'الأم الأخرى' للكتالونية لايا أغيلار: حين تصير الأمومة منطقة معتمة

الرواية تشق سطح الصورة الرومانسية للأمومة لتكشف عن وجوهها المنسية والمؤلمة والمُهمّشة عبر ثلاث نساء من ثلاث قارات.

تمثل رواية "الأم الأخرى" للكاتبة الكتالونية لايا أغيلار مواجهة صريحة للخطاب المجتمعي الرومانسي حول الأمومة. فالأم ليست بالضرورة رمزًا للطمأنينة والحنان، بل قد تكون جرحًا مفتوحًا، أو غائبة تمامًا. بهذا المعنى، تمنح الرواية صوتًا لفئات مهمّشة: النساء اللواتي لم يخترن أن يصبحن أمهات، أو اللواتي حُرمن من هذه التجربة، أو أُجبرن عليها.

الرواية تشكل خرقا لسطح الصورة المثالية الواحدة للأمومة، ومحاولة لفك الغلالة الاجتماعية السميكة التي تخفي الألم، التمزق، والاغتراب الذي تعيشه كثير من النساء تحت وطأة هذا الدور. الأم هنا لا تحتل مركز البطولة التقليدية، بل تظهر ككائن مُجهَد، مُستغل، أو مُقصى. إنها تركز على الأمهات "المنسيات"، الأمهات اللواتي لا يرفرف حولهن هالة التقديس.

لقد قررت لايا أغيلار في هذه الرواية تقديم تحية ومنح صوت للنساء اللواتي يشعرن بأنهن أمهات، ولكن المجتمع لا يعترف لهن بهذه الصفة. إنها أمومة غير معترف بها وغير مرئية. وإلى جانب تناولها الحداد المحيط بفقدان الطفل أثناء الحمل أو الولادة أو بعد أيام قليلة من الولادة، وهو موضوع لا يزال من المحرمات في المجتمع، تتناول أيضًا قضايا تتعلق بالحمل البديل أو تأجير الأرحام، والعلاقات بين الأمهات والبنات.

ما يلفت في بناء الرواية هو تعدد الجغرافيات والثقافات. من أوروبا الغربية (إسبانيا وأيرلندا)، إلى أوروبا الشرقية (أوكرانيا)، إلى أمريكا اللاتينية (بوليفيا)، تنتقل أغيلار بين عوالم متباعدة جغرافيًا لكنها متقاربة إنسانيًا. تلك النسوة الثلاث يمثلن أطيافًا من الأمومة "غير المعترف بها": غير المكتملة، المهاجرة، المؤجرة. يجمع بينهن الخسارة بصور متباينة: فقدان الطفل، فقدان الأم، وفقدان السلطة على الجسد. وبدلًا من الانطلاق من مفهوم "الأمومة المقدسة"، تكتب أغيلار عن الأمومة الموجعة، الملتبسة، أو القسرية، في عمل أدبي تراجيدي بصمت، وإنساني في عمقه.

تمهّد الرواية بثلاث شخصيات رئيسية، تسير كل واحدة في طريق منفصل، لكن خيوط التجربة الإنسانية توحّد بينهن في نهاية المطاف: أولا إيما: امرأة أوروبية تبلغ من العمر أربعين عاما تقريبا، تنتمي إلى طبقة متوسطة، حامل في شهرها الثامن، تفقد جنينها فجأة. تتكسر داخلها مفاهيم الأمل والهوية، وتجد نفسها تائهة في عالم لا يعرف كيف يواسي من تلد الصمت بدلًا من الحياة. تقول في الرواية: "ماما كانت كلمة دافئة.. برائحة شراشف مغسولة ومربى تفاح." ثانيا جانيت فتاة بوليفية تبلغ من العمر 15 عامًا، نشأت مع جدتها، بعد أن غادرت أمها إلى أوروبا للعمل في الخدمة المنزلية. في سن المراهقة، تختار الهجرة وحدها في محاولة لاستعادة علاقة قُطعت قبل أن تتشكل. لكنها، حين تجد أمها، لا تجد ما تنتظره "أمي كانت ترعى أطفال الآخرين بكل حب.. لكنها لم تتعلم كيف تعانق طفلتها". ثالثا ناتالكا شابة أوكرانية، عالقة في علاقة عنيفة، تُجبر على تأجير رحمها لزوجين أيرلنديين. تعيش تمزقًا داخليًا بين الغريزة والاضطرار، بين الرغبة في النجاة والشعور بالخيانة لجنين بدأ ينمو في أحشائها "كلما مرت أمام محل أسماك، يصعد الغثيان إلى حلقها.. الجنين، الأشعة، الألم، الندم ـ كل شيء يريد الخروج".

