تشارلز سيميك شاعر المتاهات الصغيرة داخلنا
في عالمٍ يختزل التجارب الإنسانية إلى بيانات رقمية وخطابات جاهزة، يأتي الشاعر الأميركي تشارلز سيميك حاملاً مفاتيح متاهته الخاصة. ليس كمن يبحث عن مخرج، بل كمن اكتشف أن الجمال الحقيقي يكمن في عملية الضياع ذاتها. هذه هي المفارقة الأساسية في تجربة هذا الشاعر الفريد: فصاحب "المسخ يعشق متاهته" لا يقدم لنا خريطة للخلاص، بل يمنحنا الشجاعة لنضيع معه في دهاليز اللغة والذاكرة.
كتاب "المسخ يعشق متاهته" الذي ترجمه كاملاً تحسين الخطيب وصدر عن دار خطوط وظلال، ليس مجرد مجموعة نصوص، بل هو مرآة تعكس رؤية الشاعر للوجود، حيث يصبح العبث مصدرًا للجمال، والغموض لغة للحقيقة. يقول سيميك في مقدمته الخاصة للطبعة العربية "لا أذكر كم كنت يافعاً، حين شرعت لأول مرة، في التعليم تحت جمل وفقرات في الكتب التي أطالع فيها، ولكنني أحتفظ بذكرى واضحة عن شراء أول دفتر ملحوظات صغير، لتدوين تعليقات إضافية عما كنت أقرأه، في ذلك الوقت، وأفكر فيه".
كان ذلك في عام 1962 في مدينة نانسي الفرنسية، حيث اشترى دفتر ملاحظات صغيراً أنيقاً يمكن وضعه في الجيب بسهولة. "اشتريت دفتراً، على الفور، ثم رحت أحمله معي أينما ذهبت، حتى ملأت صفحاته خربشاتي، فاضطررت إلى شراء واحد جديد"، كما يروي سيميك. اليوم، بعد أكثر من خمسين عاماً على تلك الحادثة، ومئات الدفاتر التي استخدمها، لا يزال يحمل معه دفتراً من ذلك النوع ويكتب فيه.
سيميك الذي عاش بين أنقاض الحرب العالمية الثانية وصفقات الحلم الأميركي، يصوغ من تناقضات حياته شعريةً خاصة. ليست شعرية البطل ولا الضحية، بل شعرية ذلك الغريب الذي يتجول في السوبر ماركت بينما تحمله قدماه إلى ساحات بلغراد المدمرة. في نصوصه، تتحول علبة السردين إلى نافذة على الموت، وتصبح قطعة الخبز المحروقة شاهداً على زمنٍ مضى.
يشرح سيميك أن كتابه هذا "مصنوع من تدوينات منتخبة من تلك الدفاتر التي دونت فيها خلال السنوات العشرين الأخيرة". ويضيف "تلك ليست نوع الكتابة التي يمكن أن توجد فيها. في الحقيقة إن كثيراً من محتواها يتكون من خربشات عشوائية لكلمات، وجمل وأبيات شعرية - تعود لي أو لأحد سواي - واقتباسات قيرة من الجرائد أو الكتب، تدوينات قصيرة تشبه اليوميات، عن وجبات في مطاعم وزيارات متاحف وخربشات كثيرة نطاقها ومقروئيتها هما سر، بالنسبة لي، مثل ما قد تكون بالنسبة إلى قارئ آخر ما".
اللغة عند سيميك ليست أداة للتوضيح، بل للتعمية الجميلة. إنه يكتب كما لو كان يترجم أحلاماً لم يختبرها أحد، أو يسجل همسات أشباح لا يراها سواه. "إن ما أود قوله هو وجود قصدية قليلة جداً في دفاتر الملحوظات، هذه، بل هي تجنح، بالأحرى، إلى أن تكون أشياء تفتق ذهني عنها، أو خطرت ببالي في مكان ما"، كما يعترف. ربما لأن الحرب علمته باكراً أن الواقع ليس سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها عالماً من الفوضى، فاختار أن يكتب من تلك المنطقة الحدية حيث يلتقي المنطقي باللامعقول، والمألوف بالغريب.
