جولة استكشافية في المعجم الذهني للعرب القدامى

ماهية المرجع خارج لغوي بين الدلالة التصورية والعلامة اللغوية: واقع الموروث المعجمي العربي وآفاق اللسانيات المعرفية النفسية الألمانية.
تقريب القارئ العربي من الموروث المعجمي العربي بنظرة جديدة

تقديم

إن الباحث اللساني في الموروث المعجمي العربي سَيَصْطَدِم بإشكالية معرفية جوهرية تندرج تحت صعوبة فهم كلام العرب القدامى، وذلك انطلاقا من تصورات ذهنية معاصرة ولعل هذا الأمر يرجع إلى النظرة القديمة الجديدة لِلُّغَة العربية التي تصطدم بحقيقة لسانية علمية مفادها: إن كل لغة حية فهي بالضرورة لغة دينامية، وأن دلالة العلامة اللغوية في اللغات الطبيعية تَعرِف تغيرا مستمرا يرتبط، في العملية التواصلية وفي أغراض إنسانية أخرى، بتغير الدلالات التصورية للإنسان وأيضا بتغير المرجع خارج لغوي. وفي هذا الصدد يمكن الحديث كذلك عن إشكالية أخرى ترتبط بالمنهج المُتَّبَع في الدرس اللساني العربي الحديث في فهم الموروث المعجمي العربي، وأيضا في كيفية تَناوُل الكثير من الظواهر اللغوية التي تدور في فَلَكِ تحليل العرب القدامى للغة العربية. ولِتجاوز مثل هذه المقاربات اللسانية، قمنا بدراسة لأهم الظواهر اللغوية المُختلَف فيها في الموروث المعجمي، وذلك استنادا إلى نظرية معرفية لسانية سيميائية متكاملة. وفي هذا الإطار سنعالج ماهية المرجع خارج لغوي وعلاقة هذا الأخير بالدلالة التصورية والعلامة اللغوية اعتمادا على مبدأ الجشطالت في اللسانيات المعرفية النفسية الألمانية. ونطرح السؤال الآتي:

ما هي الآليات اللسانية المعرفية القادرة على الجمع بين المرجع خارج لغوي وبين كل من الدلالة التصورية والعلامة اللغوية؟

علاقة المرجع خارج لغوي بكل من الدلالة التصورية والعلامة اللغوية:

تهدِف هذه المقالة اللسانية إلى رصد العمليات الترابطية النفسية المسؤولة عن دينامية المرجع خارج لغوي بين الدلالة التصورية والعلامة اللغوية في الموروث المعجمي العربي وفق معالجة لسانية جديدة تروم الموضوعية العلمية في فهم الكثير من الظواهر اللغوية في تراثنا اللغوي الضخم.

وعلى هذا الاعتبار فإن الأرضية اللسانية المعرفية في هذه المقالة تقوم على أساس الجمع ثم التوفيق بين عناصر العالم المحيط بالإنسان العربي وبين لغته العربية وما تمتاز بها من خصائص تكوينية كلغة مفردة "Eizelsprache"، وبالأخص تلك الظواهر اللغوية التي تعرف تناقضا دلاليا ملحوظا. ولَمَّا كانت ظاهرة التَّماس الكنائي "metonymische Kontiguität" تتمحور حول افتراق كل من دلالة العلامة اللغوية "das sprachliche Zeichen" والدلالة التصورية "das Designat" في المعجم الذهني "dasmentale Lexikon" عند العرب القدامى، كان لزاما علينا الاستهلال في هذه المقالة بموضوع المرجع خارج لغوي "der außersprachliche Referent".

إن الباحث اللساني في الموروث المعجمي العربي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مفارقة إيبِستيمولوجية وأُنطولوجية "epistemologische und ontologische Paradoxie" مؤداها: إن فَهْمَنا للكثير من الظواهر اللغوية يبقى رهينا بنظرة العرب القدامى إلى اللغة العربية الفصيحة، غير أن الكثير من الظواهر اللغوية المستعصية في الموروث المعجمي العربي قد يماط عن خباياها الدلالية المعرفية النفسية اللثام بناءا على نظرية معرفية نفسية حديثة. ويُسَجَّل هنا أن التأثير المُتبادَل بين المرجع خارج لغوي المتمثل في كل من الدلالة التصورية والعلامة اللغوية نَكادُ نجدها في جل المناحي الحياتية، ذلك لأنها مُبَنْيَنَة "strukturiert" على أساس الدينامية الذي يحكم سير اللغات الطبيعية.