استخدمت أغيلار تقنيات التشظي الزمني، فلا تسير الرواية في خط زمني واحد، بل تتنقل بين الذكريات والأحداث الآنية، بما يعكس اضطراب الشخصيات الداخلي. كما اعتمدت أسلوبًا سرديًا دقيقًا، بلغة شاعرية لكنها غير متكلفة. الجمل قصيرة، تتدفق كأنها أنفاس لاهثة لأمهات يبحثن عن خلاص. السرد يتناوب بين الشخصيات، ما يخلق إيقاعًا متقطعًا لكنه مشحون بالعاطفة. وذلك كله دون الشعور بأنها تستدر العطف، بل إنها تمنح القارئ شعورًا عميقًا بالتضامن الإنساني.

وواحدة من أقوى طبقات الرواية تكمن في مقاربة الجسد الأنثوي بوصفه ساحة معركة اجتماعية. الجسد ليس حيّزًا فرديًا فحسب، بل مكانًا تُخاض فيه صراعات الطبقة، الحب، القهر، والأمومة نفسها. تجربة ناتالكا في "تأجير رحمها" تُلقي الضوء على الاستغلال الاقتصادي للنساء في مجتمعات هشّة، بينما تحوّل تجربة إيما الأمومة إلى خسارة بيولوجية لا يمكن تعويضها. هذا الاستخدام الرمزي للجسد يحوّل الرواية إلى نصّ يتجاوز حدود السرد، ويصبح خطابًا ثقافيًا عميقًا.

أيضا إن ما يجعل الرواية متميزة ليس فقط شخصياتها أو موضوعها، بل الصوت الخافت الذي تستخدمه الكاتبة. لا توجد مشاهد درامية صاخبة، بل لحظات صمت، بكاء مكتوم، نظرات فارغة، وانكسارات داخلية. إنها رواية عن العنف غير المرئي ـ العنف الاقتصادي، العاطفي، البنيوي ـ الذي يُمارس على النساء باسم الأمومة، الواجب، أو التضحية.

وأخيرا يمكن اعتبار الرواية نصًا نسويًا بامتياز، لأنها تطرح قضايا النساء بلغة النساء، ومن داخل تجاربهن. ومع ذلك، لا تسقط أغيلار في فخ الشعارات، ولا تعتمد على الخطاب النضالي المباشر. هي لا تكتب لتثبت أطروحة، بل لتروي معاناة بشرية صادقة.

مقتطف من الرواية

"إيما"

إنه الخميس. أشعر ببرودة في قدميَّ. أغادر اللقاء في المستشفى بشعور - من يدري صحته من عدمه - أنني قد لا أعود مرةً أخرى. أودِّع "أوليفيا" الشابة، وأشكرها أنها خلال هذا الوقت - أسابيع، شهور، فترات زمنية مؤقتة - أتاحتْ لي فرصة التعبير عن شعوري ومشاركتها.

أسير خلال الردهة تاركةً من خلفي مجموعة صغيرة من الأمهات اللاتي يودعنني، "إلى اللقاء يا "إيما"". أتريدين أن أصحبكِ بالسيارة؟ ويتعانقنَ ويتبادلنَ النصائح الأخيرة. "سونيا"، "مارتا"، "كلارا"، "مارجا". إنهنَّ الأمهات. نساء يتحملن عبء الحمل، والأبناء، والفقد؛ نساء يجاهدنَ للمضي قدمًا، للبقاء حيًّا، لحماية أبنائهنَّ، والعيش على ذكراهم، حتى لو لم يولدوا بعد. إنهنَّ فارسات العصر الحالي، أمهاتٌ قد يتحولن في لحظة إلى وحوش، نساء حُرِمن من حق اعتبارهنَّ أمهات، رغم أنهنَّ أنجبن، وولدن، وبكين في صمت، دون أن يحاول أي أحد فهمهنَّ. إنهنَّ نساء كأي امرأةٍ أخرى. لسن أمهات، بل نساء مجهولات مثلي، هل أنا واحدةٌ منهنَّ؟ يعشن على هامش العالم، دائمًا في أدوار ثانوية. يتشبث برحم كل منهنَّ طفل، طفلٌ يعيش وسيظل حيًّا إلى الأبد. لكنْ إن أبصرتَ أعماقهن، وما وراء أعينهنَّ، إن غصتَ داخل محاجرهنَّ، واجتزتَ الآبار والأنهار والمستنقعات، فستتمكن من رؤية آثار الحب، والحنان، والغياب، والحكايات العدَّة التي لم تُروَ بعد.

