"أحلام الأفق الغائم" سرد يراوغ الواقع

سهير شكري تتناول في مجموعتها القصصية كثيرا من قضايا الحياة وتأزماتها المختلفة.
سهير شكري تستفيد من خبرتها كفنانة تشكيلية في رسم صور موحية بكل ما تريد دون تصريح تام مستبدلة فرشاتها بالقلم
الكاتبة تستخدم تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك مرات عدة لتلوين الحاضر المأزوم

"أحلام الأفق الغائم"، مجموعة قصصية للقاصة والفنانة التشكيلية سهير شكري، تتناول فيها كثيرا من قضايا الحياة وتأزماتها المختلفة. ولم تلجأ شكري إلى المباشرة في عرض هذه القضايا ونقدها للواقع، بل استخدمت بعض الحيل السردية، مثل التلميح والرمز والتصوير والإسقاط وغيرها من حيل تواري بها فكرها الرافض لما تراه من حولها، وفي الوقت نفسه، تتغلب بها علي المباشرة الفجة في الكتابة. ورغم حالة الرفض للواقع في قصص المجموعة، إلا أن صوت الكاتب هادئ، يؤمن بأن الكاتب لا يملك غير سلاح الكلمة، ليحارب به كل تشوهات الحاضر.
في "أحلام الأفق الغائم" استفادت الكاتبة سهير شكري من خبرتها كفنانة تشكيلية في رسم صور موحية بكل ما تريد دون تصريح تام مستبدلة فرشاتها بالقلم، وألوانها بالكلمات لترسم صورا وجدانية، وفي أحايين كثيرة أتت الصور لتشير إلي ارتباط الطبيعة بحالة الإنسان من فرح لتتشكل بألوان البهجة عند الفرح والقتامة عند الحزن. 
ويتجلي ذلك في العتبة الأولي، وهي عنوان المجموعة نفسها الذي لا يشير إلي قصة بعينها، ولكنه يشترك في دلالته مع أغلب القصص في كون الحلم أداة للتفاعل مع الواقع المأزوم، وفي كون الأفق صعب الوصول إليه، وحقيقة أن الأحلام مرتبطة بأفق قاتم مبهم مثل حياة الإنسان كأحجية عصية على الفهم والتصديق وعلى التفاعل العادل بما يوافق آمال وطموحات الإنسان الذي يصطدم دوما وإفرازات الواقع المهيجة لكل جينات الفشل والإخفاق. 

اللجوء إلى ساحرة تقرأ الطالع أو "الواقع" الذي استعصى على الفهم والتفسير؛ تماما مثل تلك الوحمة أو الشامة التي لا تعرف الساردة لوجودها تفسيرا ولكنها تصدق الساحرة فيما تخبرها به عنها

