هل تغطي الومضات الإعلانية على الإخفاق الدرامي في تونس

خلق حاجات وهمية حتى وإن كانت بوسائل لا تنسجم مع الواقع يكشف عن تحول الإعلان إلى المتحكم الخفي في مضامين القنوات التلفزيونية وتوجهاتها.
المشاهد التونسي فريسة غياب الأعمال الفنية وسطحية الإعلانات

تجلس العائلة التونسية حول مائدة عامرة بما لذ وطاب من الأطعمة والمقبلات انتظارا لآذان المغرب، ويحرص كل فرد من أفرادها على أن تكون زاوية جلوسه مناسبة لمشاهدة التلفزيون حتى يحظى بوليمة كبيرة من المشاهد المجهزة أساسا للعرض في شهر رمضان.

وتستثمر وكالات وشركات الإعلان هذا الحضور الاستثنائي للعائلات أمام الشاشة الصغيرة لتطل عليهم بسلسلة من الومضات الإعلانية حيثما ولوا وجهتهم، إذ لا تخلو قناة من القنوات من الإعلانات.

ويكثف المعلنون والقائمون على هذه الصناعة من موادهم الإعلانية عاما بعد آخر رغم إدراكهم لميراثهم السلبي مع المشاهدين، بسبب إصرارهم على استفزازهم بإطالة أمد الإعلانات في كل مسلسل وتكرار الفواصل ما يدفع للملل في أحيان كثيرة من مواصلة متابعة العمل الدرامي الذي غالبا ما يفقد جاذبيته.

ومع ذلك هذه الومضات الإعلانية التي كثيرا ما يجد فيها المشاهد فرصة لرفع المائدة أو إعداد القهوة أو غسل المواعين، أعطيت مساحة أكبر في السنوات الأخيرة على مختلف القنوات التونسية سواء الحكومية أو الخاصة غذاها كساد الإنتاج الدرامي الذي عرف تراجعا وصل حد مشاركة عملين دراميين فقط هذا العام، إلى جانب عدد قليل من السيتكومات.

هذا الكساد ساهم في إنعاش السوق الإعلانية وألهب التنافس المحموم بين مختلف الشركات التي تسعى للخلق والإبداع من أجل تعزيز أداتها الاتصالية التي تتخذ من الشهر الفضيل مناسبة لتسويق منتوجاتها، وهو ما تعكسه تخمة المادة الإعلانية المقدمة هذا العام.

ويقول الدكتور الطيب الطويلي المختص التونسي في علم الاجتماع إن قدوم شهر رمضان يُحدث ديناميكية اجتماعية ويغير النمط اليومي للأفراد والمجتمع التونسي عامة.

ويشير في حديثه لموقع "ميدل إيست أونلاين" إلى أنه "رغم الطفرة الكبيرة لوسائل التواصل الاجتماعي التي افتكت من التلفزيون مكانته وسلبت منه أدواره الإعلامية والترفيهية والتأثيرية، إلا أن رمضان يبقى شهر التلفاز بامتياز، حيث تمثل المسلسلات التونسية عادة رمضانية، وتتحول الأعمال التلفزيونية في هذا الشهر إلى محدد لسلوكيات التونسي على المستوى الاستهلاكي وعلى مستوى تعامله مع الآخر".

ويرى أنه "مع اتجاه التلفزيون إلى الخوصصة صار الهدف من الإنتاجات السمعية البصرية هو تحقيق الكسب المادي الضامن لاستمرارية المؤسسة، ولهذا فإن مختلف الإنتاجات تهدف إلى الربح المادي الذي يمثل الإعلان مورده الرئيسي".

ويظهر من التخمة الإعلانية التي فاقت في عددها ما تم إنتاجه من أعمال فنية هذا العام أن الإعلان أصبح محركا اقتصاديا مهما بوصفه أهم مصدر لتمويل وسائل الإعلام السمعية والبصرية وضمان استمراريتها في تونس، لاسيما في ظل الصعوبات المادية التي تمر بها جل القنوات سواء الحكومية أو الخاصة.

ويلفت الطيب الطويلي إلى أنه "في غياب الإعلان ستغيب الأعمال التلفزيونية، فالمسلسلات التي تعرض على القنوات الخاصة تقوم أساسا من أجل الإعلان أي أنه هو المحدد لوجود الأعمال الفنية من عدمه".

والإعلان هو عملية اتصال إقناعي تهدف إلى نقل التأثير عبر رسالة إعلانية من معلن إلى مستهلك لإثارة دوافعه لشراء منتج، أو استعمال خدمة، لذلك تحرص الشركات على تقديم مادة إعلانية جاذبة.

ويقول الشيخ بدري المدني باحث تونسي في الفكر الإسلامي لموقع "ميدل إيست أونلاين" إن "التسويق لغة العصر اليوم، فنحن نعيش في مجتمع استهلاكي وأيضا تنافسي يحتاج لهذه العملية الإعلانية في حياة الناس - وهذا طبعا موجود من زمان - لأن كل صاحب منتوج يحاول بيع منتوجه وتسويقه وتسهيل عملية انتشاره وإلى غير ذلك، وذلك بوسائل متعددة ومختلفة، حيث أننا كل يوم نشهد وسيلة جديدة".

