من أبي تمام إلى أدونيس: 'الميتاشعرية' بوصفها حداثة مؤجلة
في عالمٍ لطالما حكمت فيه القراءات التاريخية والأيديولوجية مقاربة الشعر العربي، يأتي كتاب "الميتاشعرية في التراث العربي من الحداثيين إلى المحدثين" للناقد د.هدى فخر الدين الصادر بالإنكليزية، وترجمته آية علي وصدر بالتعاون بين دار إثراء ودار أدب، ليقترح مسارًا نقديًا مغايرًا، أكثر حفرًا في بنية النص الشعري ذاته. إنه مشروع يعيد للشعر العربي القديم مكانته لا بوصفه إرثًا بلاغيًا فقط، بل أيضًا خطابًا فكريًا يشتبك مع أسئلته ويمارس النقد الذاتي من داخله. وذلك انطلاقا من استخدامه لمفهوم "الميتاشعرية" وهي ظاهرة تعني أن يتناول الشاعر في قصيدته طبيعة الشعر نفسه، أو شروط إنتاجه، أو موقع الشاعر من القصيدة. هذه الميتاشعرية، كما تقول فخر الدين، ليست طارئة أو هامشية، بل جوهرية في فهم التطور الداخلي للشعر العربي.
في جوهر مشروع فخر الدين، وهي أستاذة الأدب العربي والنقد بجامعة بنسلفانيا، تسعى إلى مساءلة الفرضية الشائعة بأن "الحداثة" الشعرية لم تظهر في الأدب العربي إلا مع طليعة القرن العشرين. على العكس من ذلك، تجادل بأن مظاهر الحداثة الفكرية والتأمل الجمالي حاضرة بقوة في شعر "المحدثين" من العصر العباسي، خصوصًا عند أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي. هؤلاء الشعراء، برأيها، لم يكونوا مجرّد مستخدمين للغة بل "منظّرين ضمنيين" للشعر، مارسوا نقدًا داخليًا على بنية القصيدة، وعلى العلاقة بين الموروث والابتكار.
وتربط بين ممارسات شعرية في القرن الثالث الهجري وأخرى في القرن العشرين. فكما أن أبا تمام مارس إعادة تشكيل للمعجم والخيال الشعري، فعل أدونيس الشيء نفسه ضمن مشروعه الحداثي. لكن الفرق، كما تشير فخر الدين، أن الشعراء العباسيين لم ينظر إليهم غالبًا كـ"مُنظرين" أو مجددين على نحو كافٍ. لقد صُوّروا تاريخيًا كمجرد أدوات في يد الثقافة الرسمية، أو كحرفيين في معمل الصنعة اللفظية، بينما تخبرنا نصوصهم نفسها بأنهم كانوا أكثر وعيًا، وأكثر اشتباكًا مع أسئلة الشعر الجوهرية.
تقول فخر الدين "كان اهتمامي بنشاطة حركة الشعر العربي (الحركة الحداثية في القرن العشرين) وبالمؤثرات فيها الدافع الأول وراء هذا المشروع. وحين كنت طالبة للأدب العربي والأدب الإنجليزي في العالم العربي، كثيرا ما كنت أصادف أعمالا تركز على التأثيرات الغربية في حركة الحداثة العربية، ونادرا ما كانت تشير إلى مرجعيات محتملة في التراث الشعري العربي لهذا المشروع الثوري، وكأن مشروعا واعيا للتغيير في التعبير الشعري لابد أن يكون متعارضا مع التراث الأدبي، وخاضعا لتوجيه تأثيرات غربية أو غير تراثية. وهكذا تحول اهتمامي نحو السوابق المحتملة لهذا المشروع الحداثي الثوري، أو على الأقل نحو المقارنات الممكنة به في التراث الشعري العربي أو ما يشار إليه ـ وإن على نحو إشكالي ـ بـ "الشعر العربي الكلاسيكي". تحمل هذه الصفة ـ كلاسيكي ـ في تطبيقها على الشعر العربي في فترة ما قبل القرن التاسع عشر، وبالأخص شعر العصر العباسي، دلالات مهمة، تشكل طريقة قراءة هذا الشعر وتقديره داخل العالم العربي وخارجه. إنها تفترض وجود أدب قديم جامد، ينبغي تناوله بالقراءة والتدارس، ولكن بهدف تجاوزه في نهاية المطاف، وكما يوضح يوغوسلاف ستيتكيفيتش في محاضرة ألقاها عام 1967 على جمهور من المستعربين، فإن المأخذ الرئيسي على حقل الاستعراب حتى ذلك الوقت كان اعتماده على النهج التاريخي في مقاربة الشعر العربي، مع نظرة نقدية محدودة أو منعدمة. ينتج هذا النهج تاريخ أدبي يصبح في أفضل حالاته تاريخا ثقافيا، وفي أسوئها دليلا كرونولوجيا وسيريا رثا. إنه نهج "يبني المعابد للعظماء الكلاسيكيين، فيظلون أمواتا وبعيدي المنال، ولا يمكن بعثهم إلى الحياة من جديد إلا من خلال قراءة نقدية تشتبك معهم اشتباكا عميقا وحميما.