في قصص "أبراج الصمت، "القهر همسا"، "صندوق أسود"، "سائق ومسوق"، "اللون الأحمر"، استخدمت الكاتبة التورية والرمز والإسقاط. فالحاكم في "أبراج الصمت" أصبح العنتيل، وصخرة سيزيف أصبحت جسدا ينبغي أن يوارى، ولكن جنود العنتيل تضن بالقبر كما بخلت بالسكن والمسكن والسكينة. سيزيف كان يحمل صخرته بلا هدف ولا معني صعودا وهبوطا، ولكن هنا أصبح لها هدف حتمي وضرورة لا مناص منها، ولا حيلة للأب فيما لا يستطيع فعله، فجنود العنتيل على إثره يجدون بلا رحمة. وحينما جاءت الرحمة جاءت من قوى لا بشرية، وكأن لا فائدة فيمن صبروا على العنتيل وزينوا له ما يفعل. ضن العنتيل بالقبر، فجاءت الطيور بحواصلها كي يستريح فيها العزيز الراحل الذي لفظه الوطن حيا وميتا. 
أما في "القهر همسا" فبطاقة يخرجها الراكب الذي استولى علي كرسي بطل القصة، تجعل القارئ وعلى الفور ينكمش هو أيضا مثل الكمساري والركاب عندما عرفوا هوية صاحب البطاقة والتي لم تصرح بها الكاتبة لتترك مساحة لمخيلة القارئ كي تعمل، ولربما يسترجع كم الإهانات التي عرفها عن تجربة شخصية، أو عن معرفة من رجال لهم سطوة في المجتمع وسحقوا رجولة الرجال كما تشير في "حبيبتي التي أخشاها". 
وفي "سائق ومسوق" جملة واحدة هي: " .. أوقفنا رجال عتاة بزيهم المعلوم وأحذيتهم الثقيلة السوداء"، تحيل وعلى الفور إلى صور رجال النظام الذين يتفننون في قهر الشعب. 
وفي "صندوق أسود" يحول الإعلام الشعب إلى "طبلة وكورة وزمارة"، والمسرطنات جعلت "الكبد ليفة كبيرة، والأمعاء أصابها الانسداد من جراء الخبز المدعم بالحشرات، والمياه أصابها التلوث بمياه الصرف الصحي. 
وفي قصة  "اللون الأحمر" يرمز للون فريق كرة قدم، يحتفل بعد مباراة احتشدت لها جموع تناست فقرها للحظات وهي مغيبة عن واقعها: "تنسيهم جوعا صارخا وقهرا قاتلا وسياط عذاب..". واستخدمت أيضا اللون الأحمر لترمز به للجيران الذين قتلهم أولاد العم، ولكن بلا تصريح عن هوية الجيران وأولاد العم، تاركة المهمة للقارئ. أيضا استخدمت الكاتبة، تقنية الحلم، وفيه يحقق شخوصها ما عجزوا عن تحقيقه في اليقظة.
في قصة "عيد ميلاد" ترتيبات يوم عيد ميلاد ونظن أنه للمتحدثة أو الساردة البطلة، لنفاجأ في النهاية أنها كانت أمنية لم تتحقق في الواقع، فجاء الحلم ليعكس هذه الأمنية ويحققها؛ فأمنيات المقهورين لا تتحقق إلا في الأحلام وتأتي هي الأخري غير مكتملة، فلا بد أن تمتد يد لتوقظ الحالم، أو رنين هاتف يفزع النائم يذكره بأنه لا حق له في اكتمال شيء ولو كان حلما. "يجيئني صوت أمي إصحي يا أمل ألم تسمعي المنبه... لن تذهبي اليوم إلى الكلية لتساعديني في تنظيف فيلا الهانم .. عيد ميلادها بعد يومين". 
وفي "أنقاض "أمنية الساردة في فارس أحلامها وتهويمات لقائها به تنتهي تحت أنقاض عمارة تنهي أحلام يقظتها كذلك. في "بريق الهوي" تتجلي أحلام اليقظة لتقع الساردة ضحية "أمين" الذي لم يكن أمينا معها، لتكتشف أنه سافر إلى الخليج مع أخرى تزوجها ناكثا وعده بالزواج منها. ومرة أخرى أحلام المقهورين غير قابلة للتحقق، ومارس "أمين" حقه الذكوري في مصاحبة فتاة في الجامعة، ولكنه عندما أراد زواجا تخير أخري. 
ومونولوج "انتظار الفجر" يكشف عن حلم آخر من أحلام اليقظة، تهربا من عالم يجبر الإنسان علي التقوقع والانغلاق على ذاته: "... فأهرب إلى عالم في خيالي أعيد رسمه وتلوينه وتزيينه بحكمة اليوم وعقل الساعة وقواميس العصر..."
وفي "قاتلا أو مقتولا" نجد حلم السفر إلى بلاد الأحلام والفرص يضيع أيضا. "أسيرة أنا في أيدي الغول والعنقاء.."، وغيرها من جمل تصف بها حماتها التي تمثل القوى الاستعمارية الإمبريالية في نظرها، وربما يرجع ذلك إلى البيئة الوطنية التي تربت في أجوائها الكاتبة وأدت إلى أن تغلبها الحماسة أحيانا.
استخدمت الكاتبة أيضا تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك مرات عدة لتلوين الحاضر المأزوم. ففي "المولد" تعود الكاتبة إلى ماض كان له بريق في مواجهة حاضر كالح اللون عديم الطعم. وإن كانت القصة بعنوان المولد فهي لا تشير إلى طقوس المولد كما يبدو، ولكنها تصف الحياة كلها بكل أطايبها وعيوبها وألوان البشر فيها. 

