تغير الدلالة ودينامية الجماعة اللغوية: نحو معجم ذهني نموذجي

الباحث في التراث اللغوي المعجمي العربي منه والإسلامي يحتاج إلى آليات معرفية وتاريخية تمكنه من وضع الكلمة في إطارها السياقي والتاريخي للوصول إلى فهم صحيح لدلالة الكلمة المقصودة.

تقديم

لا شك أن محاولة وضع معجم ذهني شامل، تكون فيه العلامات اللغوية قادرة على ربط الدلالة التصورية بالمرجع دون إغفال دينامية الجماعة اللغوية، أمر صعب وشاق على باحث واحد، إلا أن وضع جزء من هذا المعجم يكون على صعيد البحث الفردي قابلا للتحقق والإنجاز، وعلى هذا الأساس فإن المستوى الدلالي الثابت في التراث المعجمي يكمن في الدلالة المركزية التي تندرج بالأساس تحت دلالات مادية محسوسة صقلها الاستعمال المكثف لتُكَون القاعدة المعجمية، والوقوف عند تلك الدلالات يقتضي الإلمام بالدلالة القديمة منها والجديدة للكلمة الواحدة.

ويُذكَر هنا أن الدلالة الجديدة تنتقل في الغالب الأعم من دلالة ثانوية هامشية إلى دلالة رئيسية مركزية عن طريق الاستعمال اللغوي (Sprachgebrauch) الذي يصل بالدلالة إلى مرحلة التداول والممعجمة (Lexikalisierung).

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو:

كيف يمكننا توظيف تغير الدلالة في تأليف معجم عربي نموذجي؟

تغير الدلالة ودينامية الجماعة اللغوية: إن حيوية اللغة لا تعكس فقط دينامية الجماعة اللغوية، بل تعكس أيضا وبشكل واضح تصوراتنا الذهنية بمختلف بنياتها المعرفية، وهكذا فإن توظيف تغير الدلالة (Bedeutungswandel) داخل الجماعة اللغوية (Sprachgemeinschaft) في إطار معجم نموذجي تنتج عن تفاعل عناصر لغوية مع عناصر خارج لغوية تساهم كلها في تغير اللغة (Sprachwandel) التي يُراد تدوينُها على شكل معجم ورقي أو رقمي.

ومن هنا، فإن العناصر المؤثرة في تغير الدلالة تكون خاضعة لأنظمة دقيقة تتداخل فيها علاقات ترابطية نفسية بأخرى اجتماعية وجغرافية ودينية إلخ. وتَكون بذلك اللغة الطبيعية بهذا المعنى بعيدة عن الجمود، على الرغم مِن أَنَّ تغيرها قد يبدو بطيئًا أحيانا، إلا أن واقع اللغة وتغير دلالات كلماتها يبقى متأثرا بعوامل لغوية وخارج لغوية تتفاعل بعضها مع بعض في إطار زماني ومكاني.

وفي سياق تغير الدلالة تفيدنا نظرية كيلر، التي سماها بنظرية الممرات الضيقة، في العمليات الآتية: "تُشكل نظرية الممرات الضيقة شبكة عبر الغابة فهي من جهة اقتصادية بمعنى أنها مختصرة وذكية، ومن جهة أخرى تشي بتفكير جيد. فهذه الممرات الضيقة أفضل من تلك المُعَبَّدة التي أشرف على إنشائها مهندسون مختصون." [1]انظر  كيلر (2003، ص. 100) بمعنى أن كثرة الاستعمال اللغوي يؤثر في دلالات الكلمات كتأثير سير الناس اليومي عبر الحدائق والغابات إلى أن تنشأ ممرات ضيقة، غير أنها مختصرة وعملية بالمقارنة مع الممرات والطرق المُعَبَدة. وتُذكرنا هذه الممرات الضيقة بالتركيب اللفظي (الطريق المستتب) الذي ورد في المعاجم العربية التراثية، والفعل هنا هو استتب الذي انتقل من دلالة حسية أصلية إلى دلالة مجردة، وحول هذين الدلالتين يكتب ابن منظور: "اسْتَتَبَّ الأَمرُ تَهَيَّأً واسْتَوَى واسْتَتَبَّ أَمْرُ فلان إِذا اطَّرَد واسْتَقامَ وتَبَيَّنَ وأَصل هذا من الطَّرِيق المُسْتَتِبِّ وهو الذي خَدَّ فيه السَّيَّارةُ خُدُودا وشَرَكا فوَضَح واسْتَبانَ لمن يَسْلُكه كأَنه تُبِّبَ من كثرة الوطءِ وقُشِرَ وَجْهُه فصار مَلْحُوبا بَيِّنا من جَماعةِ ما حَوالَيْهِ من الأَرض فَشُبِّهَ الأَمرُ الواضِحُ البَيِّنُ المُسْتَقِيمُ به". انظر لسان العرب (ج. 1/ص. 226) ونستفيد من تعريف ابن منظور لفعل استتب أمور رئيسية ثلاثة يمكن تلخيصها كالآتي:

يقدم التعريف، وبصورة لسانية دقيقة، انتقال فعل استتب من دلالة حسية مُشاهَدة إلى دلالة مجردة.

يُظهِر التعريف فهم القدامى العميق لظاهرة تغير الدلالة، وذلك عند ربطهم الدلالة المجردة الجديدة بالدلالة الحسية الأصلية.

يزودنا التعريف بتركيب لفظي (الطريق المستتب) الذي يمثل جوهر العديد من النظريات اللسانية الحديثة المهتمة بظاهرة تغير الدلالة.

وبناء على تعريف ابن منظور للتركيبين اللفظيين الطريق المستتب والأمر المستتب يمكن رسم صورة جشطالتية تُظهِر عناصر الالتقاء والافتراق على النحو الآتي:

يكون التركيب اللفظي الطريق المستتب في علاقة تشابه مع التركيب الممرات الضيقة، وذلك بكثرة الوطء (المشي) في التركيب الأول وكثافة الاستعمال اللغوي في التركيب الثاني. وعليه فإن الدلالة الحسية لكل من الطريق المستتب والممرات الضيقة تتراجع إلى خلفية الصورة، بخلاف الدلالة المجردة فإنها تأخذ مكانها على واجهة الصورة على شكل تراكيب لفظية من أمر مستتب ودلالة مُمَعجمة تستقر في الثروة اللغوية داخل الجماعة اللغوية.

ونُنبه في هذا السياق إلى أن نظرية الممرات الضيقة أو الطريق المستتب تُقَدم لنا فقط تفسيرا يتعلق بنشوء تغير الدلالة المعجمي، غير أن النظرية المعرفية النفسية تَصِل معارف ذهنية بأخرى خارج لغوية تتفاعل بعضها مع بعض في إطار كثافة الاستعمال اللغوي، بحيث أن ظاهرة تغير الدلالة تطفو على سطح المعجم على شكل أنواع ترابطية معرفية؛ وبناء عليه يجب على كل مهتم بالتأليف المعجمي أن يوازن بين المعجم الذهني وبين الموروث اللغوي عند قيامه بجمع المادة المعجمية، وذلك انطلاقا من دينامية الوحدة المعجمية ضمن الجماعة اللغوية؛ وفي هذا السياق "يُعد المعجم في اللسانيات الحديثة بمثابة مكان إلتقاء التكوين البنيوي الشكلي والموضوعي، وترتبط فيه المعلومات الفونولوجية والمورفولوجية والتركيبية والدلالية بعضها ببعض". انظر شفارتس ( 2008، ص. 105)

ويضاف إلى ذلك اهتمام المعجم الحديث بظاهرة تغير الدلالة، أي أن المادة المعجمية لا تستند فقط إلى جمع الكلمات وشروحها من معاجم أخرى، بل يكون فيها تسجيل ظاهرة تغير الدلالة دعامة رئيسية، بحيث لا يجب إغفالها بأي حال من الأحوال وإلا فَقَدَ المعجم قيمته العلمية، وأصبح بذلك بعيدا عن الواقع اللغوي للجماعة اللغوية. ورغم تحديث المادة المعجمية يبقى التأليف المعجمي في حاجة إلى إخضاعه للمعجم الذهني، لأن "المعجم الذهني لا يتكون من تَجَمُّع اعتباطي للمداخل المعجمية، ولكنه يتوفر على نظام ذاتي مُهَيكَل، بحيث يتم فيه تعريف كل مدخل بحسب قيمته وبحسب علاقته بباقي المداخل المعجمية. وعلى هذا الأساس يتم تخزين الوحدات المعجمية على شكل علاقات منظمة". انظر شفارتس (2008، ص 156-157).