فمبدأ التماس الجشطالتي يوازن بين الموروث المعجمي العربي وبين ماهية المرجع خارج لغوي في تصورات العرب القدامى الذهنية مع أخذ بعين الاعتبار وظيفة وتَمَوقُع العلامة اللغوية في المعجم الذهني، "وفيما يتعلق بالمرجع هناك اتجاهان معرفيان: الأول يندرج تحت علم النفس والثاني تحت علم الاجتماع، فعلم النفس يوضح المرجع بناءا على الإمكانيات المعرفية والإدراكية للمتكلم، بمعنى أن المرجع يكون تابعا للفكر. أما علم الاجتماع فيتناول المرجع انطلاقا من تطبيق اجتماعي في استخدام التعابير، أي أن المرجع يكون مستقلا عن الفكر". انظر بافل/رايش (2016، ص. 8)

وعلى هذا الأساس فإن المرجع خارج لغوي، مثله مثل المعرفة الفونولوجية "das phonologische Wissen"، يمثل كيانا متحققا محسوسا "konkrete Entität" في العمليات الترابطية النفسية "assoziative Beziehungen"، بخلاف كل من الدلالة التصورية والعلامة اللغوية فإنهما يندرجان تحت كيان ذهني مجرد "abstrakte Entität". واستنادا إلى العلاقات الترابطية النفسية المذكورة فإن المتكلم العربي يُخَزّن في معجمه الذهني كلمات ووقائع وأحداث في إطارها الزماني المكاني وضمن علاقات ترابطية نفسية تتقاطع فيها معارف سماتية (الوحدة الدلالية) بأخرى معجمية (التصور الداخلي والخارجي للكلمة) وبثالثة خارج لغوية (معارف موسوعية ودلالات إيحائية)، غير أن العلامة اللغوية فَيُلْحِقُها بلانك (1997) بالمعرفة المعجمية "das lexikalische Wissen"، وذلك في علاقتها بالتعبير الإشاري "der Zeichenausdruck" أو بالمحتوى الإشاري "der Zeicheninhalt"، فَإدخال المرجع ضمن العمليات الترابطية النفسية في اللسانيات الحديثة يُعتبَر كقِيمة مضافة تَمَّ بفضلها تَجاوُز القصور الحاصل في النظرية البنيوية، لأن حسب سوسير فـ"إن الإشارة تربط بين المفهوم والصورة، أي أن الإشارة هي تمثيلل لأداء اللغوي، ويندرج تحت الأداء الفردي المتمثل في اللسان، إذ أن البنيوية تستبعد المرجع في تحليلاتها ولا تُقر بوجوده". انظر سوسير (1987، ص. 15)

وإذا دققنا النظر في التجربة البنيوية ومحاولتها تحليل دلالة العلامة اللغوية، فإننا سنجدها لم تكن قادرة على الإلمام بجميع المعطيات اللغوية، إذ بقيت سجينة لعلاقات عناصرها في إطار نسق كلي مغلق محايث "immanent"، إِنْ على صعيد اللسانيات ذات المنهجية النظرية، وإِنْ على صعيد اللسانيات التحليلية التطبيقية. وهذا ما دفع بعض اللسانيين، إما إلى التعمق في الأسس البنيوية السُّوسِيرية، وإما إلى أن يَشُقُّوا طريقا جديدا، تُعطَى فيه الأولوية إلى دراسة اللغة برؤية تتماشى مع العلوم المختلفة، فمنهم من ربط دراسته لِلُّغة بعلم الاجتماع، ومنهم من أدمج الأسس المعرفية النفسية في نظريته، وآخر حاول الاستفادة من أهم المكونات المنهجية والعلمية للدرس اللساني القديم منه والحديث ليُدْمِجها في نظريته، ثم تطويرها بالاستفادة من العلوم الطبيعية من جهة، وجعلها متماسكة وشاملة بتجاوز القصور الحاصل في مختلف النظريات اللسانية السابقة من جهة أخرى.