أتجه نحو المصعد بشعورِ تخطي مرحلة طويلة مليئة بالشكوك. أفكر في المسودات، وفي الاجتماعات، وبلقاء محتمل مع "ديفيد". هل أرغب في معاودة رؤيته؟ تطوف بعقلي آلاف الأفكار، وتتلاشى، وتخلق حدودًا جديدة. أعتقد أن الحياة هي كل ما نعيشه، وتشكِّلنا كأفراد. الحياة هي مجموع حكاياتنا كلها. ولا، لا، لا، لا أكف عن التفكير في أن ما جرى لي.. إنه أمرٌ فظيعٌ يا "إيما"!

في أثناء انتظاري المصعد، أمعن في النظر إلى ممرضةٍ تمرُّ جواري بخطوات ثابتة، وبين ذراعيها مولودٌ جديد، ومن خلفها تترك أثرًا للألم، ورائحةً زكيةً، وشعورًا يخدرني ويجذبني نحوها بشكل لا خلاص منه. أحاول نزع الصورة عن رأسي، لكن لا أستطيع، لا أقوى، لا أقدر. تستقر في عقلي صورة المرأة مع الطفل، الطفل حديث الولادة، وتمزِّقني من الداخل. أضغط زرَّ النزول و... يسألني صوتٌ ما "هل ستدخلين؟"، ثم تدفعني قوةٌ ما، وباعثٌ مجهول، وحالة مزاجية تتملَّكني، للاستدارة. أتبع خطوات الممرضة بقلبٍ ينبض بشكل محموم، وصدغين يلتهبان قلقًا. أشعر برغبة في التدخين، لكن لا أدخن. تنتابني رغبةٌ في الصراخ، لكن لا أصرخ. تعتريني رغبةٌ في طرح سؤال، لكنْ لا أسأل. ماذا تفعل؟ إلى أين تذهب؟ ولماذا هذا الطفل ليس مع والدته؟ أصل إلى القاعة التي يؤدون فيها عملية اتصال الجلد المباشر، وأرى أنَّ الممرضة تضعه أسفل مصباحِ تدفئةٍ خافت. تضعه برفق؛ تارةً ساق، وتارةً أخرى ذراع، هكذا عاريًا، أو على الأحرى عارية، لأنها طفلة. ألستِ طفلة جميلة يا عزيزتي؟

مرتابةً، أطلُّ برأسي من خلال الباب، وأقول بخجل: "أيمكنني الدخول؟". مما يُخلٌّ بإيقاع المشهد. لوهلة تطالعني الممرضة، وتواصل عملها، منتبهةً لأدنى حركة تصدر عن الجنين الذي لم يمر على مجيئه إلى هذا العالم سوى بضع دقائق. ألحُّ عليها من جديد، لعلها لم تسمعني:

ـ هل الجنين بخير؟

ـ نعم.

ـ والأم؟

بضع ثوانٍ من الصمت و:

ـ الآن لم يعد هناك من يعتني بالطفلة.

تعتريني حالةٌ من الصدمة، دون أن أدرك جيدًا كيف أتصرف عند سماع هذه الجملة. تنبعث الكلمات مني:

ـ المعذرة.. هل يمكنني؟ فقط إن كان ذلك ممكنًا، حسنًا؟ هل يمكنني أن أضع الصغيرة بالقرب من صدري؟ أيمكنني ضمَّها بين ذراعيَّ؟

تتفحصني الممرضة بنظرها متسائلةً أكنت مُرشَّحةً مُؤهَّلة. وفي النهاية تقول:

ـ نعم، سيُفيدها الشعور بدفء أم.

ثم تشير إلى كرسي بذراعين. يُضفي الضوء الخافت إلى الغرفة جوًّا دافئًا، وشعورًا بالراحة، كأنها ملاذٌ وسط المستشفى. مساحةٌ صغيرة تتدفق فيها العواطف، والاستمتاع باتصال الجلد المباشر، والمداعبات، والروائح، خلال اللحظات الأولى من الحياة.