وتوضح أن مشروعها في هذا الكتاب يسلط الضوء على مرحلة في التراث الشعري العربي، تعتبر ثورية في إنجازاتها، ومتميزة بوعي شعرائها بأنفسهم وبكونهم أصحاب مشروع إبداعي جديد. وعلى الرغم من الاعتراف بأهمية التجربة العباسية، إلا أن معظم النقاد الأدبيين لا يشركونها في النقاشات التي تتناول الشعر الحديث في القرن العشرين. وفي المقاربة الزمنية الخطية نجدها تتعرض للإبعاد أو الدفع للوراء. ولذا أجد أن من الأهمية أن نربط بين المحدثين العباسيين وبين مشروع الحداثة العربية وأن ندخل الشعراء العباسيين ـ من أمثال أبي تمام وابن الرومي والبحتري وبالتأكيد المتنبي الذي أتى في وقت لاحق ـ في المناقشة التي تدور حول الشعر واتجاهاته في عصرنا الحالي. وتوفر لنا مقابلة مشروع المحدثين وحركة الشعر الحر رؤى متبصرة بالغة الأهمية حول ما نعنيه تحديدا بقولنا "التغيير الشعري" و"الثورات الشعرية" وحتى الصفات التي نستخدمها لوصف القصائد أو الحركات الشعرية، مثل "أصيل"، أو "جديد".
وتؤكد فخر الدين أنها لا تهدف إلى إجراء مقارنة بين هاتين المجموعتين من الشعراء، بل إلى استخدام التجربة الأحدث كنقطة انطلاق لدراسة التجربة الأبعد تاريخيا. ويعود السبب وراء استخدام التجربة الأحدث كنقطة انطلاق لدراسة التجربة الأبعد تاريخيا. ويعود السبب وراء استخدام تجربة الحداثة في القرن العشرين كمدخل لدراسة الميتاشعرية العباسية، إلى أن مصطلح "الميتاشعرية" لم يتطور سوى في الأعمال النقدية التي تتناول حركة الشعر الحر. إن الدراسات الحديثة حول الميتاشعرية العربية توهمنا بأنه لا يمكن تطبيق مفهوم الميتاشعرية سوى على حركة الشعر الحر الحديث. كما أن المنظور النقدي المتاح حول مشروع الحداثة يؤسس للميتاشعرية بوصفها مفهوما لا يمكن تطبيقه على حركة أدبية عربية "حديثة"، حيث يفهم "الحديث" من المنظور الزمني على أنه القريب زمنيا. هنا أود الابتعاد عن هذا المنظور النقدي السائد والحث على فهم وتفحص أعمق للحداثة الشعرية لدى المحدثين العباسيين، بحيث يفهم مصطلح "حديث" باعتباره مصطلحا أدبيا لا تاريخيا. يأتي قرار البدء من النهاية، عند المتأخرين زمنيا، بشكل واع تماما. إذ أرى أن البدء من القرن العشرين وشق الطريق عبر الكتاب نحو العصر العباسي يساهم في تجديد فهمنا لما هو "حداثي" أو "جديد شعريا"، وفصله عن منظور التسلسل الزمني. أود تقديم هاتين المرحلتين جنبا إلى جنب، كمثالين كان فيهما التأليف الشعري مسكونا بانشغال الشعراء بوسائل تعبيرهم، وقلقهم حيال مواقعهم في استمرارية ما. أضف إلى ذلك، أن شعراء الشعر الحر والمحدثين العباسيين ليسوا بعيدين عن بعضهم البعض من الناية الشعرية كما الناحية الاجتماعية والثقافية والتاريخية.
ترى فخر الدين أن كل قصيدة حديثة ـ في المستوى البنيوي ـ تعتبر حوارا مع القصيدة التراثية الحاضرة نظريا بصورة دائمة أو تحديا لها. وقد ازدادت هذه المحادثة الميتاشعرية التي تحيط بالتجربة العربية الحداثية كثافة وتأزما مع ظهور قصيدة النثر.
