية.