"الأسايطة" قراءة الحاضر من خلال معطيات التاريخ

رواية عادل سعد تجيء في وعاء معلوماتي معرفي يجعل ذهن القاريء في عملية مقارنة ومقاربة مستمرة لما هو موجود في الرواية، وما هو مخزون في الذاكرة من أحداث صارت من التاريخ.
الرواية بالنسبة لنا الآن، كلها زمن ماض، بحاضرها وماضيها
الكتّاب يذهبون إلى المعركة بعد نهايتها ويخترعون لهم وجوداً هناك

تجيء رواية "الأسايطة" للصحافي والروائي عادل سعد في وعاء معلوماتي معرفي يجعل ذهن القاريء في عملية مقارنة ومقاربة مستمرة لما هو موجود في الرواية، وما هو مخزون في الذاكرة من أحداث صارت من التاريخ. وفيما يخص التاريخ، فقد فعل عادل سعد به كما قال الكاتب الفرنسي ستاندال وهو يعلق على وصفه الدقيق للأماكن التي دارت بها معركة "واترلو"، في روايته "صومعة بارما": الكتّاب يذهبون إلى المعركة بعد نهايتها ويخترعون لهم وجوداً هناك". 
وبالفعل، ذهب عادل سعد إلى قلب التاريخ، وحجز لنفسه مكانا بين المنسيين الذين لم يحفل بهم كتبة التاريخ. ولكن، هل "الأسايطة" رواية تاريخية؟ "الأسايطة" رواية تأريخية تؤرخ لما جرى من تحولات في مكان معين وهو أسيوط من خلال الشخوص/ الأفراد الذين يذهبون ويبقى المكان. فالرواية بلا أبطال أو شخصيات رئيسية يتعلق بسيرتها السرد، وهي مقسمة إلى ثلاثة كتب، هي "عبيد درب الأربعين"، و"خالتي بطة الحشاشة"، و"صلاة العقارب"، والأحداث مقسمة على الشخوص ومجموع حكاياتها هو تاريخ الأرض.
 وهذا يقودنا إلى سؤال جوهري: ما الذي جعل عادل سعد يعود إلى التاريخ؟ ولماذا أسيوط؟ ومع القراءة نعرف أنه يقرأ الحاضر والمستقبل المترتب عليه في ضوء الماضي وأحداثه التي تمخض عنها هذا الواقع المتردي والمتشظي الذي نعيشه، وأسيوط ما هي إلا الجزء الذي أراد به الكل (مصر). وكما قيل عن أسيوط "إنها تقع في منطقة ضيق الوادي٬ حيث تضيق الأرزاق والأخلاق مما جعلها منطقة عنيفة"، وهي الصفات نفسها التي سبقت أحداث ثورة 25 يناير. فلولا المشهد الأول في الرواية، وهو مشهد مراقبة المقهورين للعمدة وهو يقهر واحدا منهم، ثم مشاركتهم إياه التنكيل به بشرائهم لحم بهيمته بثمن بخس، ثم وقوفهم يتفرجون على مشهد ذبح العمدة نفسه بأمر من زوج بنت محمد علي. لو لم يفعلوا ذلك، لو وقفوا وقفة واحدة ضد ظلم العمدة لواحد منهم، لما توالت سلسلة القهر والاستعباد التي توالت حتى أخر مشهد في الرواية، أي أن المشهد الأول كان تمهيدا أو تبريرا لحتمية قيام ثورة، ليتحقق تماما ما جاء في مقدمة رواية "البؤساء" للكاتب الفرنسي فكتور هوجو؛ "تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفا اجتماعيا هو نوع من جحيم بشري". 

الكاتب لاعب شطرنج قام بتحريك القطع إلى الخلف والى الأمام لتتحدث بصوت التاريخ ثم يمسك ببيدق الشهيد يستغله في حركات رأسية وأفقية كي يتيح للقارىء سماع صوت الزمن الماضي الذي أوصلنا للنقطة التي توقفت عندها الرواية

