أحمد زكي ينهض على سبيل توكيد الذات
نحتاج دوماً إلى دوافع عدة حين نقرر قراءة تجربة فنان ما، فلا بد من توفر دوافع عملية للقيام بهذا الفعل، فعل القراءة، بحيث إذا تناولناها وجدنا المتعة والفائدة والجمال، أو دفع الشر والشبهة بعيداً على أقل تقدير، وبمقتضى الحال أن يكون هناك مجاهدات في تحصيل المعارف الفنية، وأن يكون هناك مكاشفات توضح كيفية الوصول إلى مخازنها بصفات العشق والحب مثلاً، والتطرق إلى منازلها، وهذه من المعارف الفضلى للذات وأجلها وأكملها.
نعم نحتاج إلى دوافع تبرر قراءتنا إن كانت في مخاطبات رمزية في وجع الدنيا وأهلها، أو في التطرق لوصايا الحكماء وهدفها، فالغاية هنا جمالية تحيي القلب وتنفخ في الروح، وتقرب الذات من فطرتها السليمة حيث تزداد شوقاً إلى المعارف الحقة، والدوافع هنا عند مقاربتنا لأعمال أحمد زكي (القامشلي - 1977) كثيرة ليست أولها تلك الثيمة التي يشتغل عليها وأقصد ثيمة لقاطات الغسيل، ولا آخرها تخليه عن الأحكام الوهمية في تهذيب الباطن أو الظاهر، فمبدأه يكمن في عشق الفن الكامن في الطبيعة والألوان والإنسان، ويرفض القيام بكسر كل ما يناقض ذلك، فأحمد زكي معني بأدوات هي ليست شطحات الإنسان ولا نهاية أمور تسير من محطة إلى أخرى، بل هي أدوات ناطقة بكلام كثير هي مداخل ومخارج لقطاته التي تجمع من عدة جهات مختلفة في المكان نفسه نحو الوحدة الحقة، الوحدة التي تركض من لقطة لأخرى دون استنباط الدرب الذي تسلكه بين لقطتين، وبناء على ذلك فإن اهتمامه لا يتمفصل على العالم الحسي الخيميائي فحسب، بل على ما ينجم عن مستوى ذلك التعبير الذي يحرض أشكاله للمصالحة مع مضامينها الموضوعية والتصويرية، ومن هذا المنظور المغاير يتطلع زكي إلى أفق جديد مغاير، أفق يبدأ من حيث انتهى الآخر.
أعود إلى ثيمة لقاطات الغسيل التي يستخدمها أحمد زكي وهو يدخل عوالم اللون، وهي ثيمة غنية الحركات يحييها زكي ويبعث الروح والمعنى فيها، يحرر مشهديته بها، تلك المشهدية التي تهيمن عليها نوعاً من الوعي والأحلام، فيعمل على تحريرها من تلك الهيمنة، ومن ذلك الإختزال الذي تعيش فيه كمدلول ضيق يرفض المغايرة، ساعياً إلى النهوض بمحاولاته التي سيدخل بها عالم السرد اللوني بإشاراته المتكئة على ثيمته تلك التي أشرنا إليها وأقصد هنا لقاطات الغسيل، فهو ينهض على سبيل توكيد الذات بوصفها وداعية، تغريبية في بعض حالاتها، وكاشفة وتفسيرية في بعضها الآخر.
وما تلك المشهدية إلا ثمرة هذا التمازج بين تلك الحالات التي قام بها زكي ويقترنها بالحراك الذي سيعصف بالحدود الفاصلة بينها، ونتيجة لهذا التمازج التي تولاه زكي يؤكد إرتباطه بالتنوع الذي يبحث فيه، وبالعالم الجديد بمكوناته وعلاقاته وقيمه، العالم الذي يعبر عنه كوليد جديد في طريقه إلى اللاأفول، موضحاً آلياتها وتنوعها وترتيبها، وكذلك مبررات قبولها مبتدئاً بالإتجاهات الجوانية، نطاقها وقواعدها ودراساتها، منتقلاً إلى إتجاهاتها الإستراتيجية، متناولاً ماهية البحث فيها ودورها في تحديد نطاقها والخطوات التي ستمثل جانباً مهماً ولصيقاً ببحثه ذاك دون أن يؤدي ذلك إلى تجاهله لسمات عمليات التجريب لديه ولا للخصائص المعرفية التي سترسخ مبادراته، وقد يتوصل من خلالها إلى أفكار إبداعية جديدة في إطار ما من الجدل.
وما يجدر الاهتمام به هنا هو سعيه في هذا الإتجاه من الحالات التي تتطلب ما هو أقرب إلى الفعل وبكثير من الجهد، هو سعيه للوقوف عند نقاط مهمة قد تعترض حقله الجمالي ما لم يفتح نوافذ أفقه على مصاريعها، فالإنغلاق عائق كبير ومميت، ولهذا لا بد من الفتح المبين، وهذا ما سيستثمره في خلق عالم جديد يتجاوز به سابقه، ويتفوق عليه حتى يغدو مفجراً إبداعياً في غير قليل من الحالات التي يشتغل عليها، فأحمد زكي إلتقط بذكاء حاد ثيمة هي خزينة كنوز، لكنه لم يستثمرها بعد، لم يستثمرها تماماً بالشكل المطلوب، لم يتعرف على تفاصيلها كلها بعد، فهي مازالت تنتظره كعاشقة تنتظر حبيبها، حبيبها الذي جرفه البحث والتجريب إلى ضفاف أخرى.
ومن المفيد أن نشير بأن التنوع مهم، ولكن من المهم أيضاً أن تدرك بأن الكنز الذي وضعت يدك عليه، أن تشتغل به وعليه، وتشبعه بروحك وأحاسيسك، ليمنحك ما تشاء، ويشبع روحك وبحثك وحبك بكل جزيئاتها، لا ترم كنزك بعيداً، وتذهب إلى البحث عن كنوز أخرى، متعة البحث كبيرة، ولكن متعة الكشف والإستثمار أيضاً كبيرة وجميلة، لا تدر ظهرك ما وجدته، اشتغل عليه ما حييت، اذهب بعيداً قليلاً، وغص أينما تشاء والتقط ما تجده في طريقك، ولكن لا تفرط ما بين يديك، الحب وحده لا يكفي، الاهتمام والإشتغال به أهم، وهذا ما سيفجر الينابيع التي تبحث عنها وتحب أن تستحم بها، وما محاولاته في تحديد السبل والآليات المناسبة لهذا اللون من البحث إلا خطوات للسير نحو نمطيته وتحديد مقياسه، والجدوى الدائر حول خصائصه، فهو يطرح المسألة بموهبة عالية والقدرة على اكتشافها، والوقوف على ماهيتها ومرتكزاتها، مدركاً أن أي خلل في هذه الماهية وهذه المرتكزات سيؤدي إلى تشويهها حتماً، وهو يقظ لذلك ولجدوى بحثه والحرص عليه، وعلى مدى تجديده وهنا يكمن سر نجاحه.
درس أحمد زكي معهد إعداد المدرسين / قسم التربية الفنية في الحسكة وتخرج منها عام 1997، ليعمل مدرساً لمادة التربية الفنية في معهد اعداد المدرسين، ومعهد الفنون النسوية في القامشلي، قدم معارض فنية فردية ومشتركة في كل من الحسكة والقامشلي، هاجر إلى المانيا في عام 2014 ومازال مقيماً فيها.