ولا تخرج الأفكار الإعلانية بسهولة كما يراها المستهلك، وإنما خلفها عمل كثير، إلى جانب الميزانية الكبيرة التي تخصص لها، لذلك تحاول الشركات قدر الإمكان تقديم رسالة مسؤولة قادرة على شد المشاهد التونسي.

وبحسب  الطيب الطويلي، فإن "الومضات الإعلانية تحولت إلى أعمال فنية فائقة الجودة، فالإعلان هو فن خلق الطلب"، مضيفا أن "الإعلان يعتمد دعامات فنية جمالية تهدف إلى التأثير في نفس المتلقي، وذلك عبر استحضار بعض الأقوال الراسخة في الذهنية التونسية وتركيب ألحان أخرى تقليدية أو حديثة على طريقة التيك توك".

ويتابع "الإعلان يعيد إنتاج التجارب الفنية الخفيفة والناجحة والتي يمكنها أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من المستهلكين بفئاتهم المختلفة، كما يطمح المعلن إلى أن تتردد على الألسن وتتحول إلى نشيد وقتي بين الناس من أجل تحقيق الغرض الأساسي المتمثل في جلب المتلقي وترغيبه في سلعته".

إلا أن هناك من يرى أن في تخصيص مساحات كبيرة للإعلانات على القنوات التونسية مغامرة غير مضمونة بسبب ما قد يصيب المشاهدين من ملل حتى وإن كان الهدف من ذلك التغطية على الإخفاق في تقديم إنتاج درامي.

تفوقت المدة الزمنية للإعلان في بعض الأحيان على زمن المسلسل نفسه، وهو ما يعد انتصارا إنتاجيا، وفقا للمختص التونسي في علم الاجتماع، مشيرا إلى أن صانعي الإعلان يعرفون سلوك المتفرج، فهو غالبا ما يعمد إلى تغيير القناة أثناء تمرير الومضات لهذا فهم يعتمدون الكثافة، من خلال تنويع قنوات العرض وبذلك يمكن مشاهدة نفس الومضة الإعلانية في أكثر من قناة في نفس التوقيت، بالإضافة إلى الاعتماد على الإبهار السمعي البصري لجذب أكبر عدد ممكن من المتفرجين ومنعهم من تغيير المحطة".

ويبدو أن التونسي اضطر أمام كساد الإنتاج الدرامي إلى توجيه اهتمامه للومضات الإعلانية التي لم تكن بمنأى عن حسه النقدي، فبقطع النظر عن كم الإعلانات وتنوع أساليبها ومضامينها نجحت في الحصول على نصيبها من النقد.

وكان إعلان ظهرت فيه الممثلة رانيا التومي إلى جانب النجم ياسين بن قمرة لفائدة ماركة "بيولوكس" للأجهزة الكهرومنزلية يعرض على إحدى القنوات التونسية، أثار ضجة واسعة على الشبكات الاجتماعية، وذلك بسبب ما وصفه بعض النشطاء بأن مشاهده "غير لائقة بالقداسة الدينية لهذا الشهر".

لم يكن معهودا على الشاشات التونسية عرض إعلانات بهذه الجرأة التي لا تتفق مع الأسر المحافظة، حيث تضمنت الومضة ايحاءات جنسية مثيرة تتعارض مع الصبغة الدينية والروحية لهذا الشهر الفضيل الذي يجمع العائلة بشكل استثنائي أمام مائدة تلفزيونية واحدة قل نظيرها في بقية أشهر السنة.

ويوضح الشيخ بدري المدني لموقع "ميدل إيست أونلاين" أن "الإعلان يطل علينا اليوم بفضل التطور التكنولوجي حتى من هواتفنا المحمولة، لكن يبقى المهم في مضمون هذه الومضات، ففي ظل ظروف فكرية وخصوصيات مرتبطة أحيانا بالجانب الديني، فإن بعض الومضات قد يكون فيه ايحاءات جنسية أو ايحاءات أحيانا تتعارض مع الذوق العام ومع القيم الأخلاقية والدينية".

ويرى أن القضية في مجتمعنا المحافظ لا تتعلق بالومضة الإعلانية فحسب، بل لها علاقة بأي تظاهرة أو لقطة أو عمل إبداعي كالمسلسلات، الأغاني والبرامج وغير ذلك من الأعمال الفنية، إذ أن هناك دائما جدل حول ما يراه الناس بأنه ربما يخالف الذوق العام أو الدين الإسلامي أو ربما القيم التي تعود عليها الناس.

ويؤكد "لا يمكن أن نكون ضد الإعلان أو العمل الإبداعي، ولكن ما يزال جزء كبير من المجتمع التونسي محافظ، إذ ليس باستطاعة العائلة أن تشاهد مع بعضها البعض مسألة ربما قد تخدش الحياء أو تحرج جلوس الأبناء مع آبائهم أمام التلفزيون".