يقدم سيميك في هذا الكتاب تأملاته القصيرة التي تقع بين الشعر والنثر، بين الفلسفة والفكاهة السوداء. عباراته المكثفة تشبه أقوالاً حكيمة مرت عبر مرشح سوريالي، حيث تتحول الفكرة البسيطة إلى صورة غريبة تثير التفكير. يقول في إحدى عباراته: "يمر الموت بباب بيتي، يخشخش مفاتيحه التي تفتح جميع الأبواب. ماء مدبس في صندوق فراشات ميتة. باغتني في هذا الصباح، وأنا أفتح الجرائد، نفحة شرور قادمة". هذه الجمل القصيرة تختزل موقفاً كاملاً من الموت، تحوّله من فاجعة إلى نكتة كابوسية، وهو ما يميز صوت سيميك.
"لقد خدمتني، في المقام الأول، كوسيلة مساعدة لتذكر نتف اللغة والأفكار التي أريد أن أستخدمها في قيدة ما، أو في بعض مقالات أعكف على كتابتها، بل كانت، على نحو أكثر مباشرة، وسائل تذكير لدفع بعض الفواتير أو لإحضار بعض السراويل من محل تنظيف الثياب"، كما يصف سيميك استخداماته العملية لتلك الدفاتر. لكنها تحولت إلى شيء أكبر عندما وجد نفسه "في يوم من الأيام في حالة استماتة تحتم عليّ أن أضيف بعض صفحات أخرى لكتاب صغير يضم قصائدي النثيرية، كان على وشك أن ينشر، فخطر ببالي أن أنظر في دفاتر الملحوظات، هذه، بحثا عن مادة ما".
الكتاب يعكس تجربة سيميك الشخصية كطفل عاش الحرب العالمية الثانية، ثم كمهاجر في أمريكا. ذكرياته عن الماضي تظهر كقطع غير مكتملة، كأنها أحلام يقظة لرجل يحاول التقاط ما تبقى من طفولة ضائعة. "طفولتي: صندوق أسود من دخان وصراخ"، بهذه العبارة الموجزة يختزل عالمًا من الذكريات المؤلمة دون أن يسقط في العاطفة المباشرة.
"فاندهشت حين وجدت فيها بضعة أشياء تستحق الصون.. ثم كانت دهشتي أعظم حين أعجب القراء بتلك النتف والقطع التي جئت بها"، يتذكر سيميك. "ولقد أعجبتني أيضا، خاصة وأن لديّ ذكرى غامضة بشأن كتابتها، ولم يبق لي أن قرأتها، بنفسي، من قبل". ثم في سنوات لاحقة اقتبس تدوينات أكثر من دفاتر ملحوظاته القديمة، حتى اقترح عليه بعض الأصدقاء أن ينشر كتاباً مصنوعاً، برمته، منها.
لكن الكتاب ليس مجرد تأملات في الماضي، بل هو أيضاً حديث عن اللغة نفسها. سيميك، الذي عاش بين لغات وثقافات متعددة، يرى الكلمات ككائنات حية عصية على الترويض. "الكلمات مثل قطط ضالة: تأتي عندما لا تريدها، وتختفي حين تناديها"، بهذه الصورة يلخص علاقة الكاتب باللغة، تلك العلاقة التي تتأرجح بين الحب والإحباط.
"يقول الروائي البولندي فيتولد غومبروفيتش، في مطرح ما في يومياته، إننا نقوم بهذا النوع من الخربشة، ليس من أجل هدف أسمى، بل لتأكيد وجودنا بعينه"، يستشهد سيميك. "لم أدرك أن هذا الأمر يمكن أن يكون حيحا بالنسبة إليّ، حتى وجدت نفسي، في يوم من الأيام في حالة استماتة تحتم عليّ أن أضيف بعض صفحات أخرى لكتاب صغير يضم قصائدي النثيرية، كان على وشك أن ينشر".