ولكن، هل "الأسايطة" عمل أدبي تاريخي كتبه روائي، أم  كتاب تاريخ يسرد أحداث الماضي كتبه مؤرخ؟ وكي نضبط المصطلحات، فالماضي بالنسبة لنا نحن القراء يبدأ من التاريخ الذي بدأت به الرواية 1807 وينتهي في 22 يناير/كانون الثاني 2011 كما في مذكرات الشهيد الموجودة في الفلاشة، وهناك حاضر خاص بالكاتب في تقديمه للرواية 2012 مارس/آذار، والرواية بالنسبة لنا الآن، كلها زمن ماض، بحاضرها وماضيها. والرواية إن كان يغلب عليها الطابع المعلوماتي، وأحيانا التوثيقي، فهذه روح الكاتب التي تكتب، فالروائي ليس مؤرخا، إنما يقدم قراءة لهذا التاريخ بأسلوب فيه بعض التخييل، أو استخدام بعض تقنيات السرد مثل الخطابات أو الوثائق والمخطوطات كما فعل إمبرتو إيكو في روايته "على اسم الوردة"، ويوسف زيدان في"عزازيل". 
أما في "الأسايطة" يقوم بناء الرواية على ما زعمه الكاتب من العثور على فلاشة: «إنها رواية لم تكتمل أو مشروع رواية، لشهيد يُدعى صادق أبوحامد، أحد المشاركين فى أحداث ثورة يناير 2011، عثر عليه زملاؤه بعد أن اغتالته رصاصة كانت تقصده تحديدًا، وفقد الحياة. ترك الشهيد سلسلة مفاتيح فى حلقتها فلاشة وداخلها أوراق عن مدينة أسيوط».  
إذن من هنا ينبهنا الكاتب إلى أن لا دخل له فيما سيأتي لا حقا وأنه غير مسئول عن أي شيء وما هو إلا وسيط. ورغم أن عنوان الرواية "الأسايطة" يشير إلى البشر، إلا أنها معنية بالمكان، فالمكان لا قيمة له بدون البشر، البشر يصنعون تاريخ المكان، لكنهم يتبدلون ويتغيرون، ويبقى المكان ثابتا شاهدا على تحولاتهم. ورغم ذلك، قد يفرض المكان نفسه وطبيعته على البشر، فالبشر المنتمون إلى الصحراء يختلفون عن ساكني المروج الخضراء والحدائق. ولذلك كان من الدقة بمكان، عنونة الرواية منسوبة إلى الفاعل، لا المكان أو ظرف المكان، لأن المكان ينطق بلسان قاطنيه. 
 وإن كانت "الأسايطة" رواية ذات ثلاث سمات: التأريخ، والتوثيق، والتخييل السردي، فالقارئ لها من الممكن أن نصنفه على نوعين: الصنف الأول وهو القارئ الذي لا يعلم عن تاريخ المكان وتحولات البشر الفعلية فيه، وهي القراءة الأكثر سلاسة لأنه لن يبذل جهدا كبيرا في مراجعة معلوماته والبحث عن كامل المعلومة خارج حدود الرواية، ولن يكون مشغولا بمعرفة موقف الكاتب من الأحداث وكيف تناول الأحداث التاريخية من منظور التخييل السردي.  

Literary criticism
يمكننا أن نقاربها برواية الأصوات

والصنف الثاني، وهو القارئ الملم بأحداث التاريخ، ويعرف كيف كانت أسيوط بؤرة لنشر العنف في وقت ما، خاصة مع طلبة جامعة أسيوط، عندما تأثروا بأفكار الجماعة الإسلامية، ليحكم على الرواية بأنها "تاريخية" ثم يبدأ في التدقيق في كل معلومة ويقارنها بما لديه، ومنبهرا بالجديد الذي يفاجأ به، مثل القصة الحقيقية لصعود جمال عبدالناصر، وتبديل اسمه قبل دخول "الحربية"، وأن الشاعر "عزيز أباظة" كان مديرا لمديرية أسيوط٬ وأن في عهده تم إلقاء القبض على "خط الصعيد" لأنه كان من قبل مدير مديرية الشرقية، وتم في عهده القبض على أدهم الشرقاوي. ومن الممكن قراءة الرواية على مستويين: مستوى المكان وهو أسيوط، ومستوى الزمان وهو مستوى الماضي، ماضي الشخصيات، ومن خلال التعرف على قصص الشخصيات ترصد الرواية ليس ما جرى لأسيوط فقط، ولكن للوطن بأكمله. والشخوص في الرواية تبدو وكأنها مهمشة، ودورها هامشي ولكن بالتدريج نكتشف أن الأحداث التي نعدها بسيطة تتداخل مع الأحداث الكبرى بعد ذلك ولا سيما الجزء المرتبط بوصف كيف ينخرط الناس في أعمال العنف بالتدريج إلى أن يصلوا الى أقصى مراحل التطرف. 
الرواية، مجموعة من القصص تتطور وتتفرع، أي أن الرواية مثل شجرة تتطور بالتفريع وليس بالتسلسل، والحكاية أو القصة موزعة على الأشخاص، مما يمكننا أن نقاربها برواية الأصوات، ولكن هنا الصوت لا يكرر الحدث نفسه، ولكنه يكمل جزءا منه حتى يكتمل لدينا الحدث أو القصة. 
وفي "الأسايطة" يحرك عادل سعد شخوص الرواية/ شخوص الحياة مثل الدمى، فهو يمسك بخيوط اللعبة التي أجاد لعبها منذ البداية، وفي الوقت نفسه يعمل جاهدا كي يخفي خيوط التحريك التي يسيطر بها على حركات الدمى أو الشخوص، فهو بدأ الرواية بالتنصل مما سيأتي بها فالرواية هي ما جاء في فلاشة الشهيد، ثم أدخل الشهيد كصوت من الأصوات التي تتشكل الأحداث من خلالها ليربط بين الماضي والحاضر من خلال سرده لتاريخ عائلته. وكي يبرر جانب التأريخ أو التوثيق الذي يقوم عليه معمار الرواية فقد تخير للشهيد مهنة تتيح له الدخول الى السجون وسماع الشهادات والتواجد على مسرح الأحداث والاهتمام بما وجده في الصندوق الخشبي القديم. وجعل من أصدقائه في الرواية هواة للشطرنج مسترجعا كونه كان رئيس الاتحاد المصري للشطرنج. وهذا يجعلنا نقول أنه ليس بمحرك للدمى فقط، ولكنه لاعب شطرنج قام بتحريك القطع إلى الخلف والى الأمام لتتحدث بصوت التاريخ ثم يمسك ببيدق الشهيد يستغله في حركات رأسية وأفقية كي يتيح للقارىء سماع صوت الزمن الماضي الذي أوصلنا للنقطة التي توقفت عندها الرواية.