وتكمن أهمية المعجم الذهني أيضا في الجمع بين معارف ذهنية وأخرى خارج لغوية، فعند نشوء تغير الدلالة المعجمي نستطيع، بفضل النموذج السيميائي الخماسي، تحديد تموقع الوحدة الدلالية على مستوى السيماتي في اللغة المفردة، وذلك عندما تصبح العلامة اللغوية حاملة لمعارف معجمية في اللغة المفردة، وحينها تلتقي الدلالة التصورية بالمرجع خارج لغوي. وترجع قيمة المعجم الذهني في التأليف المعجمي أيضا إلى دينامية الوحدة الدلالية المتموقعة بين معارف إدراكية ذهنية وبين مرجع خارج لغوي الذي يُحوَّل إلى علامة لغوية، إذ تفيدنا النظرية المعرفية النفسية في تَتَبع عملية تغير الدلالة ورصدها ثم تحديد تمركُزِها في المعجم الذهني للإنسان. ولهذا السبب "يُعتبر النسق المعرفي الدلالي نسقا تقاطعيا تلتقي فيه التمثيلات اللغوية بالتمثيلات التصورية". انظر شفارتس (2008، ص 59).

وعندها تُمثل نقطة التقاطع المذكورة مستويات التفاعلات السيميائية بجميع مكوناتها. وهكذا فإن آليات المعجم الذهني وتفاعلها مع الواقع خارج لغوي تستطيع أن تُقَدم لنا شرحا مفصلا لعملية تغير الدلالة المعجمي للوحدة الدلالية بين الواقع اللغوي والمعجم الذهني للإنسان.

وعند وجود كلمات صعبة أو ذات دلالات مجازية أو مستعارة جديدة يتوقع القارئ عونًا من المعجم. وفي هذا الصدد تُعد قضية الوسائل المُتَّبَعة في شرح دلالة الكلمات وتوخي الوضوح والسهولة والتبسيط من أهم مبادئ الصناعة المعجمية الحديثة، ولأن الكلمات المخزنة في ذاكرة الجماعة اللغوية الذهنية تعرف دينامية دلالية مستمرة، فإن المادة المعجمية الدائرة على ألسن وأقلام أفراد الجماعة اللغوية تكون أيضا في دينامية، وتتفاوت هذه الدينامية بحسب كل مكون من مكونات اللغة الإنسانية، وذلك عندما "يختلف كل من النحو والفونولوجيا عن المعجم، لأن هذا الأخير يمثل جزءا مفتوحا داخل نسق اللغة". انظر فانتسيك (2010، ص 16).

ومعنى هذا أننا حين ننتهي من شرح الكلمة دلاليا على المستوى المعجمي، لا يستطيع القارئ القول إنه وصل إلى فهم دلالة الكلمة المركزية، لأنَّ الوصول إلى هذه الدلالة يتطلب وجود الإطار المُحدد بعنصرَيْ السياق والمقام. وهذا الإطار ضروري لفهم دلالة الكلمة المقصودة، وكلما كان الإطار أكثر تفصيلًا كانت الدلالة المركزية أكثر دقة ووضوحًا بما يجليها من القرائن المقالية التي تدخل في وصف المقام، بالإضافة إلى القرائن الحالية التاريخية، "فبدون مراعاة الفترة التاريخية، يكون من الحكم على اختيار المتكلم كلمة دون غيرها صعبا". انظر فانتسيك (2010، ص. 12)

