وفاء بغدادي تعلن أن "الموتى لا يرتدون الأحذية"

الرواية كما صنفتها بغدادي تندرج ضمن أدب السيرة الذاتية، وهو ما يعد من الأمور غير الهينة في مجتمعاتنا العربية، خاصة عندما تكون صاحبة السيرة امرأة.
الكرسي المتحرك يقدم نفسه في البداية معلنا عن نفسه ومنبها بأنه سيكون السارد للرواية
لجوء وفاء بغدادي للكرسي المتحرك يأتي موجها لطمة إلى  تلك الوجوه البلاستيكة التي صادفتها في رحلة المعاناة

"الموتى لا يرتدون الأحذية" هي الرواية الأولى للشاعرة السكندرية وفاء بغدادي، بعد خمسة  دواوين شعرية. الرواية كما صنفتها بغدادي تندرج ضمن أدب السيرة الذاتية، وهو ما يعد من الأمور غير الهينة في مجتمعاتنا العربية، خاصة عندما تكون صاحبة السيرة امرأة، فالكاتبة حين تكتب سيرتها تدرك تماما أن هناك من يقرأ لا ليتعرف على تجربتها، بل يقرأ بعين المتلصص الذي يبحث عما هو وراء المكتوب عن أسرار حياتها وخاصة المتعلقة بالرجل، كما حدث مع أحلام مستغانمي عندما تجاوز كثيرون جمال اللغة وذكريات ثورة التحرير، لينصرف اهتمامهم إلى معرفة هوية هذا الذي عبر السرير. 
ولم تسلم كذلك مذكرات فدوى طوقان "رحلة جبلية رحلة صعبة" من النقد تلصصا، بسبب تجاوزها لدور الرجل في حياتها وتركيزها على رحلتها الحياتية الصعبة نفسها، بينما جاء النقد لمذكرات نوال السعداوي "مذكرات طبيبة" على النقيض تماما؛ فقد جاء بسبب حديثها الصريح والجريء عن علاقاتها مع الرجل!  
كتبت بغدادي عن معاناتها مع المرض، مثل كاتبات أخريات كتبن أيضا شيئا من سيرة حياتهن المتعلقة بمعاناة المرض والحياة. فالمغربية  مليكة مستظرف كتبت عن عذاباتها مع مرض القصور الكلوي الذي أدى إلى هشاشة العظام وعجزها عن الحركة، وكتبت نعمات البحيري عن معاناة العلاج الكيميائي وفقدها لرمز من رموز أنوثتها قبل أن ينتقل السرطان إلى المخ. بينما كتبت مليكة أوفقير ثلاث روايات عن تجربة السجن ظلما. 

الساردة صاحبة الكرسي بقيت في نظر كرسيها المعدني بيضاء القلب لم تعلق بها أدران الحياة وأطماعها مما يجعلها في صفوف الملائكة الخالدين، لا الموتى الذين لا يحبون ارتداء الأحذية