تقول لي الممرضة كاشفةً عن ابتسامة صادقة:

ـ استرخي. من المهم أن تكوني مسترخية. سأبقى هنا إلى جواركِ، اتفقنا؟ هل سبق أن فعلتِ ذلك؟

أجلس على الكرسي، وآخذ نفسًا عميقًا. أفتح قميصي قليلًا، ثلاثة أزرار، أربعة، خيطٌ يتدلى، يتكشَّف صدري غير اللائق بأم. تدنو مني الممرضة بالطفلة، فأحملها بكل ما يسعني من حذر. أشعر بثقل جسم حي، ودفء الجلد، وملمس اليدين الناعم، و.. أوه يا صغيرتي، انظري كم أنتِ جميلة!

ـ هلَّا تضعينها على صدركِ؟ انتظري. اسحبي صدريتكِ إلى الأسفل قليلًا. هكذا، هكذا. استرخي. أنتِ تفعلين ذلك جيدًا. هكذا، برفق، حتى تعتاد ملمسكِ.

أداعب شعر الطفلة، مستسلمةً لشعور غامض. تتحرك الصغيرة وتمدِّد إحدى ساقيها. ينبض جسدها كله. حينئذٍ، وعند مدخل الباب، من خلف ذراع الممرضة، أرى فتاةً ذات بشرة داكنة تطل برأسها على استحياء. ظلت تراقبنا للحظات، ثم تدنو لتتحدث إلينا. يرتجف صوتها كورقة:

- المعذرة.. الطفلة.. إنها ابنة المرأة الحامل التي تعرضت لهجومٍ في الشارع.

أشعر بتوجس.

تجيب الممرضة وهي تومئ برأسها بحزن:

ـ نعم.

ـ هل الطفلة بخير إذن؟

تجيبها الممرضة:

ـ نعم، من حسن الحظ هي بخير. أما الأم فلم يكن الحظ حليفها. ماتت الآن في غرفة العمليات.

أستنفد أنفاسي، وأرى أن تلك الفتاة ذات البشرة الداكنة تكتم صرخة ألم، ثم تتمالك نفسها وتخطو خطوةً أخرى إلى الأمام، وهي تواصل النظر إلى الطفلة بطرف عينها.

تقول لنا وهي تطالع الطفلة من بعيد:

- الطفلة.. الطفلة اسمها "ناتالكا". أخبرتني به الأم عندما هوجِمتْ في الشارع. أخبرتني بهذا الاسم. يبدو لي أن الاسم كان هكذا: "ناتالكا".

تضيف الممرضة:

ـ عجبًا، إنه مثل اسم الأم.

أنظر إلى الطفلة التي تنفجر الآن في بكاء هستيري، وكأنها بطريقةٍ ما تدرك، أو تستشعر أننا نتحدث عنها. أحاول مواساتها قدرَ استطاعتي، وأقرِّبها من صدري لأهدِّئها.

أسأل نفسي بصوتٍ عالٍ دون انتظار الإجابة:

ـ من أين عساه هذا الاسم؟ إنه حقًّا اسمٌ في غاية الجمال. "ناتالكا". لقد قلتِ "ناتالكا"، أليس كذلك؟ "ناتالكا"..

وهي، "جانيت"، الفتاة التي تبحث عن رائحة والدتها، والتي كانت تبحث عنها شهورًا، طوال سنوات، ومن يدري، ربما حتى قبل أن تولد، فجأة تخطر لها ذكرى ظهيرة يومٍ ما على الأرجوحة الزرقاء، وكعكة الشكولاتة، والقبلات التي ذهبت أدراج الرياح، والتي ما زالت تحرق شفتيها. حينئذٍ، عند رؤية الطفلة بين ذراعيْ امرأة، تنغمس في حلمٍ حيث تنتظرها أمها. تصعد فوق كتفيها، والآن تشعر برائحتها. ترابٍ، وملاءاتٍ، وصابونٍ، وقِرفةٍ، وغيابٍ، وسَكينةٍ. تخيُّل أنَّ أمها تحملها بين ذراعيها يثير تفكيرها في الطفلة المحبوبة التي ربما كانت عليها ذات يوم. وتتخيل أمها وهي تغمرها بالقبلات والدغدغات والمداعبات، والكلمات الصادقة التي تبقى متواريةً في زاوية بعيدة من ذاكرتها. تسأل نفسها: وأنا؟ يومًا ما، في المستقبل. أسأرغب أيضًا في أن أصبح أمًّا؟.