سردية مؤثرة تجمع بين الدفء الأسري والعمق النفسي 'في منزل جدتي'
تشكل رواية "في منزل جدتي" للكاتبة التشيكية بترا سوكوبوفا نموذجًا للأدب العائلي الحميمي الذي لا يعتمد على التشويق الصاخب أو الأزمات الكبيرة، بل يغوص في التفاصيل اليومية ليكشف عمق العلاقات بين الأجيال. من خلال قصة بسيطة في ظاهرها، تدور حول طفل يُرسل للعيش مع جدته في الريف، تنفتح الرواية على أسئلة إنسانية كبرى: ما الذي يربطنا فعليًا بأهلنا؟ كيف يتشكل وعي الطفل وسط التوترات العائلية؟ وما الذي يبقى من الصرامة حين تتكلم لغة الحنان؟ إنها رواية عن الصمت العاطفي، عن محاولات الفهم المتأخرة، عن العائلة بوصفها فضاءً معقدًا من الحب والخذلان والرغبة في البدء من جديد، وكل ذلك بلغة مقتضبة تمس القلب وتمنح القارئ فرصة نادرة للتأمل في العلاقات التي تشكّله وتمنحه هويته.الرواية التي ترجمها عن التشيكية د.عمرو شطوري وصدرت عن دار العربي تقدم تجربة سردية شديدة الإنسانية تجمع بين البساطة والعمق، وتستند إلى حدث يبدو عاديًا في ظاهره: انتقال الطفل فيكتور، في سن العاشرة، من بيت أمه "هانا" في المدينة إلى منزل جدته "إيفا" في الريف. لكن هذا الحدث الذي يأتي كخيار أمومي مضغوط بالتعب والتناقضات يفتح الباب أمام رحلة شعورية دقيقة تنفذ إلى المسكوت عنه في العلاقات العائلية.
بيت الجدة هنا لا يمثل مجرد مكان جديد للإقامة، بل عالمًا مختلفًا تتشكل فيه ذات الطفل من جديد وتُفكك فيه العقد القديمة بين الأم وابنتها، بين الأجيال الثلاثة التي تتقاطع تجاربها دون أن تلتقي تمامًا. ومن هنا فإن الرواية تعتمد على أسلوب تعددي في السرد؛ إذ تمنحنا سوكوبوفا ثلاثة أصوات: صوت فيكتور الطفولي الصادق، الذي يراقب العالم بعين مندهشة وقلقة في آن، وصوت الأم هانا التي تنهكها الحياة وتكاد تغرق في شخصياتها المسرحية أكثر مما تعيش شخصيتها الأمومية، وصوت الجدة إيفا، المرأة الصامتة والقاسية في ظاهرها، لكنها تخبئ في صمتها دفء السنوات الثقيلة التي لم تتكلم عنها. هذا التعدد لا يخلق تشتيتًا بل يضفي على الرواية طابعًا مركبًا، فتبدو كل شخصية وكأنها مرآة لما تخفيه الأخرى.
لا تندفع سوكوبوفا إلى صنع حبكات درامية مفتعلة، بل تبني روايتها على الأحداث اليومية الصغيرة: ترتيب السرير، إعداد الطعام، تقليم شجرة، زيارة للطبيب، أو نظرة طويلة بين شخصيتين لا تقولان ما يدور داخلهما. في هذه التفاصيل يتجلى الألم، ويتسرّب الحنين، ويولد التفاهم غير المعلن. العلاقة بين فيكتور وجدته لا تبدأ حميمية؛ إنه يراها متجهمة في البدء، دقيقة التنظيم، لا تعرف المزاح. لكنها شيئًا فشيئًا تتحول إلى ملاذ صامت، يجد فيه الفتى مساحة آمنة لا تُشبه مدينته المضطربة ولا أمّه الغارقة في فوضاها الداخلية. تبدأ علامات القرب في الظهور حين تُعد له وجبة يحبها، حين تترك له مقعدًا قربها في الحديقة، حين تقبل وجوده دون تعليق أو توجيه. فيكتور يتغير، يتأقلم، يكتسب وعيًا جديدًا بذاته وبالعالم، ويتعلم الإصغاء إلى ما لا يُقال.
في الوقت ذاته تكشف الرواية جانبًا مؤلمًا من شخصية هانا، التي لا تزال تصارع ظل أمها في داخلها، وتحاول أن تكون مختلفة، لكنها كثيرًا ما تقع في نفس الفخاخ العاطفية. حين تزور هانا منزل والدتها وتراها تضحك مع فيكتور، تنكسر في داخلها مشاعر مزدوجة: الغيرة، الشعور بالإقصاء، وربما الأسف لأنها لم تتلقّ هذا الدفء من والدتها في طفولتها.هذه اللحظة تكثف أحد أهم خطوط الرواية: كيف يمكن للعلاقة بين الأم وابنتها أن تستمر في التجلّي رغم تغيّر الزمن والمسافة.
سرد سوكوبوفا ينضح بحميمية شديدة لا تُغرق في العاطفية ولا تستجدي التعاطف، بل تقدم مشهدًا نفسيًا دقيقًا لعائلة غير مثالية لكنها حقيقية. ليس هناك بطل خارق، ولا أزمة ضخمة، ولا تحوّل دراماتيكي، بل صيرورة ناعمة من الفهم والقبول.
تبرز الرواية بقوتها في ملامسة هشاشة العلاقات بين الأجيال، وتُظهر كيف يمكن للتوترات الصامتة والتفاصيل الصغيرة أن تشكل ذاكرة الطفل وأن تخلّف أثرًا طويلًا في العلاقات المستقبلية. البيت الريفي يصبح مع الوقت كائنًا حيًا، يُخفي ذكريات، ويعيد ترتيب المشاعر، ويمنح لكل شخصية إمكانية جديدة للفهم، ليس عبر المواجهة، بل عبر التعايش.
أيضا ما يميز هذه الرواية أن الكاتبة لا تمارس الحكم على شخصياتها، ولا تقدمهم ضمن ثنائيات أخلاقية، بل ترصدهم من الداخل، كما لو أن السرد مرآة متحرّكة تلتقط أدق الانفعالات. البيت لا يتغير كثيرًا، لكن المقيمين فيه يتغيرون. فيكتور ينضج داخليًا، الجدة تتخفف من صلابتها، هانا تستعيد شيئًا من طفولتها المفقودة، وإن كان في المرآة المتأخرة لحياة ابنها.
حين ننهي الرواية نشعر أننا غادرنا المكان الذي لم يحدث فيه شيء كثير، لكن حدثت فيه أشياء عظيمة داخل النفوس. لم نغادر بيت الجدة فقط، بل غادرنا معه طبقات من سوء الفهم، من الأسى غير المسموع، ومن الرغبة في التصالح.
تستحق الرواية أن تقرأ، ليس فقط لفرادة أسلوبها، بل لأنها تلامس القارئ العربي الذي يعرف تمامًا هذا الشعور الكامن في بيوت الجدات، في المساحات المشتركة بين الأمهات والبنات، في وجوه الجدات التي تبدو قاسية وتخفي محيطًا من الحنان المقموع. إنها رواية تكتب بأبسط العبارات حكاية معقّدة عن البشر، عن ما لا نستطيع أن نقوله، وعن المسافة بين الأجيال حين نحاول اختصارها بكوب شاي، بصمت طويل، أو بنظرة لا تحتاج شرحًا.