short story
 واقع عصي على التصديق

وفي "حمامة بيضاء" استرجاع لذكريات الساردة مع أمها، وجاء العنوان كرمز لحاجتها للسلام الذي ترمز له الحمامة، والنقاء الذي يحيل إليه اللون الأبيض في مقابل واقع على النقيض تماما من ذلك، فلا أحد يرتق النفس الممزقة، ويجبر كسرها سوى أم راحلة تتجسد حمامة بيضاء تبعث الدفء في قلب الراحلة عنها.
وكان اللجوء إلى الحلول الميتافيزيقية والغيبيات لتفسير إشكالات الواقع، وسيلة لإلقاء التبعية علي الفعل اللاإرادي والقوى الخفية لتبرير العجز عن التعاطي مع المشكلات، أو إيجاد حلول لما تعاني منه بعض شخوص المجموعة. 
في قصة "علامات" نجد اللجوء إلى ساحرة تقرأ الطالع أو "الواقع" الذي استعصى على الفهم والتفسير؛ تماما مثل تلك الوحمة أو الشامة التي لا تعرف الساردة لوجودها تفسيرا ولكنها تصدق الساحرة فيما تخبرها به عنها. 
وفي "أسطورة لحفيدتي" يتحول مشهد الذبح وإراقة الدم إلى طقوس ملازمة للفرح، فالوصية للعريس تكون بذبح قطة، ولكن في هذه القصة تقوم العروس بذبح حمار، الرجل يذبح في القطة علاقته الإنسانية بالمرأة، والمرأة تذبح في الحمار رجلا، فلا بد لأحدهما من قهر الآخر ما دام هناك حاكم يمارس على الجميع القهر والظلم، فليفعل الشعب مثله ويقهرون أنفسهم. "ملئت السجون، جاع الشعب، مات الفقراء تحت الجبال المنهارة، غرق الشباب، التف حول الطاغية سارقو الأراضي والمرابين والقراصنة..."
وهكذا تعدد الكاتبة الفساد في إطار أسطورة تزعم مرور ألف سنة عليها. وإذا ما حاولنا تفسير هذه الأسطورة التي استخدمتها الكاتبة وفقا لوجهات النظر الثلاث التي ذكرها الدكتور إبراهيم حمادة لتفسير الأسطورة في قوله: "من الممكن اعتبار الأسطورة، أصداء لحقائق تاريخية فردية موغلة في القدم، أو رموزا خفية المعاني، وتشير إلى حقائق فلسفية عميقة وثابتة، أو اعتبارها انعكاسات للظواهر الطبيعية التي تقع بصفة دائمة، إما على الصعيد الخارجي، أو الصعيد الباطني والنفسي"، لوجدنا أن أسطورة الكاتبة تحيل إلى واقع عصي على التصديق، ولذلك لجأت إلى أسطرة هذا الواقع وتحويله إلى حكاية كي تهرب من مقص الرقيب. 
استخدمت الكاتبة التهكم والسخرية لقلب الواقع ففي "أنا وداروين" تأتي خلاصة الحكمة على لسان سيدة في مصحة للعلاج النفساني: "القرد أصله إنسان وسخط قردا لأنه لا يستحق إنسانيته". وتقول الساردة: "لقد سخطنا قرودا عندما خفنا من عصا القرداتي وقمنا بعجين الفلاحة ونوم العازب" لتؤكد على إنه لولا تواطؤ المظلومين مع الظالم بالصمت وكتم الأنين، ما ألفوا القهر والاستعباد ليخسروا بالتالي شرف الانتماء لبني الإنسان فأصبحوا قرودا تفعل ما يمليه عليها المهرج أو القرداتي فقط بلا إرادة أو اختيار منها. 
وهكذا في "الخليفة المنتظر" إسقاط تهكمي على تعديل نظم ودساتير لتناسب الخليفة المنتظر. وفي "فريدة" قصة المشرفة التي تتجاوز محنتها بالضحك والسخرية منها كطريقة وحيدة للتعاطي مع الواقع المشكل الذي جعلها تقع ضحية قهر خطيبها الذي ثار من أجل قطعة ذهب من الممكن تعويضها، ولم يشعر بقيمة أم  لا يمكن تعويضها عندما باعت فريدة "الشبكة" لعلاج أمها. 
كثير من القضايا تدور حولها مجموعة "أحلام الأفق الغائم" للكاتبة سهير شكري، ومن أغربها تلك القائمة على التربح من معطيات الواقع المادي، يتعهر فيه الرجل من أجل سفر، ليدور في آلة الحرب ضد بني وطنه في قصتي "ذكر النحل، و"قاتلا أو مقتولا".