ما يجعل هذا العمل مميزاً هو قدرته على الجمع بين العمق والبساطة. العبارات القصيرة تلمح إلى أفكار كبيرة عن العبث والوجود، لكنها تفعل ذلك بلغة يومية تخلو من التكلف. إنه يكتب كما لو كان يهمس بأسرار العالم في أذن القارئ، دون أن يقدم تفسيرات جاهزة." فكان 'المسخ يعشق متاهته' ثمرة ذلك"، كما يختتم سيميك قصته عن ولادة الكتاب. "صدر في الولايات المتحدة في العام 2008، ثم ترجم للإيطالية ونشر هناك في العام 2010، وها هو الآن - يا لفرحتي ومسرتي - يظهر بالعربية في ترجمة جديدة أنجزها تحسين الخطيب".
في زمن تطغى فيه الضوضاء والإجابات السريعة، يأتي سيميك ليذكرنا بقيمة الأسئلة المفتوحة، وبجمال الضياع في متاهات الفكر. كتابه هذا ليس عملاً سهلاً، بل هو تحدٍ للقارئ الذي يجب أن يكون مستعداً للسير في عوالم غريبة، حيث المنطق يتراجع لتحل محله الصورة الشعرية.
ويبقى أن "المسخ يعشق متاهته" هو احتفاء بالغموض الإنساني، برؤية تذكرنا بأن أعظم الأسئلة هي تلك التي لا إجابات نهائية لها. في النهاية، ربما تكون هذه هي الرسالة الأهم للكتاب: أن المتاهة ليست مكاناً للهروب منه، بل هي بيتنا الوحيد، وعلى الرغم من كل شيء، فإننا - مثل المسخ في العنوان - نتعلم أن نحبها.
مقتطفات
ـ يمر الموت بباب بيتي، يخشخش مفاتيحه التي تفتح جميع الأبواب.
ـ ديوان قصائد حب سوف يجعل الفياغرا عاطلة عن العمل.
ـ لقد عرّف فوكنر الشعر، في مطرح ما، على أنه تاريخ القلب الإنساني بأسره فوق رأس دبوس.
ـ القصيدة تشبه سرقة مصرف: الفكرة تكمن في الدخول وجذب الانتباه، ثم الحصول على المال والخروج.
ـ نحن شحاذان أعميان، بأذرع متشابكة، نشق طريقنا على مهل في جادة مكتظة بالناس. أنا أعزف على الغيتار، وأنت تخشخشين بكوب الصفيح حين نغني بصوتين جهوريين: "معتم هو الليل، والأرض باردة، تذكرنا من فضلك ياإلهي!"
ـ صديقاتي، رفيقات لهوي، أيتها الأفكار التي في رأسي، وأنتم يا أعزائي الأشباح، كل شيئ خارج هذه اللحظة هو محض كذبة ما.
ـ اهدئ الآن يا فينوس، يا ذات المؤخرة العارية.
البراغيث صاحية.
الوحش في السرير.
وفوق رأسه لمبة عارية.
ـ العين اليقظة تبدأ بالسماع.
ـ كل شيئ، بالطبع، مرآة، إذا نظرت إليه طويلا بما يكفي.
ـ دائما ما تصيب قاذفي القنابل لدينا كآبة شديدة حين تعن على بالهم فكرة أن هنالك أمة في العالم لم تنل ما تتحق بعد.
ـ عندما تعجب، أيما إعجاب بالقتلة المتعطشين للدماء الذين بين ظهرانينا.. فمن الواضح بأن الأمة تشعر، شعورا شديدا، بأن البؤس في العالم لم يكن كافيا، وبأن المزيد مرغوب فيه؛ لذا، فإن المزيد هو ما سوف نحصل عليه، بطبيعة الحال.
ـ مثل مطر في فيلم صامت، أو مثل سفينة في قعر البحر، أو مثل بيت المرايا في وقت الاغلاق، أو مثل قبر متكلم من بطنه ذائع الصيت عالميا، أو مثل عروس قرفصت كي تبول بعد ليلة من الحب، أو مثل قميص ينشف على حبل غسيل ولا منزل في الجوار.. على أي حال، لقد وصلت الفكرة.