ولكن الملاحظ أن مستظرف، البحيري، أوفقير، كتبن عن معاناتهن بصورة مباشرة وإن تراوح أسلوب السرد بين المجاز والواقعي. أما في "الموتى لا يرتدون الأحذية" تكتب وفاء بغدادي شيئا من سيرتها الذاتية ومعاناتها أيضا، لكنها آثرت أن يأتي الحديث ليس على لسانها كساردة، بل على لسان "كرسي متحرك" من معدن، يحسبه الناظر إليه جامدا بينما قلبه يمور حنانا على صاحبته التي نفخت فيه من روح الأمل لينطق ويتحدث نيابة عنها. 
ينطق الكرسي المتحرك ليقدم نفسه في البداية معلنا عن نفسه ومنبها بأنه سيكون السارد للرواية، ثم يقص حكاياه مع أربع عشرة يد تناوبت عليه دفعا ولمسا، ثم في النهاية مع اليد الأخيرة بعد أن فارقته صاحبة الكرسي وعن قلقه على مصيره بعدها. 
لجوء وفاء بغدادي للكرسي المتحرك، وإن كان قد استند إلى تكنيك أنسنة الجماد، فإنه من ناحية أخرى يأتي موجها لطمة إلى  تلك الوجوه البلاستيكة التي صادفتها في رحلة المعاناة في أروقة معمل التحاليل، وعندما تركها الزملاء تحت المطر في ساحة معرض الكتاب وقد نسوا وعدهم بتفقدها كل ربع ساعة. كذلك، ربما، يأتي الحديث عن المعاناة على لسان الكرسي، كحيلة فنية تحمل عنها مظنة الاعتراض على مشيئة الله التي سلمت بها ووضعتها في بداية الفصل الأول "اليد الأولى" (كريمة إيد ربنا على قد البلا...على قد الصبر)، ذلك التسليم الذي تجلّى أيضا في تعلقها بنبي الله أيوب الذي يمنحها فكرة الرضا والتسليم بالقضاء. 
ثم تسير الرواية، ويتدفق السرد في لغة شاعرية بها الكثير من الرمز على لسان الكرسي المتحرك ليحكي قصته وقصة صاحبته مع كل يد أضافت مفردة من مفردات الألم والمعاناة، أو رسمت بسمة عابرة على شفاه صاحبته مثلما فعل الأطفال "سلمى وهمس وهاجر". 
يحكي الكرسي كيف يتنكر المجتمع لمن يشذ عن التكوين الجسدي المألوف، ويعاقبه على ذلك بتجاهل احتياجاته، بل يريد أن يحمله ذنب هذا الاختلاف القدري الذي لا حيلة له فيه. والذي أسهم، على الجانب الآخر، في إكساب  صاحبة الكرسي المتحرك ما يعوضها، بل وما يميزها عن غيرها، من صلابة روحية، وربما جسدية أيضا، حيث لا بد لها من ذراعين قويتين تتشبث بهما في إفريز السلم صعودا ونزولا، وكي تنجو بنفسها وقت الزلزال، أو ترفع نفسها دون أن تنتظر من يبسط لها كفا باردا تتكئ عليها. وفى سرد أسيان يحكى الكرسي عن الأحلام، حيث لا مجال لأن تحلم صاحبته وترى نفسها بساقين منتصبتين، تماما مثلما لم تتخيل نفسها ترتدي حذاء أنيقا أو ثوب زفاف، أو أما تنجب طفلا تسلمه لحياة علمت قدر قسوتها. يحكي أيضا عن رحلة المعاناة مع درجات سلم البيت المائة وتسعة (109) وحال صاحبته حين تصعد مستندة على اليدين وما تبقى من قوة في الساقين لتزحف حاملة كامل الجسد على كفين يتعثران بالبصقات ومخلفات القطط. 

Biography
تأبى روحها التعرض لمذلة السؤال

 ويتحدث الكرسي عن معاناة الصعود والنزول من على الرصيف المرتفع، ومع درجات السلم في كل مكان، ومع الدخول إلى الحمام في الغرفة المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة في بيت الشباب، والتي تضطر فيها إلى الزحف دخولا وخروجا، ارتفاعا عن إحساس بالعجز يحثها على طلب المساعدة من أحدهم. تأبى روحها التعرض لمذلة السؤال من أناس قد يبتسمون بشفقة تؤذيها أكثر من جروح الجهاز التعويضي الذي يضغط على ساقيها، وقد يتهربون. مع كل يد يحكي الكرسي كيف كان على صاحبته أن تتعامل مع أشياء لا تعترف بوجود إنسان يحمل عبء كل حركة، ويحسب لها ألف حساب قبل أن يفكر بها، ثم لا يستطيع أداءها بأطرافه التي تعصاه منذ الصغر وتأبى تلقى الأوامر منه.
عنونت وفاء بغدادي روايتها "الموتى لا يرتدون الأحذية" وهذا ليس بأمر يدعو إلى الشفقة أو الرثاء. فالموتى لا يرتدون شيئا على الإطلاق. لأن الأحذية يعلق بها ما في الأرض من دنس، ولا يرتدون الملابس أيضا، فقد كانت شاهدا على كل الخطايا التي فعلها أصحابها، ولذلك كان العرب في الجاهلية يطوفون حول الكعبة عرايا خجلا من ملابس شهدت خطاياهم. وهكذا بقيت الساردة صاحبة الكرسي في نظر كرسيها المعدني بيضاء القلب لم تعلق بها أدران الحياة وأطماعها مما يجعلها في صفوف الملائكة الخالدين، لا الموتى الذين لا يحبون ارتداء الأحذية.