ويتابع "إذا كانت هذه الأعمال عادية، فالجميع يكون في سلم وسلام، ولكن يصير نوع من الجدال في حالة ما إذا كان هناك ما يخالف الذوق العام"، قائلا "نحن نحث دائما وأبدا على مراجعة الأفكار والأعمال والومضات والمسلسلات التي يتم تقديمها".

العمل الإبداعي يحتوي على فكرة وفيه استثمار، فهو مشروع لتوجيه الناس نحو منتوج معين، لكن يمكن أن نتجنب مسألة أن يكون مخالفا للذوق العام، خصوصا أن بعض المنتجين يبررون ما يقدمونه على أنه حرية إبداعية، وفقا للشيخ بدري المدني.

وتكمن أزمة الإعلانات المثيرة للجدل في أنه تجري إعادة بثها في اليوم الواحد أكثر من مرة، أي أنها ترسخ في أذهان الناشئة بكل تفاصيلها وبما تتضمنه من عبارات ومشاهد، ومن الطبيعي أن تجد فئة من الصغار تقوم بتقليد ومحاكاة الإعلان بشكل لاإرادي.

ويشدد الشيخ بدري المدني لموقع "ميدل إيست أونلاين" على أن "الحرية مكفولة شرعا وقانونا ودستورا وأيضا فطرة فالناس أحرار، لكن لا يجب أن تفهم كون الحرية هي أن نتجاوز القيم والذوق العام ولا يجب أن تتحول الحرية إلى تسيب وتهور وضرب للقيم والروابط الأسرية والقيم الأخلاقية بصفة عامة".

وقدم الباحث التونسي في الفكر الإسلامي مثالا عن النمط الذي كان متبعا في القديم، قائلا "كان هناك من يبيع مجموعة متنوعة من الملابس بينها ما يسمى بالخمار، فلما كسدت تجارته جاءه شاعر ونظم له قصيدة جاء فيها "قل للمليحة في الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك متعبد"، فكانت هذه القصيدة وسيلة تسويق لمنتوج معين في ظرف زمني قديم.

ووفقا للبعض فإن، تطور ثقافة الإعلانات له انعكاس واضح للتغير الحاصل في المجتمع، من حيث الرفاهية والتحرر من العادات والتقاليد القديمة التي يرفضها الجيل الحالي.

ويبدو أن وكالات وشركات الإعلان تفطنت لهذا التحول في الرؤى والبحث عن بدائل، فحولت انتباهها نحو اهتمامات الجيل الأصغر سنا دون أن تهمل رغبات وتطلعات الكبار، حيث وجدت في تطبيق تيك توك والعالم الافتراضي وتقنيات الذكاء الاصطناعي وكذلك الفلكلور الشعبي ضالتها، إذ تنوعت الأفكار المستوحاة من كل هذه العوالم إلا أنها بدت لبعض المشاهدين التونسيين ومضات إعلانية غير هادفة، مملة ومستفزة.

ويرتبط تحفظ الجمهور على كثير من الإعلانات الرمضانية بأن أفكارها تأتي سطحية، حيث تشترك أغلب الومضات خاصة المتعلقة بالترويج للمواد الغذائية في أنها اعتمدت على أغنيات بلا قيمة أو معنى هادف، مع بعض الرقصات التي يؤديها مشاركون في الفقرة الإعلانية، بالإضافة إلى التركيز على سحر الألوان.

وفي الوقت الذي بدت فيه النسبة الأكبر من الإعلانات بلا أفكار واضحة، كشف تنافس شركات الاتصالات على تقديم ومضات إعلانية متنوعة في مضامينها حتى أن من بينها من دخل السباق الرمضاني هذا العام بأكثر من مادة إعلانية عن ثقافة التونسي الاستهلاكية للإنترنت.

ولا يعد ذلك جديدا على تونس بوصفها أول دولة أفريقية وعربية تتصل بالإنترنت في العام 1991، كما أنها الدولة الثالثة عربيا والثانية أفريقيا والـ31 عالميا في معدل انتشار الإنترنت بـ46.16 في المئة في العام 2014، ويرجح أن تكون هذه النسبة شهدت نسقا تصاعديا خلال السنوات الأخيرة بشكل لافت.

ويقول الطيب الطويلي في حديثه لموقع "ميدل إيست أونلاين" "لقد شهد التونسيون تغييرات في بنية الثقافة الاستهلاكية".

ويكشف ترويض الناس على الاستهلاك وخلق حاجات وهمية حتى وإن كانت بوسائل لا تنسجم مع الواقع عن تحول الإعلانات إلى المتحكم الخفي في مضامين القنوات التلفزيونية وتوجهاتها، نظرا للنفوذ الاقتصادي الذي صارت تتمتع به.

ووفقا للمختص التونسي في علم الاجتماع، فإن "ثقافة الإعلان التي تسود في رمضان عبر الومضات والوصلات الإعلانية تزيد في إرساء الرغبة في الاستهلاك لدى التونسي رغم الضائقة، فمجتمعنا اليوم هو مجتمع الصورة، حيث يأخذ التلفزيون حيزا كبيرا من اهتمامات الفرد ويسهم في تكوين وعيه المجتمعي والاقتصادي سواء بالسلب أو بالإيجاب".