وفي هذا الصدد يركز الدرس اللساني المعرفي النفسي على الاهتمام بعلم الدلالة، ويعتبر الذهن مركز المعرفة، إذ تَتَحَدَّد فيه جميع العمليّات التصورية الذهنية المختلفة. ومن هذا المنطلق "يجب على علم الدلالة المعرفي أن يتوفر على الوحدات المعرفية التي يكون موضوعها العلاقات المرجعية والدلالات التصورية، بحيث تكون الوحدات المذكورة قابلة للدمج في المعرفة الموسوعية، والتي يمكن وصفها على أنها دلالة التعبير المقصودة. وهكذا تصبح كل من الدلالة والمرجع والدلالة التصورية مكونات رئيسية لعلم الدلالة المعرفي". [1]انظر ريكهايت/فايس/أيكماير (2010، ص. 50)، وعلاوة على ذلك فإن الاستفادة من علم الدلالة المعرفي بالإضافة إلى شمولية استخدام العنصر الكِنائي وارتباطه بالموقف السياقي ثم تموقعه في كيانات دلالية مفتوحة، تجعل المتخصص وغير المتخصص الاستعانة بالمعاجم العربية التراثية لفهم الأساليب العربية القائمة على دلالة تصورية التي تُحَوَّل إلى علامة لغوية دقيقة وواضحة يكون فيها المرجع خارج لغوي مؤطرا بعنصري التعبير الإشاري (الدال) والمحتوى الإشاري (المدلول)، وعندئذ تَظهَر إلى السطح معارف موسوعية دينامية تُمَكِّنُنا من الحكم على دلالة العلامة اللغوية الحقيقية وسبب الاختلاف الدلالي لنفس المرجع خارج لغوي الحاصل بين القبائل العربية. ويُذكر هنا أن الكناية ما هي إلا ظاهرة من ظواهر كثيرة تندرج تحت عملية تغير الدلالة، أما الدلالة التصورية فإنها في تغير دائم، وذلك بعلاقتها الترابطية بكل من المرجع الخارج اللغوي والعلامة اللغوية.

ويُضاف في هذا السياق، إلى جانب عوامل داخلية وخارجية مسؤولة عن تغير اللغة الإنسانية، وجود عوامل تتصل بالتفاعلات الموجودة في المعجم الذهني للإنسان، وخصوصا تفاعل الدلالة التصورية بالمرجع وما يَنتُج عن ذلك من تغير يلحق دلالة العلامة اللغوية. وفي ضوء تباين الدلالة للكلمة الواحدة بين القبائل العربية نجد كلمات، مثل: الماء العِدّ، حيث "قال أبوعدنان: سألت أبا عبيدة عن الماء العِدّ فقال لي: الماء العِدّ بلغة تميم: الكثير. قال: وهو بلغة بكر بن وائل: الماء القليل". انظر تهذيب اللغة (ج. 1/ص. 68)

ويُلاحَظ هنا أن فكرة تباين دلالة العلامة اللغوية للماء العِدّ بين الكثرة في لغة تميم وبين القلة في لغة بكر بن وائل تَرجع بالأساس إلى دلالتين تصوريتَين لنفس المرجع خارج لغوي، ويُصبح الإطار الكِنائي في اللغتَين هو موضع تجمع الماء، إلا أن تميم تَربِط موضع الماء العد بالكثرة بخلاف بكر بن وائل فَتَرْبِطه بالقلة، ويمكن فهم طرفي عنصر التماس القائم على دلالة العلام اللغوية (العد) المُحايدة انطلاقا من تعريف الخليل: "العِدُّ: مُجْتَمَعُ الماء وجمعه أعداد وهو ما يُعِدُّه الناس فالماء عَدُّ وموضع مُجْتَمَعِهِ عِدٌّ". انظر معجم العين (ج. 1/ص. 79)

وهكذا فإن دلالة الماء العد في اللغة العربية الفصيحة لا تدل على كثرة الماء أو قلته، ولكن دلالة الماء العِد الحقيقية ترتبط فقط بِمَوْضِع اجتماع الماء، غير أن صفة القلة أو الكثرة تَرجِع إلى معرفة موسوعية خارج لغوية جعلت الدلالة التصورية عند تميم تَربِط الماء العد بالكثرة بخلاف بكر بن وائل فتَربِط الماء العد بالقلة، فتماس الفضاء الكِنائي (الماء العد) هو بالأساس تماس لدلالتين تصوريتين لنفس المرجع، بمعنى أن الدلالة التصورية عند كل من تميم وبكر بن وائل تلتقي في موضع اجتماع الماء وتفترق في كمية هذا الماء الموجود إما كثرة أو قلة. فعنصر التماس، في البنية الجشطالتية الثُّلاثية، يَظهَر في حقول دلالية "Wortfelder" على مستوى المعرفة السيماتية في اللغة المفردة "das sememische Wissenin der Einzelsprache"، إلا أن العلامة اللغوية التي تَربِط التعبير الإشاري بالمحتوى الإشاري فَتَحْمِل دلالةَ المرجع الُمكَوَّن من كيان ثابت (موضِع تَجَمُّع الماء) يتماس مع آخر مُتَغيِّر يتمثل في كمية الماء. وفي هذا السياق "تُعَدُّ العلاقات الكنائية بمثابة المَعبر الذي من خلاله تنتقل العلامة اللغوية للدلالة التصورية إلى دلالة تصورية أخرى". انظر بلانك (1997، ص. 251)