وتضيف أنه لم يتحقق التوازن بين الشعر والتنظير في التجربة الحداثية العربية حتى الآن، وغالبا ما ينحسر الشعر لصالح آراء الشعراء حول الشعر، فواحدة من أكبر النقاشات احتداما في المشهد الشعري العربي ـ رغم أنها مكررة نوعا ـ هي تلك التي تدور بين مؤيدي قصيدة الشعر الحر ومناصري قصيدة النثر. ويتمحور النقاش حول هذا السؤال: ما الشعر وما غيره؟. قصيدة الشعر الحر هي قصيدة تحررت من نظام البحر والقافية الصارمين، لكنها حافظت على التفعيلة. ظل هذا النظام يمثل عبودية للأعراف الشعرية القديمة وغير الضرورية بالنسبة إلى مؤيدي قصيدة النثر. والبديل الذي يقدمونه "قصيدة النثر" إن نجح في شيئ، نجح في إداعة الخطاب الميتاشعري وتأجيج الأسئلة المتعلقة بتعريف الشعر وحدوده والتوكيد عليها. فمنذ ظهور قصيدة النثر في القرن التاسع عشر في فرنسا، كان "أكثر ادعاءاتها ثباتا هو أنها تجسد تجربة حديثة بشكل خاص"، أما في السياق العربي، فقد ادعت قصيدة الشعر الحر الحداثة في الشعر العربي لتطور المراحل الشعرية بشكل كامل. فقبل أن تصل قصيدة الشعر الحر إلى كامل إمكاناتها أو تجد مكانا مستقرا نسبيا لنفسها في التراث، واجهت تحديا من قصيدة النثر العربية التي ادعت التفوق عليها في الحرية والحداثة.
وتؤكد إن قصيدة النثر العربية لها الفضل في إبقاء تجربة الحداثة في الشعر العربي، منذ مطلع القرن العشرين، وحتى هذه اللحظة، في حالة تجريبية مليئة بالأسئلة الميتاشعرية الجوهرية، فكل قصيدة (سواء أكانت قصيدة تفعيلة أم قصيدة النثر) هي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة بشكل مباشر أو غير مباشر.
وتشير فخر الدين إلى أنه من خلال الابتعاد عن أوزان الخليل (أو بالأحرى من خلال الانتقال إلى نظام التفعيلة)، وجد شعراء الشعر الحر طريقة سهلة للخروج من المأزق الشكلي الذي وصل إليه الشعر العربي مع الكلاسيكيين الجدد ومعاصريهم. وفي التخلي عن القصيدة العمودية، فقد الحوار مع التراث الأدبي الكثير من إلحاحه. لقد سمحت النقلة التي قامت بها قصيدة التفعيلة بمزيد من الحرية لاستكشاف القضايا النقدية الأساسية التي أثارها مشروع الحداثة. وبالرغم من ظهور بعض الأسئلة المهمة للغاية المتعلقة بالشعر ووظيفته، إلا أنها حلت مسألة القصيدة ببساطة؛ عن طريق التخلي عنها، أو وصفها بأنها ليست ضرورية. ولهذا يمكن القول أن الشعراء العرب المعاصرين، وبعد قطعهم العلاقات الشكلية أو على الأقل تفكيكها؛ باتوا يتحدثون عن المسائل الميتاشعرية أكثر مما يمارسونها. لقد وجدوا شكلا جديدا يمكنهم من التحدث عن العلاقة الإشكالية مع الشكل التقليدي. لا توفر لهم هذه الخطوة انفصالا وحسب، بل تحول كذلك الكثير من قلقهم بشأن العملية الشعرية إلى موضوع شعري، قد يختارون أو يتجنبون الاشتباك معه. يمكن اعتبار الميتاشعرية في أعمال العديد من شعراء القرن العشرين ترفا نظريا أو تمارين ذهنية. علاوة على ذلك جعلت التصريحات المبكرة للحركة (كتلك التي أدلى بها يوسف الخال ونازك الملائكة وأدونيس) هذه التأملات النظرية مطلبا للقصيدة العربية الحديثة أو شيئا متوقعا منها.
وترى أن أسئلة مماثلة طاردت الشعراء العباسيين، أسئلة بشأن القصيدة وتقاليدها، وكان على تأملاتهم وإنجازاتهم الشعرية أن تتحدث في إطار الشكل ذاته الذي كانوا يتأملون فيه. أدى وعيهم الإبداعي بالتراث والتزامهم بالعمل ضمن معاييره، إلى بعض الملاحظات الحادة والثاقبة التي كانت تصريحهم بها نظريا أقل مما هو واضح في أشعارهم. وعلى الرغم من من إنجازات شعراء القرن العشرين لاسيما من حيث الشكل والموسيقى، قد تكون أكثر وضوحا وأسهل على التحديد من إنجازات المحدثين العباسيين، إلا أن الانجازات النقدية للشعراء العباسيين رائدة وأصيلة بالقدر ذاته، وإن كانت دقيقة وكامنة على نحو أكبر. إنها تمثل معنى مختلفا للتجديد، يبرز بشكل أوضح في إطار القديم، ويكتسب قوة وإلحاحا من تمسكه بما يتحداه ويسعى لتغييره. إن انجاز الشعراء العباسيين الأكبر كان قدرتهم من داخل شكل شعري موروث على الإبداع من جهة، وعلى محاورة المؤسسة النقدية المحافظة التي عاصرتهم من جهة ثانية، وبذلك عبروا عن هواجس وتطلعات الشعراء والفنانين في كل مكان وزمان.