وعلى هذا الأساس يلعب السياق التاريخي والمقامي دورا حاسما في فهم دلالة الكلمات فهما صحيحا، فالذين يقرأون التراث العربي الإسلامي لا يمكن فهمه فهما صحيحا بدون ربطه بعوامل تاريخية وسياسية ودينية، فضلا عن ربطه بسنن العربية، فمثلا: تسمية مروان بن محمد الحاكم الأموي بمروان الحمار، وأن كاتب أو راوية لا يجد في هذا الوصف غضاضة، لأن هذه التسمية لا يراد منها تنقيصا أو تحقيرا أو وصف الحاكم الأموي الأخير بالبلادة، لكن فهم الإطار التاريخي   وربطه بسنن العربية التي تستند إلى المعجم الإسلامي يكشفان عن الدلالة المقصودة. وفي هذا الصدد يكتب الزمخشري توضيحا لوصف مروان بن محمد بالحمار بقوله: "قيل لمروان بن محمد: مروان الحمار لأن بني مروان استكملت مائة عام على رأسه". انظر الزمخشري (ج. 1/ص. 7)

وترجع هذه التسمية إلى سنن العربية، حيث "سمت العرب سنة المائة من التاريخ سنة الحمار من حديث حمار عزير". انظر الزمخشري (ج. 1/ص. 7)

فتسمية حمار عزير لها مرجعية دينية المذكورة في سورة البقرة (آية: 259) والتي دخلت إلى كلام العرب وسننهم، وبناء على ذلك كان التعامل مع الكلمات الإسلامية يتطلب معارف موسوعية وإيحائية بسنن العربية ودراية لغوية بالمعجم العربي الإسلامي. وهكذا كان الوصول إلى الدلالة المركزية يتوقف على أسباب النزول وسنن العربية لهذه النصوص التراثية.

خلاصة

نحو معجم ذهني نموذجي: استطعنا مع القارئ الكريم، من خلال هذه المقالة اللسانية، الوصول إلى معجم نموذجي، وذلك عبر الممرات الضيقة المسؤولة عن تغير دلالات اللغة العربية الفصيحة، غير أنَّ الباحث في التراث اللغوي المعجمي العربي منه والإسلامي يحتاج إلى آليات معرفية وتاريخية تمكنه من وضع الكلمة في إطارها السياقي والتاريخي -دون إغفال دينامية المعجم الذهني في إطار الجماعة اللغوية- للوصول إلى فهم صحيح لدلالة الكلمة المقصودة، وبذلك يستطيع الباحث المعجمي تأليف معجم عربي نموذجي يوازن بين الموروث اللغوي وبين دينامية الجماعة اللغوية.

مراجع

القرآن الكريم رواية الإمام ورش

ابن منظور لسان العرب. الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، (1414 ه)عدد الأجزاء: 15

الزمخشري جار الله ربيع الأبرار. تحقيق: عبد الأمير مهنا. الناشر: مؤسسة الأعظمي للمطبوعات، (1412)

Blank A. (1997) Prinzipien des lexikalischenBedeutungswandelsamBeispiel der romanischenSprachen, Tübingen: Max Niemeyer Verlag

Heringer H. (2011) Texte analysieren und verstehen eine linguistische Einführung,Paderborn : Wilhelm Fink Verlag

Kleiber G. (1993) Prototypensemantik Eine Einführung, Tübingen: Narr Verlag.

Pafel J./ Reich I. (2016) Einführung in die SemantikGrundlagen -analysenTheorien, Stuttgart : Metzler VerlagRickheit G./Weiss S./Eikmeyer J. (2010) kognitive Linguistik Theorien, Modelle, Methoden, Tübingen und Basel: Francke Verlag

Keller R. (2003) Sprachwandel Von der unsichtbaren Hand in der Sprache ,Tübingen: Francke Verlag

Schwarz m. (2008) Einführung in die kognitive Linguistik, dritte, vollständig bearbeitete, Auflage. Tübingen und Basel: Francke verlagWanzeck C. (2010) Lexikologie Beschreibung von Wort und Wortschatzim Deutschen, Vandenhoeck & Ruprecht Verlag