فالكيان الكِنائي المذكور لا يُمثِّل، في اللغة العربية كلغة مفردة، فقط معبرا للدلالات التصورية ولكنه يُؤثِّر أيضا في الدلالات المذكورة بحسب ماهية المرجع خارج لغوي وبحسب المَعارِف الموسوعية، وانطلاقا من العناصر المتحققة المحسوسة والأخرى الذهنية المجردة فإن الفضاء الجغرافي لتجمع الماء يَبرُز في واجِهة الصورة الجشطالتية التي تتقاطع فيه دلالتان تصوريتان على أساس تماسي ثابت، أما على الخلفية فَتُصبح الدلالتان المذكورتان في علاقة تباينية مؤَطَّرة بمحتوى المرجع خارج لغوي المتمثل في المعرفة الموسوعية حول كمية الماء.

وعلى هذا الاعتبار فإننا استطعنا مع القارئ الكريم تَجاوُز إشكالية المفارقات الإيبِستيموموجية والأُنطولوجية في فهم كلام العرب المثبت في المعاجم العربية التراثية (للتوسع في هذا الموضوع يُرجى الرجوع إلى مقالتنا في هذه المجلة بعنوان: إشكالية الأضداد).

خلاصة

آفاق اللسانيات المعرفية النفسية الألمانية في واقع الموروث المعجمي العربي: قمنا مع القارئ الكريم، من خلال هذه المقالة اللسانية العلمية، بجولة استكشافية في المعجم الذهني للعرب القدامى للخروج من المتاهة الدلالية بين القبائل العربية، فالفهم الصحيح لِماهية المرجع خارج لغوي وعلاقة هذا الأخير بكل من الدلالة التصورية والعلامة اللغوية، يُعتبر كَمِفتاح منهجي ضروري للولوج إلى المسالك المعرفية الذهنية المتعلقة بالعلاقات الترابطية النفسية المسؤولة عن ظاهرة تماس الدلالات التصورية لنفس المرجع خارج لغوي وبنفس دلالة العلامة اللغوية.

وبناءا عليه استطعنا، بفضل اللسانيات المعرفية النفسية الجشطالتية، الوصول إلى خلاصة مفادها: إن الكثير من اختلاف دلالات العلامات اللغوية في الموروث المعجمي العربي منبثق من اختلاف تصورات الإنسان العربي الذهنية لنفس المرجع خارج لغوي، بحيث أن وجود مثل هذه الاختلافات اللغوية لا تَحْدُث إلا بوجود اختلافات في التصور الذهني للعالم خارج لغوي.

ملاحظة عامة: حاول صاحب هذه المقالة بترجمة أهم الأسس اللسانية المعرفية النفسية الألمانية ثم الاستفادة منها لتقريب القرئ العربي الكريم من موروثنا المعجمي العربي بنظرة جديدة.

مراجع:

•      أحمد بن الخليل الفراهيدي معجم العين. تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي. الناشر: مكتبة الهلال، بيروت، (2003) عدد الأجزاء: 8

•      فرديناند دي سوسير: محاضرات في علم اللسان العام. ترجمة: عبد القادر قنيني. الناشر: أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، (1987)

•      الأزهري تهذيب اللغة. تحقيق: محمد عوض مرعب. الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (2001) عدد الأجزاء: 15

•      مودن إبراهيم: إشكالية الأضداد ودينامية التصور الذهني العربي وجدليته: منهجية لسانية جديدة لفهم الظواهر اللغوية العربية المستعصية

•      Blank A. (2001) Einführung in die lexikalische Semantik für Romanisten، Tübingen: Max Niemeyer Verlag.

•      Blank A. (1997) Prinzipien des lexikalischen Bedeutungswandels am Beispiel der romanischen Sprachen، Tübingen: Max Niemeyer Verlag

•      Bußmann H. (2002) Lexikon der Sprachwissenschaft، 3، aktualisierte und erweiterte Auflage. Stuttgart: Alfred Kröner Verlag.•

•      Drescher M. (2003) sprachliche Affektivität، Tübingen: Max Niemeyer Verlag.

•      Fritz G. (2005) Einführung in die historische Semantik، Tübingen: Max Niemeyer Verlag. بافل/رايش

•      Pafel J./ Reich I. (2016) Einführung in die Semantik Grundlagen -analysen Theorien، Stuttgart: Metzler Verlag