مقتطف من الرواية
"إيفا" لم تستطع النوم بسبب غضبها الشديد مما فعلته ابنتها، فلقد أتت إلى هنا في منتصف الليل، داهمت المنزل كالعاصفة، لقد اشتكى لها "فيكي"، وجاءت لتنقذه من تلك التي منعته من الجلوس على هذا الكمبيوتر الغبي طوال فترة ما بعد الظهر، أو من تلك التي أرادت منه أن يساعدها في الحديقة، ومن يعرف ما الذي قاله لها "فيكتور" أيضًا. جاءت وجرَّت خلفها رجلًا غريبًا إلى هنا، مسكين، ربما يحب "هانا"، كأنها تجره خلفها بحبل، كما تفعل دائمًا مع كل الرجال الطيبين. ما الذي تظنه؟ هل تظن أنها ستأتي إلى هنا، وستتشاجر معها أمام رجل غريب؟ وما السبب الذي سيجعلها تتشاجر؟ على أي شيء، لا يمكنها أن تقول كلمة واحدة ضد الطريقة التي تعاملت بها "إيفا" مع "فيكي"؛ فهذه المرة لم يسرقه منها أحد، ولم يشكك فيها أحد، لقد شككت هي في نفسها عندما تركته هنا، ولن ينجح الأمر أبدًا إذا كانت "هانا" تأتي إلى هنا، وتفعل ما فعلته. إنه سيعيش هنا وفقًا لقواعدها هي، وليس وفقًا لقواعد "هانكا"، إذا كانت لديها أي قواعد. وإذا لم تحترم هذا، فلن يكون لها أي فائدة هنا، وسينتهي الأمر مع "فيكي" نهايةً سيئة. وإذا اعتقد "فيكي" أنه في كل مرة سيشتكي فيها، ستأتي أمه لتسوية الأمر، فلن يكون بوسعها أن تفعل أي شيء حيال ذلك، لكن عليها أن تصر على بعض الأشياء وهي على حق. وإذا كان هناك من يعتقد أنها ستتصل حقًّا بشخص ما ليحل مشكلة الإنترنت، ويجعله يعمل في الطابق العلوي أيضًا، فهو مخطئ، وإذا لم يحاول "فيكي" أن يُحسِّن من سلوكه، فيمكنها أيضًا إلغاء اشتراك الإنترنت تمامًا، فهي لا تحتاج إليه كثيرًا. نامت "إيفا" أخيرًا.
دق المنبه، استيقظت بصعوبة، أعدت فطيرة التفاح، و"كيش" السبانخ مع جبن الماعز، في هدوء؛ فقد كان الرجل الذي لا تعرف اسمه لا يزال نائمًا في غرفة المعيشة المجاورة، حيث أغلقتْ عليه الباب، هناك الكثير من رجال "هانكا" لا تعرف أسماءهم، ولا تعرف حتى لقب والد "فيكتور"، وإلا كانت منحته لقبه في ذلك الوقت، لكن "هانكا" لم تخبرها بذلك، ولم تُخبر حتى "يندرشيخ"، كانت تعلم أنهما لن يتركا الأمر هكذا. ربما يُمكنها أن تصرح به الآن، وربما "فيكتور" أيضًا يعرف الاسم، لكن لم يعد الأمر مهمًّا، فهو لم يكن شخصًا محترمًا، ولن تسامحه "إيفا" أبدًا على الطريقة التي كان يتصرف بها.
قالت "هانا" بصوت منخفض:
- مرحبًا.
- صباح الخير.
- إذًا ماذا حدث؟
- قلتُ له فقط إنه بعد الآن لن يلعب على الكمبيوتر بعد العشاء. لا أعتقد أن هذا شيء يستحق أن تأتي إلى هنا من أجله.
- أمي، لقد تقيأ.
- حسنًا، وهذا أيضًا عامل نفسي.
- لهذا السبب جئتُ، فأنا أعلم ذلك. هذا يعني أنه ليس على ما يرام.
- لأني أردته أن يأكل شيئًا طبيعيًّا، وألَّا يجلس إلى الكمبيوتر طوال الوقت.
- أمي، اعتقدتُ أننا اتفقنا على شيء ما.
- وهل تعتقدين أني بذلك أعذبه أم ماذا؟
- إنه لم يعد صغيرًا، لم يعد هذا الولد الصغير الذي اعتاد أن يأتي إلى هنا لرؤيتك. إن الأمر معقد له أيضًا.
- وأنا أعلم ذلك.
- لذا لا تُجبريه على تناول أطعمةٍ لا يأكلها.
- لكن الأمر لا يتعلق بالطعام، بل يتعلق بالاحترام، الذي لا تعرفينه لا أنتِ ولا هو. ماذا ستفعلين الآن؟ هل ستأخذينه بعيدًا، أم في كل مرة سيشتكي لكِ، ستأتين إلى هنا ليلًا، وتشرحين لي كيف أني لا أعرفه، وكيف أني أنا المخطئة؟
- أمي، أنا لم أقل ذلك.
- إذًا، فلماذا جئتِ إلى هنا في منتصف الليل مع هذا الشخص، الذي حتى لم تقدميه إليَّ؟
- من فضلك يا أمي، إن "هونزا" فقط زميل.
- حسنًا، كما تحبين.
- ماذا تقصدين؟
- لا شيء.